الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصورة التلفزيونية وفصام الواقع

سمر يزبك

2005 / 4 / 15
الادب والفن


تشكل الصورة التلفزيونية بُعداً نفسياً كامناً في لاشعور المتلقي، باعتبارها تفصيلاً حياتياً يومياً، ولأنها تنحو بذائقته البصرية والحسية نحو فصام معيشي بين ما تراه العين، ويُقدّم على أنه واقعي، وما يعيشه المتلقي كواقع حقيقي بعيد بهذا القدر أو ذاك عن الصورة الموجهة إليه. يحدث هذا بصفة خاصة في المجتمعات التي تعيش في الأساس حالاً من الفصام بين ما هي عليه في الواقع، وما تريد مؤسساتها الرسمية أن تظهره للعيان. وفي هذا يقول الفرنسي ايناسيو رامونيه، رئيس تحرير شهرية «لوموند ديبلوماتيك»: «باستيلائه على قمة الهرم الإعلامي، يفرض التلفزيون على بقية وسائل الاعلام ضلالاته وانحرافاته».
فهو المؤثر الأخطر من غيره، الجاعل من مجال البحث في الصورة التي يقدمها أمراً غير قابل للنقاش، سواء بأهميته أو بانعدام أهميته. لكنّ غالبية المنظرين للثقافة الشعبية في مجتمعاتنا العربية تنظر إلى التلفزيون باستهزاء، غافلة عن حقيقة أن الزمان تغيّر، وأن الأوان مواتٍ لتقديم رؤية مختلفة عن الواقع الذي كنا نعيشه، رؤية تتناسب مع تغييرات آلية الثقافة، والتلقي والمتلقي. وربما لو أخُذت هذه الأمور في الاعتبار، لكانت هناك ورشات بحث وشغل حقيقية، تهتم بآلية واهداف البرامج والصور المعروضة على شاشة التلفزيون.
وربما لو كان هناك اهتمام فعلي بذائقة المتلقي وعقله، لاختلفت الأمور. إذْ حتى على افتراض أن التلفزيون والفضائيات هي في الأساس صنيع شركات تجارية كبرى، فإنه يتبقى دائماً مقدار الحد الأدنى من تحقيق المعادلة بين قانوني العرض والطلب، وتقديم ما هو مفيد وممتع. ولكن بالأخص: تقديم ما هو حياتي.
و«الحياتي» هو ما يعيشه الانسان، في بيته، في الشارع، في مشاهداته، في ما يعانيه، في ما يجعله أكثر بؤساً أو اكثر فرحاً، وفي ما يستطيع لمسه بيدين من لحم ودم، ويلحظه بعينيه... هذا الحياتي تحديداً هو الذي تبتعد عنه الصورة التلفزيونية، أو تلوّنه كيفما اتفق لصانعي العمل ان يوجهوا، وبحسب أغراض شتى تحرّك خياراتهم بصدد الموضوع والشكل والأسلوب. والدراما الاجتماعية، التي تُعدّ المجال الأكثر شهرة وخصوبة لمقاربة الواقع المعيشي للمشاهد، تنأى عن هذا الحياتي، وتقدّم بالتالي صورة مزيفة لواقع المشاهد. فغالبية المسلسلات ــ وليس كلّها للإنصاف ــ التي عرضت أخيراً وتابعها المشاهد العربي، اعتمدت في الأساس على تلوين الصورة.
فالمعاناة تتحول الى تهريج، والفقر يتحول الى لطخة زيت على قميص، وقلق امرأة يتحول الى استعراض لملابسها، والبيوت تتحول الى فيلات أنيقة، وكل الممثلين يملكون هواتف نقالة، ويدخلون مطاعم فاخرة، ولا بأس في قليل من بهارات الـ«أكشن» الضرورية لكي تجعل عقل المشاهد أسير اللهاث وراء الأحداث... فهل من المعقول أن الصورة التلفزيونية المنمقة، الأنيقة بالغة البذخ، ببطلاتها الجميلات اللواتي يتفنن في عرض الأزياء والسيارات الفارهة، صارت الطاغي رقم واحد على الصورة التلفزيونية؟
إن المتلقي العربي، الجالس وراء شاشة صغيرة، والذي بالكاد يؤمن لقمة عيشه، ويعيش ظروفاً من القهر وعدم القدرة على التعبير عن نفسه، والذي يشعر أن العالم في وادٍ وتفاصيل حياته في واد.، هذا المتلقي سينبهر بالضرورةً بهذه الصورة. الأدهى أنه سيشعر بالاستلاب إزاءها، وسينقلب إلى متابع متلهف مواظب، راكض في أحلام يقظته، بين ردهات القصور، وأحضان النساء الجميلات! لكنه، وما إن يفتح عينيه على الحقيقة، سرعان ما سيكتشف أن هذه الصورة المصطنعة المصنّعة لا تمثّل له شيئاً حياتياً، ولا تخصه في أي جانب. ليس هذا فحسب، الأرجح أنه سيدرك أن ما تقدمه الشاشة ليس سوى ضرب من الخيال، يتقصّد الهزء به في نهاية المطاف. وهذا شعور جذري وجوهري سيجعل المشاهد أسير حال فصام تتشكل شيئاً فشيئاً في وعيه. وهو فصام قد يظهر أكثر ما يظهر عند النساء، اللواتي سيقلدن صورة المرأة «السوبر»، هذه التي تتحول الى حلم ومادّة استيهام في مخيلة الرجال أيضاً. ولعلّنا نلحظ الظاهرة ذاتها لدى الفتيات اللواتي يقلدن الممثلات والمغنيات، حتى في تغيير وجوههن.
ليس هنا المقام للخوض في الأسباب التي تجعل المنتجين يركضون وراء أعمال فنية كهذه، لأن معظم تقاليد الاستثمار في بلداننا لم تكن يوماً معنية بالمجتمعات العريضة قدرَ عنايتها بمصالح بعض الأفراد المتنفذين والمالكين لقطبي السلطة والمال. وهكذا فإن المؤسسات الفنية وكبرى الفضائيات العربية، على رغم ما أدخلته من تطور في علاقة المجتمع بالصورة، تعنى بتنمية ذائقة الربح السريع، وتسعى نحو الترويج أكثر من اهتمامها بتحقيق طرفي المعادلة الأكثر توازناً، أي الربح من جهة والفائدة والمتعة من جهة أخرى.
وبذلك فإنّ سيل الاسئلة يظلّ متدفقاً: إذا بقي الوضع على حاله، هل يضمن هؤلاء المنتجون مجالاً استثمارياً لربحهم في انتاج المسلسلات شبه المكسكية هذه؟ ألن تكسد سوق انتاجهم؟ وهل ستبقى ما سموها «فورة الإنتاج الدرامي» على حالها، إذا لم يتحلوا بمقدار من الذكاء يدفعهم إلى تقديم ما هو حقيقي، ومعاش، ومتعلق بالناس، بما يجعل الناس أكثر تواصلاً مع الشاشة؟ ألا يفكرون أن الأجيال القادمة ستلقي ببصرها إلى المستقبل، أكثر بكثير من الإلتفات إلى الماضي وشكلياته الآخذة بالزوال؟
إن أرادوا الربح، فعليهم الإنتباه جيداً: الأرجح أن سنوات قليلة تفصلهم عن بطلان مفعول هذا الانتاج التلفيقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق