الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


1979

فيحاء السامرائي

2013 / 4 / 20
الادب والفن


1979

بفرح جاهز يحلّ مرة كل عام، يطلبون منه إطفاء شموع ترصّها على سطح كعكة مزينة بقشدة وألوان، يتردد قليلاً بعدما كان يفعلها صاغراً منذ زمن...يوم مجيئه للحياة ودخوله الدار، يدخل معه حزن ملفوف بكفن ودموع، تسبقه جثة عمّ كان نزيل دائرة أمن...وهوطفل يملأ البيت بصراخهجلباً للانتباه، لم تتطلع اليه بفرح عيون خال فرّ الى مكان مجهول، ولم تفرح به جدّة تحتضن بدله بيجاما لغائب، تنذر نفسها في انتظار عودته...ويوم مرور عام على ولادته، ينفخ والده بعجالة شمعته الاولى، مرتدياً ملابس عسكرية وبسطالاً ثقيلاً، حاملاً حقيبة سفر، تنتظره سيارة قرب باب الدار، وتأخذه الى جبهات قتال نشب للتو، يطول أمده ويحول دون حضور والده لثلاث سنين متتالية الى مراسيم إطفاء الشموع وتناول كعكة مزينة بالقشدة والألوان، رغم أنه كان متهياً لإسماعه نشيد عن بط يسبح في الشط وغزالة غزّلوها ثم دعبلوها بالماء...في السنة التالية، تمرّ ذكرى يوم ولادته بصمت، احتراماً لجار استشهد في الحرب... ويحزن، حينما لم يحضر جاره وزميله في المدرسة، عيد ميلاده التالي...ما معنى مهجّر؟ ولماذا يحل في دار صديقه رجال غلاط تخيفه سحنات قاسية لهم؟ لايدري...يعتاد على لون أسود يمتد في الدار وحوله، وصمت يغلّف عمّة حزينة، تأتي لتسكن معهم، كما ويألف أغان لقائد يحثّ بشبق أتباعه للمضي الى كل ماهو عكس الحياة، وصورته على الجدار، لا يدري أيضاً لماذا لا تتعاطف نظرات والدته معها، بل وتغرق في بكاء أسود وثوب أسود وقلق أسود خوفاً عليه، ثم تعود وتعلق صورة أخرى بشريط أسود، لوالد يشتاق اليه، ويجتهد في نطق اسمه أمام المرآة كل يوم :

" بابا، بابا، حصلت على المرتبة الاولى، أحتاج الى توقيع ولي الأمر على شهادتي المدرسية، أقتنع لو تأتي فقط وتحملني على كتفك وتلف بي كما كنت تفعل في إجازاتك القليلة، حسنا تعال واطفأ معي شمعات تكاثرت فوق كعكة عيد ميلادي...لو تعلم، حتى زغب شوارب نبت لي لم يكن يحمني من خوفي وسقوط قلبي هلعاً من أصوات مرعبة لطيارات وعصف صواريخ، هي الحرب مرة أخرى يا أبي"

تصمّ أمه أذنيه من قصف وقنابل، وتحتضنه كي يهدأ رغم أنه أصبح شاباً في مطلع عشريناته، تهرم أمه ولا تترك مكانها قبالة ماكنة خياطة مستهلكة، تجلب اليه من شغلها، ثمن كعكة معمولة من دبس وطحين متعفن، تضع عليها شمعات لا تشتعل وهي تقول مازحة: " شغل حصار"...كلمة تصير مألوفة، تبرّر كل فعل وكل لافعل، تفتح أبواب حرمانات لا تحصى ولا ترحم...وهو الآن شاب، بجسم فتي بحاجة لتغذية، وذهن طازج بحاجة لعلم، وعاشق غض بحاجة الى مظهر لائق وجيب عامر بنقود، يشتري بها هدية لحبيبة، لايبخل عليها مال الدنيا لو كان يملكه...حبيبة أصبحت زوجته بمعجزة لا يصدّق حدوثها في سير تاريخ مشؤوم لحياته، في ظروف خرافية يمرّ بها يومياً...كل صباح حينما يذهب الى عمله، تودعه أمه بدموع الوداع الأخير، لا تدري فيما لو يعود سالماً كاملاً، أو قطعاً متفحمة، تدلّها عليه هوية في موقع انفجار...يتلفت باشمئزاز حوله، سوء خدمات، سيطرات، ازدحامات، غبار غريب، أنابيب صرف صحية فائضة، فوضى وأخبار تخلو من مسرّات...وعندما يعود في المساء، يشغّل مولّدة الكهرباء، يحضر فواتح قريبة، يقدّم تعازٍ، يحرق قمامة، يصلّح ما يعطل من حاجيات، يبحث عن غاز وديزل وماء صالح للشرب، عن دواء مفقود وطبيب لم يفر من البلد أو يغتاله أحد، ولا يعرف متى ينام ومتى يصحو، وكيف تمضي أيامه وتواريخها، حتى يحلّ يوم عيد ميلاده، يذكرّه به أحدهم...
وهو يهمّ باطفاء الشموع، كي لا يطفئ بسمات على شفاه من يحب، ينطلق صوت مدوٍ قاتل من منطقة ليست بعيدة، يهزّ طاولة أمامه، تسقط منها أقداح وتتكسر... يغيب في سكون ضاج وذهول...يمد يده نحو بطن منتفخ لزوجته، يتحسسها...ينتزع فجأة شموعاً من كعكته، ويهرع نحو الشارع...بعد لحظات، يسمع صوته من في الدار والدور الأخرى والمحلة والمدينة والبلد كله:

- يا ناس، أنا المتعوس ابن الشقي ابن البائس، من مواليد عام 1979، أحتفل بعمر لم أعشه، اليوم عيد ميلاد لم يحضره صديق لي لأنه مقتول، ويغيب عنه آخر مشلول، وآخر مهاجر، وواحد مفقود، وزميل مسجون أو مجنون أو محزون...لم يحضره أب قضي في حروب الطغاة، وعمّ مات تحت التعذيب، وخال اختفى ولم يعد، وغيرهم آخرين كثيرين أحبهم... يا أولاد الكلب، أريد أن أحيا...أريد عمراً ضاع مني، أريد أن يحيا ابني في عالم غير الذي خبرته، يا أولاد الكلب، هل هذا كثير عليّ وعلى ابني؟ يا أولاد الـ...

متفرجون موجوعون ومتطوعون يجمعون قطعاً بشرية متفحّمة داخل أكياس، يشاهدونه يسير نحو موقع الانفجار، وهو يحمل شموعاً موقدة يتساقط دمعها على يديه ويختلط مع دمعه...يهزون رؤوسهم أسفاً، ويواصلون بحلقتهم أوعملهم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز