الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عناق بطعم الأوزون

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2013 / 4 / 21
الادب والفن


كنت أشعر بضيق لم أعرف سببا له، ولا أريد أن أبحث عن مصدره. والحقيقة هي أني أدرك السبب وأفتعل عدم معرفتي به. أحيانا يحتاج المرء للكذب قليلا على نفسه طمعا في راحة نسبية ولو كانت وهمية.
لكن ضيقي زاد من ضغطه علي. أحسست برغبة في البكاء. قلت: يجب أن أبكي. ثم تراجعت، ليس هنا وليس الآن. بدأ دبيب كالنمل يسري في قدمي. وانتقل إلى يدي وذراعي، ثم إلى صدري ورأسي. ضغطت على شفتي السفلى بطريقة آلمتني. تطلعت إلى الوجوه من حولي، لم أعرف أحدا منهم. ولا أحد كان مباليا بوجودي. لم أجد مكانا أجلس به. حدثت نفسي أني أستطيع أن أترك المكان وأنصرف من حيث أتيت دون أن أثير انتباه الحاضرين. صدرت من واحد يقف بجانبي ضحكة خافتة. كان ينظر إلي ويضحك. ظننت أنه يضحك على ما يجول بداخلي من هواجس، إذ لم يكن هناك أي داع لينظر إلي وهو يضحك ببلاهة، وأنا لا أعرفه وليست لي أدنى صلة به. كيف يتجاسر هذا اللئيم ويفعل. نظرته كضحكته فيها خبث مقيت. تقدمت نحوه، رأيته يتراجع صوب الباب ويده على أذنه، لعل اللئيم يهاتف لئيما من أمثاله. أدار ظهره ثم اختفى مغادرا القاعة.
لكزة فوق كتفي أخرجتني من حيرتي. التفت لتلتقي عيناي بعيني امرأة شابة حسناء في غاية الجمال. ابتسمت في وجهي ابتسامة غامضة، وتوجهت إلي بالقول:
- أكيد أنك تفكر في شيء ما، ربما تتساءل في سرك كيف علمت أنك آت إلى هذا المكان. أليس كذلك؟ لماذا لا تفترض أنني أريد أن أساعدك بدل أن تهرب مني، لماذا تظن أني أرغب في مضايقتك والتنكيد على راحة بالك.
ظللت مندهشا من جرأة هذه السيدة. شفع لها حسنها وجمالها وطريقة كلامها بغنج ظاهر لا لبس في مراميه حسب تفكيري. ابتسمت لها وارتبكت في آن. وشغلني ارتباكي عن إيجاد الكلمات المناسبة للرد عليها. فأردفت قائلة بثقة وجدت فيها بعض المبالغة:
- لنخرج أولا من هذا المكان الغامق.

كنا بكنيسة تم تحويلها حديثا إلى مركز ثقافي بعد سنوات من رحيل المستعمرين الفرنسيين وتناقص زبنائها من المؤمنين المسيحيين. أشارت إلى منصة القاعة وهمست بصوت خفيض:

- هم لم يشرعوا بعد، وحتى إن فعلوا فإن البرنامج ثقيل على القلب والموضوع أتفه.
+ ألا تتفقين معي أنك تصدرين أحكام قيمة وتتجاوزين حدود ال...
لم تتركني أكمل جملتي، اتجهت نحوي تسألني:

- نعم أنا ما جئت إلا لأتفق معك. لكن أجبني أولا عن سؤالي، هل يمكن أن يتعلم المرء الحب أو يكتسبه إذا كان يفتقر إلى حب يملأ قلبه.
+ لو أمكنك سيدتي صياغة سؤالك بصيغة أوضح...

افتر ثغرها عن مبسم جميل، وقالت:

- طيب، ماذا كنت ستفعل لو وجدت نفسك مع قلب متبلد، خذني مثلا أنا من كان زواجها صفقة خاسرة، إذ أرتبط برجل دائم الهرب مني.

لم أحر جوابا وظللت أحدق في وجهها مأخوذا بجمالها.
أمسكتني من ذراعي الأيسر وقادتني خارج الكنيسة، ابتعدنا وسرنا في ممر تحيط بجنباته شجيرات مورقة. شممت رائحة كحول تفوح من بين كلماتها. وقفت واستوقفتها. طلبت منها أن تقدم لي نفسها أولا لنتعارف، وبعدها يمكننا أن نتواصل بشكل أحسن.

+ أقدم لك نفسي أولا، أنا سليمان ال..

قاطعتني:
- سليمان بن عزوز الدكالي. أخبرني من منا نحن الاثنين أصابه الزهايمر.. أنا عتيقة الغزالي يا سليمان.. عتيقة زوجتك يا كذاب...
+ ما..ما..ماذا تقولين؟
- كما تسمع يا أصم القلب.. جئت لأعلمك كيف تتوقف عن الكذب، ألم تقل لي قبل أن تغادر البيت أنك ذاهب لزيارة والدتك. وحدسي قال لي إنك كاذب، فاقتفيت أثرك لأضبطك هنا في محاضرة تافهة حول خطر ثقب الأوزون على البيئة.. أليس هناك من هو أخطر منك على الأوزون وعلى زوجته؟.. هل تتبع هذه المحاضرة أهم من أن تبقى معي في البيت لنتفاهم ونحب بعضنا كزوجين.
تراجعت إلى الوراء وتمعنت جيدا في وجه المرأة التي أمامي. لا شك أنها أسرفت في الشرب أو أن بها مس من جنون.
صحت في وجهها:
+ سطوب..سطوب.. لتسمحي لي سيدتي إنك أخطأت. لست المعني الذي تظنين، فالماثل أمامك رجل غير متزوج، بل لم يسبق له الزواج مطلقا. ووالدتي تنام منذ سنة في الروضة.. الله يرحمها.

ضحكت المرأة ضحكة عبثت بجمال وجهها. ثم اعتدلت لتأمرنني بالامتثال لأوامرها وإلا جمعت من حولي المارة، وكان بعض الأطفال قد بدأوا يقتربون منا. رأيت صاحب الضحكة الخبيثة يراقبنا من بعيد. لما وقعت عيني عليه انسحب واختفى ويده على أذنه.
أمرتني المرأة بحدة أن أتقدم أمامها. فعلت وعلى شفتي نصف ابتسامة. لا أعرف بما ابتليت. من أين تسلطت علي هذه المجنونة. هل فعلا هي مجنونة أم هي واقعة تحت مفعول الإفراط في تناول الكحول؟ تساءلت مع نفسي وأنا منشغل بجمالها وبفتنتها. امرأة شابة يبدو عليها الثراء ويشي لباسها وحليها بكونها من علية القوم. تشجعت وقلت لأمضي إلى نهاية الحكاية. وماذا سيحدث بعدها؟ لن أخسر شيئا.
وصلنا أمام عمارة في حي راق. اجتزنا الباب وركبنا المصعد. وضعت أصبعها على الزر التاسع. وأنا ساهم أفكر في الآتي من تطور سيناريو الأحداث باغتتني حين طبعت قبلة على وجنتي وتلمست صدري. سرى دبيب نمل في جسدي وكنت قد نسيت...، غادرنا المصعد لنقف أمام شقة طلبت مني أن أفتح بابها. لم تنتظر ردي. أدخلت يدها في جيب سترتي وأخرجت حمالة مفاتيحي وفتحت الباب. دفعتني بلين وغنج داخل الشقة.
وجدت شقة مفروشة على الطراز الانجليزي القديم. الأثاث فاخر. حدسي كان في مكانه، السيدة من طبقة الأثرياء. جلست أنا على أريكة تتوسط البهو فيما دخلت هي لتغير ملابسها. أثارتني لوحة عناق" للفنان البولندي بكشينيسكي. لما عادت السيدة وجدتني واقفا أمام اللوحة أتأمل في تفاصيلها. التفت ورائي لأجدها وقد ارتدت قميصا خفيفا أسود يفضح كامل فتنتها.
- وكأنك يا عزيزي لأول مرة تتعرف على هذه اللوحة؟
+ عفوا، بلى أنا أعرف اللوحة جيدا وأعرف أيضا القصة المأساوية لنهاية صاحبها.
- إيه يا عزيزي أنا أعرف أنك تعرف. عد إلى مكاننا لنشرب الشاي بالليمون ونتكلم.
جلسنا على الأريكة. أمامنا طاولة سطحها من السيراميك.
- كيف تنسى أنك من اقتنى نسخة من هذه اللوحات. إن باقي اللوحات المستنسخة التي في شقتنا أنت من جلبها إلى البيت، أما اللوحات الأصلية فمن ميراث والدي.
+ أنا من اقتنيت هذه اللوحات؟
- أترغب في أن أذكرك؟ لوحة "عناق" اقتنيتها أنت من متحف إيزديسواف بكشينيسكي في زيارتك الأخيرة لوارسو العام الماضي، أو العام الذي قبله. أتذكر أني كنت أمانع أن تتصدر هذه اللوحة الصالون نظرا لموضوعها التراجيدي، ولكني أذعنت في الأخير لأني أحبك يا زوجي العزيز.
+ وارسو؟ كيف أزور وارسو وأقتني منها لوحات وأنا لم أسافر في حياتي ولا مرة خارج مدينتي، بل إني لم أملك جواز سفر في حياتي.
أحسست بدوار خفيف. جلبت لي مهدئا شربته مع كأس ماء، طلبت مني أن أدخل غرفة النوم ونؤجل كلامنا إلى الغد.
تمددت فوق فراش سرير وثير. طلبت مني أن أغير ملابسي وأرتدي بيجامة النوم التي وضعتها أمامي. حاولت أن أقنعها أن أبقى بملابسي لأني لا أنوي قضاء الليل في شقتها. نظرت إلي نظرة غامضة وانصرفت لتجلب شيئا. أجلت بصري في الغرفة لتقع على صورة موضوعة جنب السرير. صورة ضمن إطار جميل تجمعها مع زوجها وهي ترتدي فستان الزفاف الأبيض. كان الواقف بجانبها يشبك ذراعه بذراعها ويبتسمان معا للمصور. رفعت الصورة بين يدي. عادت وزجاجة عطر رجالي بيدها، رشت عنقي وقبلتني. تظاهرت بالحياء، لم تنتبه لانفعالي المفتعل.
همست لي:
- آه كم تشبه زوجي تمام الشبه. وتضاحكت كحمقاء.
+ طيب.. ولكن أين هو زوجك الآن؟
تقدمت نحوي وعانقتني وهمست:
- هو بين أحضاني الآن... ثم داعبت صدري.
بدأت أحاسب نفسي على الوقوع في مثل هذه الورطة التي وقعت فيها بإرادتي. حين رن جرس الباب ارتعدت مفاصلي وركبني الخوف. ضحكت هي من فزعي ووصفتني بالأهبل وبالجبان واتجهت صوب الباب لتفتحه. فيما كنت أنا أبحث لي عن مخبأ. سمعتها تسأله القادم أين ضيع مفاتيحه ولماذا عاد مبكرا من المحاضرة. رد عليها أنه وجد موضوع ثقب الأوزون من آخر ما يمكن أن يشغل اهتماماته فانسحب وذهب لزيارة والدته في المقبرة، وبعد ذلك عاد إلى البيت لمجالسة زوجته ومبادلتها الحب. كنت أتلصص من ثقب الباب. رأيته يتجه نحو غرفة النوم. انزويت أنا في البلكون. غير ملابسه بملابس النوم. نفس البيجامة السماوية اللون التي كانت قدمتها لي قبل دقائق. ورجع إلى الصالون. مرت دقائق حسبتها دهرا. لم تكن الخائنة تحس بأدنى حرج. ويظهر أنها نسيت أمري. لم أستطع حبس أنفاسي المتلاحقة، ثم صدر مني سعال مكتوم . سألها من في البيت. أجابت:
- لا أحد يا عزيزي غيرنا.
انشغل هو بمتابعة نشرة أخبار التلفزيون. فيما غابت هي عن مرمى بصري. فجأة سقط من يدي إطار صورة الزفاف. هرع الرجل إلى مصدر الصوت ليفاجأ بي. ظل صامتا. وقف ينظر إلى ملامحي. هو أيضا اندهش للشبه الكبير الذي يجمعني به. ثم سألني ماذا أعمل في غرفة نومه. استجمعت قوتي وأجبت:
+ اسأل امرأتك.
قبل أن يناديها جاءت إلى الغرفة. سألها عن أمري. ردت عليه بأنها لم تفهم قصده. قالت له إنها تبعته لما سمعته يكلم نفسه. أمسك بخناقي ورماني فوقها.
- هل هذا هو عشيقك يا خائنة؟
- ليس وقته يا حبيبي...
وتخلصت من ثقل جسدي فوقها بلطف.
لم تكن المرأة ترى إلا شخصا واحدا من بيننا الاثنين.
عرض علي الزوج أن واحدا منا عليه أن يبقى هنا. ليس في هذه الغرفة فحسب، بل في هذه الدنيا بأكملها. قلت:
+ ماذا تقترح؟
رد:
- لنتبارز..
+ كيف.. على طريقة الفرسان القدامى؟
- نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين لو تعلم...

+ .....
- نقفز من هذا الطابق الذي نحن فيه. (نحن نتواجد بالطابق التاسع). ومن نجا فهو الأبقى والأصلح..
+ وإذا نجونا معا؟
- نعيد التجربة.
+ وإذا هلكنا معا؟
- تترمل الخائنة وتجن.
وقفنا على حافة البلكون لتنفيذ الرهان. أعددنا: .. واحد.. اثنان.. ثلاثة... فإذا بها تعيدني بقوة إلى داخل الغرفة، فيما رمى الآخر بنفسه إلى الأرض. لما نزلنا إلى الشارع لم نجد أثرا لجثته. عدنا إلى الطابق التاسع لنكمل حديثنا عن الفنان إيزديسواف بكشينيسكي وكيف عثر عليه في أحد أيام شهر نوفمبر من عام 2005 مقتولا في شقّته بـوارسو بعد إصابته بعدّة طعنات في أنحاء متفرّقة من جسده.
وفي ما بعد تمّ الكشف عن أن القاتل كان ابن أحد اعزّ أصدقائه وأكثرهم قربا منه وأن الدافع وراء الجريمة كان السرقة.
أعيش في جسد ليس جسدي، مع امرأة تطاردني لأحبها بأسلوبها ورؤيتها الخاصة للحب. بدأت أنسجم مع حياتي الجديدة. أصبحت تشهد لي بأني لم أعد غليظ القلب كما وصفتني في الأول.. اليوم أحب زوجتي الجميلة على طريقتنا التي ابتكرناها معا. انضممنا لجمعية بيئية للتحسيس من مخاطر ثقب الآوزون. أخشى من عودة غريمي الذي ذابت جثته في الهواء. استخرجت جواز سفر لأول مرة، حصلنا على تأشيرات سفر من قنصلية بولندا بالدار البيضاء، ونخطط معا لقضاء عطلة هذا الصيف في وارسو ورؤية النسخة الأصلية من لوحة "عناق".
لكني الآن أشعر بضيق لا أعرف سببا له، ولا أريد أن أبحث عن مصدره. والحقيقة هي أني أدرك السبب وأفتعل عدم معرفتي به. أحيانا يحتاج المرء للكذب قليلا على نفسه طمعا في الراحة ولو كانت وهمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي