الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البعد الإنساني لحوار الثقافات عند الراحل عبد الهادي بوطالب

حميد لشهب

2013 / 4 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


"لم أؤمن قط لا «بنظرية» صراع الحضارات، ولا «بنظرية» صدامها، ولا بحرب الديانات والمعتقدات. ولم تشدَّني إليها علوم المستقبليات، كما لم أؤمن بمقولة جمال الدين الأفغاني «إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً»، لكني أؤمن بالمقابل بسُنَّة التدافع بين التيارات الفكرية التي تتمثل في تدافع عقيدة وأخرى ومواجهة أفكار بأفكار. وهو تدافعٌ مُغنٍ ومفيد، لأنه يتم به التلاقح والتثاقف وتبادل المعرفة بجميع أبعادها ومضامينها. ولا شيء يؤكد أن ذلك لا يتم حتماً ولزوماً إلا بالصراع أو الصدام ..."


توطئة

لكل مفكر يستحق هذا الإسم اليوم أسس معينة تنبني عليها شخصيته الفكرية و الثقافية. و هي أسس تعكس اهتمامات حضارية بذاتها مُوجهة باقتناعات في الحياة و تصور للعالم في كل تعقيداته و بؤر توتراته في شساعته الجغرافية و الثقافية و الأيديولوجية و العقائدية و العرقية إلخ. و إذا كان الإرث الثقافي الذي خلفه لنا الراحل بوطالب غني: سياسة، دين، فكر إلخ، و حتى و إن لم نكن قد ألممنا بعد بكل أبعاد هذا الفكر نظرا لغزارته و غناه و عمقه، فقد لا نجادل في كون أحد اللبنات الأساسية لفكر المرحوم كانت هي مساعمته الفعالة و المنتظمة في ميدان "حوار الثقافات". و لا غرابة في كون المنطمة الإسلامية للتربية و العلوم الثقافة ـ الإسيسيسكو ـ كانت قد أعلنت على إنشاء برنامج عبد الهادي بوطالب للحوار بين الثقافات و الحضارات ضمن برامجها، تقديرا لجهوده في تعزيز الحوار بين الثقافات و الحضارات.

و المتتبع اليقظ لإنتاجاته الفكرية في هذا الميدان، لابد أن يلاحظ منذ البداية بأن تصور بوطالب للحوار عامة و للحوار الثقافي خاصة هو تصور مبني على حسن نية و اقتناع راسخ في الجانب الخير للإنسان و طموح في إقناع المنتمين للعنصر البشري بأن الحوار أحسن و أهون من الصراع و التناحر، و لهذا كان تصديه لمقولة "صراع الحضارات" تصديا حازما، دون مساومات و لا ردة.

سأحاول في هذا العرض اليوم، و هو عرض أعتبره حجرة إضافية في محالة بناء التصور الشامل للراحل في حقل حوار الثقافات، تقديم بعض النقظ المهمة "لفكر الحوار الثقافي" عند بوطالب، و أنبه منذ البداية بأنني في بداية مشوار طويل، و بأنني على وعي تام بأنني عازم على المضي إلى ما وراء الشجيرات التي تخبأ تلك الغابة الفسيحة لفكر كريم، قاد الفكر الوهاج لشخصية كريمة، عاشت حاملة هما و مشروعا فكريا اتجاه الإنسانية كمسؤولية حضارية و قد لا أجازف الحقيقة إن قلت كمسؤولية دينية كذلك.

سأركز إذن على النقط التالية:

أولا: الحوار الحضاري أو الديني أو الحوار الثقافي في فكر بوطالب؟
ثانيا: من المسؤول عن الحوار الثقافي في منظور بوطالب؟
ثالثا: النقد الذاتي في الحوار الثقافي.
رابعا: تخليق الحوار
خامسا: تطبيقات في ميدان الحوار على ضوء الإرث الفكري لبوطالب في هذا الميدان.
**************************************************

أولا: الحوار الحضاري أو الحوار الديني أو الحوار الثقافي في فكر بوطالب؟

كل من تعرف على الإرث الثقافي للبروفيسور الحكيم عبد الهادي بوطالب، يعرف حق المعرفة بأنه كان يولي اهتماما خاصا للتحديد الدقيق ليس فقذ لمواضع دراسته، بل و أيضا للمصطلحات التي كان يستعملها، شأنه في ذلك شأن كل عالم رزين. و نلمس نفس الأمر فيما يخص مصطلح الحوار. أيتعلق الأمر عنده بالحوار الثقافي أو بالحوار الحضاري أو بالحوار الديني؟ يقول عن الحضارة: "والحضارة تحتضن مفهوما متعدد الأبعاد من بينها البعد السياسي الذي يقوم عليه ما يسمى بالحضارة السياسية" . من هذا المنطلق، يمكن أن نستشف بأن الحوار الحضاري عنده شيء، و الحوار الثقافي شيء آخر، لأن الأول لم يستطع بعد الوصول إلى شيء إيجابي، مادام السياسي، يعني تدخل المصالح، حاضر فيه. و لهذا السبب كانت صيحة بوطالب عتية عندما تسائل بجد: "تُرى ألا تكفي عشرات آلاف القرون وملايين السنوات التي عاشتها البشرية لتحقق للبشر النصر على شرع الغاب، وتصون فطرته من الانحراف والزيغ؟" .

لا داعي للتذكير بمساهماته في التقريب بين المذاهب في الإسلام و إلى المواقف النبيلة التي كان يقوم بها ماشيا في وسط الطريق مادا اليد لكل التيارات و المذاهب الإسلامية، و الشجاعة الأدبية و المعنوية للإلتقاء بأجنحة قد تكون مغايرة للجناح الذي كان يمثله كالجناح الشيعي مثلا. فقد كانت رغبته ملحة في «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» لإقامة حوار المذاهب في الإسلام على أسس متينة خدمة للتفاهم و التواصل بين جميع الأطراف في الإسلام.

و على الرغم من ذلك، فإن الحوار الثقافي هو الذي كان يهمه في المقام الأول. يقول: "من خلال تجربتي مع ندوات الحوار تأكد لي أن حوار الثقافات ... هو أفضل فضاءات الحوار على الإطلاق. لقد شاركت منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي إلى اليوم في إحدى عشرة ندوة للحوار: أربعة منها عن حوار الحضارات، وثلاثة منها عن حوار الديانات، وأربعة أخرى عن حوار الثقافات... فاستنتجت أن حوار الديانات والحضارات قل أن تتوفر له شروط الحوار لأن أغلبية المشاركين فيه يغلب عليهم التعصب لدينهم أو حضارتهم وتقديمهما على أنهما يمتلكان الحقيقة المطلقة التي لا يمكن أن توضع موضع التساؤل، وبالأحرى الإنكار أو الانتقاد. ويجري الحوار داخلهما وهو فاقد فضيلتي الانفتاح وحسن الاستماع للآخر، فيتحول بذلك إلى الحوار العقيم: حوار الصُّـم. ولا كذلك حوار الثقافات أو الحوار بين المثقفين الذي يجري بين علماء منفتحين همهم الأساس إن لم أقل الأوحد هو اكتشاف الحقيقة التي لا يزعم أي طرف امتلاكها" .

انطلاقا من هذا النص يمكن التأكيد بأن الأستاذ بوطالب انتبه نظرا لتجربته الكبيرة في ميدان الحوار، بأن الحوار الثقافي هو المطلوب، إذا كان المرء يريد الوصول إلى مستوى أرقى من التفاهم من أجل التعايش في هذا العالم الشاسع الأطراف.
**************************************************
ثانيا: من المسؤول عن الحوار؟

عندما نتمعن في العمق مساهمة المفكر المغربي بوطالب في الحوار الثقافي، فلابد أن نقوم بذلك بفهم خاص لفكره في هذا الميدان، و هو فهم يقودنا إلى اكتشاف جانب فكري محظ لهذا المفكر فوق العادة و جانب على شكل مشروع مفتوح على المستقبل. و من يقول مشروعا، يقول في ذات الوقت تصورا معينا بشروط و خطوات محددة. و بهذا لم يبق اهتمام بوطالب بحوار الثقافات طرفا فكريا و تخطيطا في أبراج عالية، بل تعداه لكي يصبح ممارسة، لابد من راعي لها و لابد من إطار أدبي و مادي لها. و أول فئة تتحمل عبأ الحوار الثقافي في نظره، هي فئة المثقفين، و بالتحديد المفكرين المتشبعين بالمنظور الإنساني و الواعين بأن سعادة العنصر البشري هي مبتغاهم و هدفهم الأول و الأخير. يقول: "ينبغي أن يتعبأ لإغناء هذا الحوار المثقفون العالميون من مختلف الحضارات فيما بينهم، ولا تفيد فيه مشاركة السياسيين، وبالأحرى العسكريين الذين لهم خلفيات مشوّشة على سلامة الحوار وشفافيته ونزاهته وصفائه. وفي جميع العهود كان عالم الفكر هو صانع الحضارات بما توفر فيه للمثقفين من وقار العلم، ورزانة الثقافة، ورصانة التفكير" .

لا يحتاج هذا التصور الفذ لأي تأويل، لأنه ناصع في ذاته و جريئ، يسمي الأشياء بمسمياتها و يقصي عن وعي و واقعية، و لربما أقول عن تجربة ميدانية، كل من بإمكانه التشويش على مشاريع الحوار الثقافي من سياسيين و عسكريين. كما أنه حدد بما لا يدع مجالا للنقاش الصفات التي يجب على المفكر التحلي بها، لكي يكون كفئا بتحمل مسؤوليته في الحوار و من بينها بالخصوص الوقار و الرزانة و الرصانة. و يرى أن المفكر حامل رسالة، و عليه القيام بها على أحسن وجه، يقول بهذا الصدد: "فلم يعد الكاتب يعيش لنفسه في أنانية أو يأس أو تعال، ولم يعد الأدباء شعراء أطلال يقفون ويستوقفون، ويبكون ويستبكون، ويتذكرون الأحباب والمنازل، وإنما أصبح الكاتب رائدا يسير في الطليعة يحمل قلمه كما يحمل الجندي سلاحه، والعامل مسحاته وفأسه.
وأصبح الأدباء بناة عاملين وعمالا مشيدين للأخلاق، وجنودا يدافعون عن الحق، وأطباء يعالجون الأرواح: سلاحهم الكلمة المشحونة عزما ويقينا وثقة، وهدفهم خدمة الإنسان والسمو بوجدانه وإسعاده في قومه ومجتمعه وعالمه.
إن الكاتب إذن رجل رسالة، يسخر مشاعره الفكرية والوجدانية لخدمة قضايا أمته التي تكدح من أجله، وتوفر له إنتاجها ليهبها بالمقابل إنتاجه أيضا" .

و تجدر الإشارة إلى أن التصور الذي يحمله عن الكتابة هو نفس التصور الذي يعطيه للمثقف و الكاتب، و نلمس هذا عندما يقول: "إن الكتابة ليست فنا للتلاعب بالزخرف البلاغي، وليست مجرد هواية وألهية مهما تكن متعتها، وإنما هي دعوة ملتزمة لخدمة المبادئ الكريمة والقضايا الإنسانية النبيلة، وكل ما يعين المواطن على تحقيق سعادته كفرد في مجتمع شريف.
إن رسالتكم أيها الكتاب لعظيمة، وصعبة أيضا. إن سلاحكم هو الكلمة ولكن كيف تبلغون الكلمة إلى القلب وكيف تجعلون منها كلمة نبيلة؟ إن الإيمان بها والصدق في التعبير عنها شرطان أساسيان لذلك ومن أجل ذلك يجب خلق الحوار بأسلوب الحوار الصادق الهادف ولغته الرصينة" .

و بما أن الحوار الثقافي في حاجة ماسة لممارسته و تطويره إلى إطار يرعاه و يسهر على استمراريته و استمراره، فإن هناك أطرافا بعينها ممن عليها السهر على ذلك، منها العالمية و منها القطرية. يقول: "وأرى أن يجري حوار المثقفين العالميين في كَنَف منظمة اليونيسكو وتحت رعايتها. وأن يكون هدفه صوغ حضارة عالمية جديدة لا تقوم بديلا عن الحضارات القائمة ولا تلغي ما لهذه من خصوصيات، بل تتعايش معها وتحترمها على أن تكون القواسم المشتركة بين الحضارات هي ركيزة الحضارة العالمية الجديدة. والحضارات في مجملها تحتضن قيماً وأخلاقيات مشتركة تطمئن إليها وتقبلها الفطرة البشرية، كما ترفض أضدادها. وتكفي هذه القواسم لتشكيل محور مشترك يصبح مدار الحضارة الجديدة التي ستعلو قيمها على ما عداها من مفاهيم مضادة أو متعارضة"

أما قطريا فإن بوطالب يؤكد على ضرورة مؤسسات بعينها ممن يتعين عليها توفير الشروط و الإطارات لهذا الحوار الثقافي و منها بالخصوص الجامعة العربية و المؤتمر الإسلامي و المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم، دون أن تفوته الفرصة ليأكد: "مرة أخرى على أن يكون الحوار بين مثقفين ومفكرين عرب ومسلمين، وليس بين موظفين أو ممثلي دول في منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ..." . "على أن ترعى هذا الحوار منظمةُ المؤتمر الإسلامي التي تجمع على صعيد واحد العالمين معاً، وأن تقود مسلسلَ الحوار العربي الإسلامي المنظماتُ الثقافية المنبثقة عنها كالإيسيسكو، ومجمع الفقه الإسلامي وغيرهما، كما ترعى الجامعة العربية من جهتها حوار الذات العربي بتنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي. وتشارك فيه المنظمات الثقافية المنبثقة كالأليكسو وغيرها. كما أن مشاركة الحركات الإسلامية في هذا الحوار على اختلاف توجهاتها أكثر من ضروري بهدف توحيد الرؤى الإسلامية ورفع الخلط والالتباس المحتفَّين بحقيقة الإسلام كدين وحضارة" .
**************************************************
ثالثا: النقد الذاتي في الحوار

ككل مفكر واع بمسؤوليته و بضرورة الإنفتاح من أجل تثبيت ثقافة الحوار الفكري، فإن بوطالب لم يغض النظر أبدا عما يمكن أن يكون عائقا في وجه الحوار، و بالخصوص العماء الذاتي و التقوقع عليها، بل تضخيمها و النفخ فيها. و هنا نلمس التقائه بالبروفيسور كوكلر، الذي طور فلسفة النقد الذاتي التي يجب على الثقافات الغربية ممارستها في التقائها بثقافات أخرى. يقول الراحل: "وبجانب هذا الحوار العالمي الكبير، فإن حواراً ذاتياً داخل كل حضارة، أصبح يفرض نفسه بهدف مراجعة سلبيات الحضارات وتقويمها. والحضارة الإسلامية في أشد الحاجة إلى إجراء حوار الذات لتعميق مضامينها، ونقدها موضوعياً، خاصة وهي اليوم موضوع اتهام خطير ولا يبرئها من الإدانة إلا تقدمها إلى العالم بهُوية واضحة، وتسويقُها قيمَها الخيِّرة ومثلها الفاضلة. وهذا ما يمكن أن يقوم به مثقفو العالمين العربي والإسلامي" .

النقد الذاتي لا يعني البتة في فكر أ. بوطالب الهدم السلبي، بل محاولة إعادة بناء إيجابي لفهم موضوعي و غير اختزالي للذات العربية و المسلمة. و التفكير في هذا الأمر هو عربون نضج فكري و نفسي، سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للشعوب. و المقصود بالنقد الذاتي هنا هو إعادة النظر ليس فقط في الأفكار و الأحكام التي نحملها عن الآخر الغريب، سواء أكان شرقيا أو غربيا، بل و قبل هذا دراسة إرثنا الثقافي بمناهج علمية تسمح لنا التخلص من النظرة الذاتية المحضة لهذا التراث و إعطائه أجنحة قوية تمكنه من التحليق في فضاء الثقافة العالمية بكل فخر و اعتزاز.

لنفهم جيدا هذا المبدأ في فكر أ. بوطالب، لابد من التذكير بأنه كان من المنتقدين المهمين لبعض جوانب الثقافة الغربية و بالخصوص ثقافتها السياسية و الممارسات الناتجة عنها بما في ذلك انتقاده للعولمة و سياسة الكيل بمكيالين للغرب و التهرب من الحوار الفعلي بغض الطرف عن ممارسات الإحتلال الصهيوني و التدخل المباشر أو غير المباشر في الشؤون الداخلية للكثير من الدول. إذن على الرغم من نقده الجوهري لبعض جوانب الثقافة الغربية، فقد كان الراحل يتمتع بملكة التمييز و إعطاء كل ذي حق حقه، لأنه لن يغض النظر أبدا عن بعض إيجابيات الثقافة الغربية أو ثقافة المذاهب الدينية المغايرة لمذهبه. و نجد نفس السلوك الفكري له اتجاه ثراته و ثقافته، ذلك أنه لم يثن بعماء على الثقافة العربية و الإسلامية، بروح متشددة و عقلية متزمتة، بل ساهم فعليا، بشهادة مؤلفاته الكثيرة، في إعادة النظر في الكثير من الركائز الثقافية، التي كان يظهر له أنها كانت في حاجة إلى ذلك.

لابد من التنبيه إلى أن النقد الذاتي الموضوعي، الذي لا يتحول إلى نبذ الذات و رفضها و التقليل من قيمتها، بل يخول لها تعميق معرفتها بنفسها و بالآخر، هو ركيزة من ركائز الحق في الإختلاف، الذي نادى إليه البروفيسور بوطالب دوما، باعتباره حالة صحية لكل ثقافة رصينة. و يحتوي النقد الذاتي ضمنيا على الأخذ بعين الإعتبار لنقد الآخر لي، و هذا ضروري في عملية الحوار بين الثقافات، لأنه يضمن حسن الإستماع و الإصغاء لما يقوله الآخر لي و محاولة التمييز فيما هو موضوعي و ما هو هجوم، ما هو حكم مسبق و ما هو حكم ينطبق علي.
**************************************************

رابعا: تخليق الحوار

لا يمكن التفكير في الحوار الثقافي و غض النظر عن شروط إقامته، سواء أكانت تلك الشروط مادية أو معنوية. و من بين هذه الأخيرة هناك من طبيعة الحال ذاك الجانب الذي يرقى بالإنسان إلى مرتبة الإنسانية. و ليس للتخليق هنا أية مرجعية لا دينية و لا أيديولوجية معينة، بل كل أساسه مبني على قناعة إنسانية راقية. يقول: "والمطلوب من الإنسان الحضاري في عالم اليوم أن يكون ذلك الذي يعفو عند المقدرة، ويصفح عمّن ظلمه، ويصبر على المكاره، وينسى ولا يحقد، ويقدم الإعتذار لمن آذاه، ويقبل برحابة صدر عذر من اعتذر إليه" .
إن هذه القيمة الأخلاقية السامية التي يدعو لها بوطالب في مشاريع الحوار الثقافي تنم عن شخصية عارفة بالنفس الإنسانية و نزواتها و ميولها للخطأ اتجاه الآخر. و فلسفة الصفح ضرورية في الحوار، و لا تنم عن أي ضعف، بل بالعكس على قوة معنوية عالية، و لا يمكن أن تقوم إلا بوعي طرفي الحوار بالحاجة المتبادلة إلى الآخر. و لكي يتحقق هذا المبتغى، من الضروري أن تتوفر مجموعة من الشروط في أطراف الحوار، و من بينها كما يقول الراحل: " يجب أن تتوفر له عناصر صدق القول، وصراحة الخطاب، وخلو صيغته من الإلتباس والخلط بين المواضيع التي قد يكون بعضها مثيراً عند المعتذَر إليه حساسية وتشنجاً، ليكون بذلك وبغيره من الصفات الأخلاقية خطاباً بليغاً، أي بالغاً قصدَه من السامع. فالبلاغة ـ كما يعرِّفها البلاغيون ـ هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي مطابقة كلام المتكلّم (صاحب الخطاب) لمقتضى حال المخاطَب، أي السامع الموجَّه إليه الخطاب. لا أن يكون خطاباً صادماً مستفزاً يزيد الطين بلة والجرح إيلاماً، خطاباً لا يكون العذر فيه أكبر من الزلّة" .

تخليق الحوار موضوع قائم بذاته في فكر الأستاذ بوطالب و هو عبارة عن ورشة قائمة بذاتها تحتاج إلى تنقيب أكبر و اهتمام خاص، لا يسعنا المقام هنا للإحاطة بها في شموليتها. ما يجب التأكيد عليه، هو أن هذه المقومات الأخلاقية ضرورية لشرايين الحوار، لأنها هي التي تغذيه و تجدده باستمار و تضمن استمراريته في إطار إنساني شامل، هدفه الرئيسي هو عدم المس بالكرامة الأنطولوجية للأخر تحت أية ذريعة كانت.
**************************************************
خامسا: تطبيقات

إن الفكر الحي و الديناميكي، المتشبع بالبيوفيلية و حب الخير للبشر، يكون بمثابة مستودع من الحبوب الفكرية المباركة التي يوفرها هذا الفكر لكل من يهتم به، من أجل الإستمرار في بذرها و الإعتناء بها. و الحال أن هذا القول ينطبق على فكر الراحل بوطالب في ميدان حوار الثقافات، ذلك أن المهتم به لا يمكنه إلا لمس لبنات نظرية متكاملة، لابد من سبر أغوارها و الإستفادة منها. فيما يخصني شخصيا، قادني الإهتمام بفكر الحوار الثقافي عند بوطالب إلى التفكير بأدواة علم إنسانية في ميادين تطبيق أفكاره في هذا الميدان. و حتى و إن كنت في بداية الطريق، و أشعر كلما اقتربت من هذه الغابة الكثيفة و المتنوعة من الأفكار بالمزيد من الإحترام و الإجلال، فإنني أأكد بأن الشحنة الفكرية و لربما النفسية كذلك، التي زرعها الراحل في أفكاره هذه، تدفع حتما اللاحقين عليه إلى محاولة إيجاد تطبيقات عملية لها.

إن الحوار بمواصفات بوطالب، و التي ذكرنا البعض منها، لابد أن يقودنا إلى شيئ مهم جدا: جملة من التصالحات لابد للمفكر العربي و المسلم القيام بها. فإذا كان العفو بعد الإعتذار ركيزة أساسية في فكر الحوار الثقافي عند البروفيسور بوطالب، فإنه يقود بالضرورة، بل يُضمر فكرة أخرى، من اللازم على المهتمين بفكره هذا تطويرها و إعطائها ما تستحق من الإهتمام، و يتعلق الأمر بالتصالح. هناك منطق بسيط في هذا الأمر: الإعتذار، العفو ثم التصالح. و قد حط اهتمامي على عينة من ميادين التصالح، التي صنفتها كالتالي:

أ. تصالحنا مع محيطنا

هناك تصالح ضروري لابد لنا منه، و هو تصالحنا مع محيطنا الإجتماعي و السياسي و الثقافي، و ألا نكتفي فقط بالسخط و عدم الرضى، بل من اللازم علينا أن نساهم و نشارك في تقديم البدائل لما هو عليه حالنا. لا يمكننا أن نستمر في احتلال درجة الصفر في النقد، و واقعنا يفرض علينا أن نصعد أو ننزل في سلم أخلاقيتنا. نحن في حاجة إلى بدائل، و هذه الأخيرة لن تأتي و نحن راكنون إلى المراقبة و الملاحظة. بعبارة أوضح، علينا أن نغادر أبراج المراقبة و تتبع ما يدور و التعليق عليه، و إطلاق أحكام قيمة، لكي ننزل إلى الواقع لنبلل ملابسنا و أقلامنا فيه، و نقترح وجهات نظر، و حلول جديدة و مغايرة. فالعيب في بعض المرات ليس في واقعنا، بل فينا، لأننا نعتقد أن هذا الواقع سوف يتغير بمجرد ما ننبه إلى أنه غير صحيح. من هنا فإن التحدي الحقيقي الذي ينتظرنا في هذه الألفية هو أن نمر في عاداتنا الفكرية في تحليل الواقع من مستوى التنبيه و النقد إلى مستوى اقتراح حلول و رسم استراتيجية براغماتية لتطبيق هذه الحلول على أرض الواقع، تماما كما كان الراحل بوطالب يقوم بذلك. و اقتراح الحلول هنا يعني بالضرورة المشاركة الفعلية و العملية في التطبيق، و ليس البقاء كمتفرج على الطوار . و قد يكون التصالح السياسي من الأهمية بمكان، و العمل على تطوير الأحزاب السياسية من تجمعات قبلية إلى تنظيمات مدنية همها الأساسي هو خدمة الصالح العام و ليس خدمة نخبة بعينها. فقد مللنا من أحزاب همها الأساسي هو الوصول إلى السلطة و استعمال هذه الأخيرة لترهيب الشعوب العربية و الإستيلاء على خيراتها. الحزب هو ليس فقط مجلس إدارة، و وسيلة إعلام، و توزيع الوظائف بالتراضي، و الهرولة لطلب مساعدة أولياء الأمر، و التفكير في استراتيجيات الوصول إلى كراسي البرلمانات و الحكومات، بل إن الحزب هو مشروع سياسي و اقتصادي و حضاري، لابد أن يراعي مصلحة أكبر عدد ممكن من الناس، لكي يحق له أن يتكلم باسمهم. الحزب في هذا المعنى لا يمكن أن يكون لا وكيلا و لا محاميا عن الذين يتكلم باسمهم، بل عليه أن يسمع صوت هؤلاء بتأطيرهم و الخروج معهم إلى ساحة المعركة يدا في يد، و ليس سرقة مشروعية التكلم بأصواتهم، و خيانتهم في نفس الوقت.

ب. التصالح فيما بيننا
النوع الثاني من التصالحات التي نحن في حاجة إليها هو التصالح فيما بيننا، و هو تصالح لا يمكن أن يتم إلا إذا وعينا أن فلسفة التسامح لابد أن تكون شرطا أساسيا في تعاملنا مع بعضنا. لن يكون هناك تفاهم شعبي عربي و نحن نعلم أننا ضحايا نزوات و أخطاء حكامنا، الذين لم يستطيعوا منذ قرون خلت بناء ثقافة حوار و تسامح و تواصل فيما بينهم، بقدر ما كرسوا ثقافة الإقتتال و التناحر و البحث عن وسيلة البقاء في الواجهة، لكي ينعت المسؤول بأمير المؤمنين، أو موحد الأمة، أو رئيس العرب الخ. لا يمكننا و الحالة هذه أن نأخذ حكامنا كنموذج لتصالح داخلي بين كل الفاعلين المجتمعيين و القوى الفاعلة في أي مجتمع عربي، إذا كنا نعلم أن هؤلاء الحكام، كل مرة التقوا فيها حول طاولة الحوار و الوحدة، انصرفوا عنها أكثر تفرقة و أكثر اختلافا و اقتتالا. التصالح فيما بيننا هو اللبنة الأساسية لإنجاح مشروع مجتمع مدني واع و مسؤول اتجاه حريته و اتجاه مسؤوليته. و التسامح ، كما تعلمنا من الراحل بوطالب، هو التخلي عن فكرة امتلاك الحقيقة الأبدية، و الاعتراف بصلاحية كل حقيقة هدفها الأول و الأخير هو سعادة الإنسان العربي أينما كان، و الدفاع عن كرامته و مستقبله. إن فكرة الفرقة الناجية لابد أن تترك المكان في ألفيتنا هذه إلى فكرة الفرق الناجية معا.

ب. تصالحنا مع مستقبلنا

أما النوع الرابع من التصالح الذي ينتظرنا فهو تصالحنا مع مستقبلنا، لأننا نحمل في العمق حقدا كبيرا اتجاه هذا المستقبل الذي يخيفنا و يشل حركاتنا سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي. و الخوف من المستقبل لا يقتصر علينا، لأننا لا نمتلك من نعيم الدنيا إلا ما هزل، بل إنه أساس سيكولوجي إنساني ينطبق على كل إنسان. خوفنا من المستقبل هو خوف مادي محض، و إذا حولنا هذا الخوف إلى قوة خلاقة فقد يكون في مستطاعنا أن نضمن لكل عربي لقمة عيش مشروعة و قانونية. قد أقول بأننا لا نحب مستقبلنا بما فيه الكفاية لنتحمل مسؤوليتنا اتجاجه. فالمستقبل الزاهر لا يعطى بالمجان، بل يبنى بعرق الجبين. المستقبل يرهبنا و يقودنا إلى أفكار مأساوية و ظلامية، لابد لنا و الحالة هذه أن نتحرر من فكرة المستقبل الزاهر دون زهور، لنبذر هذه الزهور كي يصبح مستقبلنا مستقبلا زاهرا بالفعل!

ج. تصالحنا مع حكامنا

و التصالح الخامس الذي نحن في حاجة ماسة إليه من أجل عيش ألفية جديدة بطريقة أحسن هو تصالح مركزي: تصالحنا مع حكامنا و تنبيههم إلى أن السلطة ليست تكريما بل تكليفا. الفجر العربي يتطلب حكاما من الشعب و ليس حكاما فوق الشعب. الشعب العربي هو الذي يكلف حكامه لتأدية مهامهم، و هو الذي يعزلهم إذا تبين أنهم لا يتفانون في خدمة مصالح الشعوب العربية. السلطة الآتية من الفوق مجبرة أن تترك الطريق للسلطة الآتية من التحت. و السلطة هي تعاقد و ليست إجبارا. و التعاقد يعني التراضي و التحاب و التآزر. إن أسلوب ممارسة السلطة في العالم العربي معرضة في الألفية الحالية إلى زلازل، لابد أن نمر بها دون اندلاع براكين و انتشار نيران الفتنة، التي قد تأتي على الأخضر و اليابس في عالمنا العربي.

د. تصالحنا مع العالم

و التصالح السادس الذي قد يساعدنا في ألفيتنا هذه هو تصالحنا مع العالم، و المضي قدما من أجل بناء إنسانية أكثر إنسانية، و ديمقراطية أكثر ديمقراطية. فالعالم من حولنا يفرض علينا يوميا أن ننضبط و نتكيف و نجدد و نثابر و نخلق. لا يمكن أن نتعايش مع العالم و نحن لم نع بعد أننا جزء من هذا العالم فقط، و لسنا محوره كما توهمنا لقرون عديدة مضت. العالم قد سبقنا و تجاوزنا و نحن لازلنا نحلم في سباتنا العميق أننا خير من العالمين. لم نهضم بعد هزيمتنا و خيبة أملنا، و نعوض عن أنفسنا في بركة من التاريخ بأمجاد الأسلاف. لابد أن نكون أبناء زماننا، و أن نسارع إلى طلب الفهم، و ليس إلى ادعاء أننا نفهم. لا نفهم من زماننا إلا الشيء القليل، و ندعي أن تراثنا قد حمل لنا كل مفاتيح الدنيا، و هو لم يحمل لنا إلا بعض القفل. التصالح مع العالم يعني اندماجنا في هذا العالم دون أن ننصهر، و فرض فلسفة تفاهم و احترام متبادل بقوة الكلمة، دون التفكير في حمل السلاح من أجل إسماع كلمتنا، لأن سيفنا و مقاليعنا لا تقدر البتة على مواجهة المدافع و أسلحة الكترونية يصل إشعاعها إلى آخر رقعة في العالم العربي. التصالح مع العالم يعني التعايش و التفاهم من أجل بناء إنسانية أكثر تفتحا و أكثر تقبلا للفكر الآخر. لا يجب أن نفكر بمنطق الهزم، بل بمنطق الإقناع. يجب أن أقنع العالم من حولي أن نعيش في أمان معا، لأن الكرة الأرضية ليست ملك أحد، بل هي ملك الجميع.

هـ. تصالحنا مع الكون ككون

و التصالح السابع، و الذي لا يقل أهمية عن التصالحات الأخرى يكمن في تصالحنا مع الكون ككون، و تغيير الفكرة التي نحملها عن هذا الأخير. الكون كهبة أتتنا من حيث لا ندري لا يتقبل أن نملكه أو نعبث فيه فسادا، بل يتطلب أن نحترمه و نعترف بخدماته اتجاهنا. الشعوب العربية من الشعوب المستهلكة للمواد الصناعية و المساهمة في تلويث الكون و جعله رقعة تصبح يوما بعد يوم صعبة لحياة الإنسان. التصالح مع الكون يعني بناء وعي أيكولوجي يعقلن عاداتنا الإستهلاكية، و يحث على الرجوع إلى الإستهلاك الطبيعي الذي لا يتجاوز حدود الحاجة. لابد أن نساهم في المحافظة على الشروط التي تمكن من ضمان عيش إنساني في الكون، و ليس تحويل هذا الأخير إلى جحيم ضد الإنسان. فسوف لن نحصد إلا ما زرعنا، و إذا زرعنا الريح فلن نحصد إلا الزوابع.

تصالحات لا تمكن إلا إذا قررنا في مشروع قومي أن نخرج من عنق الزجاجة، بتخطيط و تبصر و ليس بأحلام و كسل و نوم. فالألفية الثالثة الميلادية، و القرن الخامس عشر الهجري، ليسا فقط أعدادا زمنية، بقدر ما يعبران عن تحديات لا يمكن التغلب عليها إلا باستعمال كل ما وهب لنا كإنسانية، وارثة لأسرار إلهية عديدة، و مسؤولة عما أأتمنت عليه. أن تكون إنسانا هو أن تكون مسؤولا. و أن تكون مسؤولا هو أن تفكر في سعادة الجميع قبل تفكيرك في سعادتك الشخصية. هذا ما تعلمته من أستاذي الراحل بوطالب.
**************************************************

خاتمة

ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن فلسفة الحوار كما نجدها عند أ. بوطالب لا تعني بحال من الأحوال التخلي في ديناميكية هذا الحوار عن مبادئ ما، بل بالعكس، فالحوار كما يمكن للمرء أن يستشفه عنده مرتبط بالإقناع بالقضايا التي يدافع عنها، ما دام هذا الإقناع نابع عن حسن نية و عن إيمان أخلاقي عميق في خيرة الإنسان و إمكانية استثمار هذه الخيرة فيما هو صالح للإنسانية. و الإقناع في الحوار يشترط أن يكون المخاطب يملك حدا أدنى من احترام المقنع و حد أدنى بمشاركته في الإيمان بما يحاول أن يشرحه له. و لعمري أن هذا الشرط متوفر في البروفيسور بوطالب سلوكا و فكرا. و قمة الإنسانية في نظري في فكره هذا هو أن همه الرئيسي كان هو خدمة البشرية و ليس فقط أبناء جلدته بالتفكير في مناخ فكري يقرب بين الأضداد و يخلق فضاء للتعايش السلمي و الإحترام المتبادل بين الثقافات، ليس بتقديم تنازلات رخيسة، بل باحترام ما يوفر للأخر الشروط الضرورية للعيش بكرامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -