الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقة الخاطئة بين الحكام العرب وشعوبهم

ماجد رشيد العويد

2005 / 4 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


في الأربعين سنة الماضية من القرن العشرين ناءت الأذن بما كانت تسمع من الصفات التابعة للقائد العربي، الضرورة والتاريخي والملهم. وكثيراً ما يُشار إليه، للتعظيم، بإلحاقه بشخصية تاريخية كان لها دورها، كأن نقول عن فلان من الرؤساء العرب بأنه " معاوية القرن العشرين". إلى جانب الأذن فقد تعبت العين وشقيت وأرمدت، ويكاد يصيبها العمى من كثرة ما رأت على شاشات التلفزيون المحلية العربية رؤساءها يستقبلون ويودعون وهم يجلسون على مقاعدهم وكأنهم فراعنة هذا العصر. وإذا ما فكر هذا الزعيم العربي بإلقاء خطبة ما بمناسبة ما، فإن لهذه الغاية تحتشد الحناجر بعشرات الشعارات الممجدة والمخلدة، فإذا بالناس كل الناس تحملهم على الدوام " مودة " ينوء بها الكاهل ويضطرم بها الوجدان حتى لتشعر، في لحظة مارقة، أن القائد العربي ركّب من جينات إلهية أو رسولية في الحد الأدنى، وها هو شعبه ينفطر قلبه عليه لمجرد أنه يراه من أمامه يقف فيه خطيباً. وأما الرئيس أو الملك والذي طالما استخدم الناس وقوداً لتظل نار مجده متقدة فإنه بدوره يلقي إلى الشعب " الضال " بكلمات " طيبات " من مثل " أيها الإخوة والأبناء " " أيها الشعب العظيم " فينوس هذا " الضال " تحت وقع المكرمة اللسانية التي فرّت من فم " المقدس " " التاريخي " " الضرورة " ويشعر بنشوة مَن حلّت عليه البركة وأُغدِقت عليه النعمة فتنتابه روح " القطيع " فاقداً عقله ووعيه، وتائهاً تماماً لا يدري أنه ضل الطريق. هذه العلاقة الخاطئة وأكاد أقول المحرّمة التي يقوم بها طرفان يكذبان على بعضيهما بالتخويف أو بالنفاق، هي من جلبت لهذه الأمة سوء الطالع وليس شيئاً آخر. ليس أمريكا مثلاً، وإنما هي هذه الشعوب التي استمرأت خوفها، وتلذذت كثيراً بخوفها من " فراعنتها " حتى لم تعد تستطيع الحياة بغير الكذب والنفاق. وربما يحاول هذا الشعب أن يجد العذر لسلوكه هذا في إحالته إلى ثقافة تاريخية، ولسان الحال على النحو التالي: قد استوعب، بالخوف أو بغيره، أن يكون الرئيس في الديار العربية رئيساً إلى الأبد، وأقبل بهذا طوعاً أو كرهاً، وقد أفهمه في سياق ثقافة تاريخية تبلورت في عهدينا القويين الأموي والعباسي، الأول منه، وصولاً إلى دولنا الكرتونية في العصر الحالي، والمرشحة إلى أن تزداد في عددها، جمهوريات وممالك وإمارات. قد أفهم هذا كله، بل سأذهب إلى فهمه رغماً عن أنفي وعن وجودي، وعلى رغم إرادتي التي قد يشتت شملها " الشيطان " ويسوّل لها غير مشيئة هذه الثقافة، التي شربها النسغ العربي. ولأنني كذلك فأنا الممجِد الذي لا يُشق له غبار، ورئيسي هو من ولد من رحم المفاوز والقفار، وربما أيضاً من رحم فضاءات لا يصل عقلي إليها، رئيسي وريث الأنبياء والصديقين والتابعين والصالحين. ثم يُشهر السيف: مَن منكم لا يرضى بهذا؟ هل يجرؤ أحد منكم على الاعتراض؟
يقيناً لا أحد يجرؤ، إلا أولئك الذين ثكلتهم الأمهات في الليالي التي عسّت بالظلمة والموّال الحزين، ليالي البطش وسجون العتمة التي قهرت بعض الرجال، الليالي التي يقود ناصيتها رجال ظلام وكفر ونهب وسلب، أشباه رجال عاهدوا " ضمائرهم " على التنكيل بغيرهم وإهانتهم، وعلى قرقعة الكؤوس الممتلئة بكل ما هو رجيم يستحلّون الدم الآدمي، فيفتكون بالشعراء والأدباء والكتاب ورجال السياسة، ويشربون نخب موت هؤلاء دماً ويولغون أكثر كالكلاب في ظلامهم فيهددون السجين بإحضار أمّه أو زوجته ليفعلوا بها كذا وكذا أو يكتب صك تنازله عن إنسانيته ويجرّم، من غير " جرم " نفسه ويعترف عليها بما لم تقم به.
وبرغم جوع هذه الشعوب، وبرغم معرفة الساكنين في " أولمب " عرب القرن العشرين وكل القرون المظلمة بقصة هذا الجوع الذي بات تاريخياً فإنهم يخرجون على شعوبهم بالمكرمة تلو المكرمة ويغدقون عليهم العطاء تلو العطاء، ومن خزائنهم تنهمر الدراهم والدنانير والليرات والجنيهات.. هذا ما يقولونه في تلفزيوناتهم ومنتدياتهم وفي الجامعات المحلية والإقليمية والعالمية. وأما الدم المسفوح في السجون وفي المدن والدروب فهي لمجد " الماجد " الضرورة الذي اقتحم الوغى فنال من عدوه، وضرّجه بدمه وجعله عبرة للقادمين من الأزمان اللاحقة. غير أن اللغة تتغير في دلالاتها من زمن إلى آخر، وكما " الكافر " في اللغة العربية تعني المزارع، ثم مع نزول القران الكريم اتخذت لها معنى آخر هو الذي يشرك بالله، كذلك لفظة العدو هنا فهي قد تحولت من عدو تاريخي كنا سنرمي به إلى البحر، إلى عدو موجود في الداخل يقال له الشعب المتبرم و" الناطح " لمجد النعمة المنسكبة من الأعلى.
صدام نفسه في واحد من خطاباته قال مخاطباً شعبه بما معناه " لقد أطعمتكم من بعد جوع وكسوتكم من بعد عري " ولا تحتاج هذه العبارة إلى كثير من التحليل ليبصر المرء الكمَ الهائل من العقد، يطلقها الديكتاتور دونما شعور بالخجل ودونما وازع من ضمير ولعل على رأس قائمة هذه العقد أنه متصور حقاً أنه أطعم شعبه وكساه من بعد عري. والمراقب للرئاسة العربية يجدها على الدوام، تطعم وتكسو، تبني وترفع، تشحذ الهمم وتعلي الراية. هكذا يصبح القائد العربي قائداً تاريخياً وبانياً للدول الحديثة، وضرورة حياتية. باختصار يصبح نصف إله وهو لا يعدو أن يكون مصمَمَاً لخدمة الغرب وأمريكا لقاء بقائه في منصبه يشرب من دم شعبه.
وقديماً قال الأخطل في مدح بني أمية
وأنتم أهل بيت لا يُوازنُهم بَيتٌ إذا عُدَّتِ الأحسابُ والعددُ
قومٌ إذا أنعموا كانت فواضِلُهُم سَيباً من اللهِ لا منٌّ ولا حسدُ
ويلاحظ في البيت الأول كم هو كاذب هذا الشاعر. فبنو أمية ليسوا أرفع شأناً من بيت النبي الكريم مثلاً، وليسوا أكرم منهم، ولكنه المال يصهر من الرجال من كان بلا ذمة. ولم يكن أحسنَ من الأخطل بقيةُ الشعراء بل لعلهم كانوا جميعاً كذلك إذا ما ذهبنا نحوهم هذا المذهب بعيداً عن الشعر وجودته، وليس هذا موضوعنا.
ومن يقرأ الشعر العربي، يكتشف دونما مواربة كم ساهم الشعراء القدماء في تردي هذه الأمة فمن أجل المال كان الواحد منهم يرفع من لا شان له ويحط من قدر من له شأن. ونعلم جميعاً أنه في العصر الأموي نشأ فن دعي بفن النقائض، ويتجلى عادة هذا الفن في قصيدة يرد بها الشاعر على قصيدة آخر ناقضاً ما جاء فيها من المعاني والقيم وناسباً لأهله وعشيرته المجد والفخار. هذا نجده اليوم في تشكيلات الدول العربية، وكثيراً ما تجسّد الخلاف بين دولتين عربيتين، في شعر ينال الشاعر فيه، من هذا الطرف من الدولة الأخرى وحاكمها والعكس صحيح. ونجد في الشعر تمجيداً وتأليهاً لا يقل في مقدار الكذب والنفاق عن ذاك الموجود في شعرنا العربي القديم مع فارق أن الكفة ترجح للشعر القديم من الناحية الفنية. طبعاً لا يعدم أن نجد الآن شعراء كبار يتزلفون للقادة دونما خجل بل وبوقاحة مكشوفة غير مستورة.
وإذا كان الشعر ديوان العرب، فإنه بهذا المعنى ذاكرتهم، وحامل تاريخهم، وسورهم المانع إياهم من " الضياع ". وهنا يمكن القول نسبياً إن الشعارات التي يطلقها العرب في قادتهم هي أشبه ما تكون بأبيات الشعر القديمة فالحاكم يعلو نسباً على الجميع، علماً أنه ربما لا يكون من منبت عريق، ولكنه الكذب والفجور. بعد سقوط صدام ونظامه تبين لمن لا يعلم ولا يعرف أن نشأة رئيس العراق لم تكن في بيئة راقية بل إن حياته السابقة على الرئاسة، والتي كانت بائسة، ربما تكون سبباً في نحوه منحى الطغيان والإجرام. فيأتي الشعر ليصنع منه القائد الفذ ويجعله إلى جانب الله، ويدمج الوطن فيه.
ربما لا يوجد اليوم أمّة تكذب في حق نفسها وحق قادتها فتصنع منهم، وهم أقزام، أهرامات عالية، عظيمة، مثل الأمة العربية. ولا يوجد حكام أعق بشعوبهم من الحكام العرب.!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأت معركة الولايات المتأرجحة بين بايدن وترامب؟ | #أميركا


.. طالبة تلاحق رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق وتطالبها بالاستقا




.. بايدن يقول إنه لن يزود إسرائيل بأسلحة لاجتياح رفح.. ما دلالة


.. الشرطة الفرنسية تحاصر مؤيدين لفلسطين في جامعة السوربون




.. الخارجية الروسية: أي جنود فرنسيين يتم إرسالهم لأوكرانيا سنعت