الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-كوزموس- فلسفة جديدة للروح والجسد

مسعود محمود حسن

2013 / 4 / 28
الادب والفن



عندما نلقي القبض على الجسد, ونأسره في زنزانة الروح. عندما نقيّد الجسد ونمنع عنه غذائه وشرابه وهواءه, عندما نُعامل الجسد كرقٍ من رقيق الروح نظنّ أننا أحسنا عملاً, وأننا سمونا بالروح إلى السماوات العلا. هذا ما يكاد يجمع عليه الفكر الفلسفي واللاهوتي في العالم. وتسير الأجيال هنا وهناك, في هذا الطرف من العالم أو ذاك على هذا الدرب الذي مهّد له الكثير من رواد الفكر والفلسفة في الشرق والغرب حتى صار بديهية من بديهيات الأخلاق ومسلمة من مسلمات التربية الاجتماعية.
في الفلم التركي "كوزموس" للمخرج (ريها إيردم) يقدّم لنا الشاب "كوزموس" رؤية مختلفة لما عهدناه عن ثنائية الروح والجسد.
"كوزموس" شأنه شأن "جاليليو" و"هنريك إبس" صاحب مسرحية "عدو الشعب" قال: لنقف ههنا, فأن ما اعتقدناه طريقاً مستقيماً ليس سوى سراباً مستقيماً! والسراب أكان مستقيماً أو معوجاً فأصله عدم, والعدم نقيض الحقّ. ونحن نحارب الجسد طيلة القرون الماضية ظتّاً منّا أننا نرتقي في سلّم الإنسانية, ونمضي قدماً في الطريق إلى الجنّة, لم نلحظ – والتاريخ يشهد – سوى الحروب والقتل والدمار, وأنّ حادثة القتل الأولى في تاريخ البشرية, التي قتل فيها قابيل هابيل, كان أحد الدوافع التي وقفت خلفها دافعاً ينتمي لمملكة الجسد إذا أخذنا بعين الاعتبار الحصار المتين المفروض عليه بغرض كفّ شره عن الروح, في حين أنّ الذي حصل آنذاك ويعاد في كل أيام التاريخ البشري هو أن تجويع الجسد هو الذي يؤدي لخلق الشر وليس إشباعه!
الفلم التركي "كوزموس" يُعيد ترتيب الأوراق الفكرية, ويُصحح من وجهة نظره المنطلقات والمسلمات الفلسفية التي وضعها البشر في القرون الغابرة والمعاصرة.
"كوزموس" يبدأ في وضع فلسفة جديدة بخصوص كل من الروح والجسد تقوم على بعض المرتكزات والأعمدة التي تؤسس لمجتمع بشري جديد. وأوّل هذه الأعمدة هي أنّ الجسد والروح ذاتين منصهرتين في ذات واحدة هي الإنسان, ولا يصحّ أن نفصل بينهما لا نظرياً ولا عملياً, فهما يعيشان معاً, ويفرحان, ويستمتعان, ويجوعان, ويشبعان, ويحزنان, ويمرضان, ويموتان معاً أيضاً!! ومما يدلّ على ذلك من أحداث الفلم ذلك الطفل الذي كان يعجز عن الكلام, ففقدانه القدرة على الكلام, وهي قدرة جسدية, دفعت روحه نحو الشر, فكان مؤذياً تجاه الجميع, حتى انه ضرب "كوزموس" بحجرة في رأسه فأسقتطه أرضاً مغمياً عليه وسرق منه نقوده. وما يدل أيضاً على وحدة مصير الجسد والروح في الفلم زوجة رئيس الشرطة في القرية, تلك المرأة العرجاء. حيث إعاقتها الجسدية تتسبب لها بمشاكل روحية مثل العزلة وعدم التكيّف الأسري.
العمود الثاني في فلسفة "كوزموس" هو أن صحة الجسد وسلامته شرط حتمي لصحّة الروح. وهذا طبعاً على عكس الفكر السائد الذي يقول بتعذيب الجسد وتجويعه كشرط أساسي لمضي الروح في رقيّها. و"كوزموس" الفتى الغريب في القرية يدرك هذه الحقيقة ويتداولها على لسانه وفي سلوكه, فنراه يسرق النقود ويعطيها مرّة لامرأة لتداوي ابنها, ومرّة لشاب يريد الهرب من تهمة قتل تُهدد جسده بالإعدام أو السجن وهو منها بريء. وتارة أخرى يسرق الدواء من الصيدلية ليقدّمها للمرأة العرجاء.
لكن هل نجح "كوزموس" أن يبلّغ رسالته لأهل القرية ويدفعهم نحو الإيمان بالفكر الجديد؟ في الحقيقة لا نستطيع أن ننكر أن "كوزموس" نجح مع أشخاص, لكنه فشل أيضاً مع آخرين, وأثّر في البعض بعمق, بينما تأثّر آخرون بشكل طفيف. ومن الذين نجح كوزموس في غرس شيء من بذور فلسفته في عقله والد "نبتون". ففي البداية قام هذا الرجل (يحيى) بحرق يد "كوزموس" فقط لأنه غازل ابنته "نبتون" أمام كل من كان حاضراً في المقهى, وأشاد بحسنها وجمالها, فقام الأب بإطفاء سيجارته على يد "كوزموس" في موقف يريد أن يقول فيه: أننا لا يجوز أن نمدح الجسد ونعشقه فذلك بحسب الفكر السائد هبوط بالروح من الرقي إلى الرذيلة, وانتهاك لسيادة الروح! إلا أنّ الأب أدرك فيما بعد أنه على خطأ فأصلح فكره واتّضح ذلك في موقفين؛ الأول حين ذهب إلى "كوزموس" في مكان إقامته آخذاً معه كيساً من الفحم ليتدفأ به من برد الشتاء القارص. والثاني حين أخفى "كوزموس" في بيته حينما كانت الشرطة تطارده.
أمّا الشخص الذي كان أول من آمن بـ "كوزموس" فكانت "نبتون" ابنة الرجل الذي تحدثنا عنه آنفاً. وربما يعود هذا الإيمان إلى الحادثة التي كانت السبب في تعرفهما على بعضهما البعض حيث أنتشل "كوزموس" أخاها من النهر. وفي مبالغة سينمائية نعهدها أمرا مألوفاً في الأدب والفنّ عموماً يتمكن "كوزموس" من إعادة الحياة للفتى الذي بدا ميتاً حينما أخرجه من النهر. والغرض من هذه المبالغة التي شهدناها في مواقف عديدة أخرى ضمن سياق الفلم هو لفت نظر الجمهور إلى الفكرة الجوهرية في الفلم, وهي إعادة الاحترام لأجسادنا.
أمّا الشخصية التي لم ينجح "كوزموس" في التأثير فيها فهي المعلمة التي كانت في القرية. ورغم انه ساعدها في التخلّص من صداعها المستمر من خلال تماس جسدي بين المعلمة و"كوزموس" بدأ بحركة ضمّ رأسها لمساعدتها على الشفاء ثم تطوّرت الحركة بصورة متعمدة من قبل المخرج لتصل إلى حالة الجماع, وهذا ما خلق عند المعلمة شعوراً بالندم وتأنيباً للضمير لأنها من وجهة نظرها ارتكبت عملاً مشيناً بحق الروح.وبعد أن تغلّب عليها ضميرها القديم المرتكز على الفكر المناهض لحقوق الجسد أقدمت المعلّمة على الانتحار ليكون ذلك الحدث برهاناً آخر على النتائج الكارثية للفلسفة القائمة على محاربة الجسد باسم الروح, في حين أننا نقتل أرواحنا عندما نعذب أجسامنا!
الفكرة الثالثة التي قدّمها الفلم بين طياته وتعرجاته ورموزه هي أنّ تأسيس حضارة إنسانية جديدة خالية من الحرب والقتل والدمار والاستغلال يكمن في ردّ الروح إلى حدوده الطبيعية, وإعادة الحقوق التي سُلبت من الجسد تحت شعار الصلاح والتقوى والإيمان والرقي, لتعود حالة التوازن إلى الإنسان فيتمكن من الخلاص من دوافعه وميوله العدوانية التي تعود أكثرها إلى كبت الجسد وسجنه وجلده. كل هذا دون أن يُشير الفلم إلى أي شكل من أشكال الإباحية أو البوهيمية أو الانغماس في ملذات الجسد فذلك أيضاً سرابٌ مستقيم!!
مسعود محمود حسن
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_