الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل

عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب

(Abdeljebbar Lourhraz)

2013 / 4 / 30
الحركة العمالية والنقابية


تتظاهر الشغيلة في كل أرجاء المعمور في اليوم الأول من شهر ماي من كل سنة ، احتفالا بعيد الشغل . فهذا العيد الأممي يشكل بالنسبة إليها فرصة للاحتفال و الاعتزاز بمختلف الإنجازات الكبيرة التي تم تحقيقها ، و في نفس الوقت يشكل فرصة للتعبير عن مطالبها المشروعة و العادلة في تكريس العدالة الاجتماعية و المنصفة و تحقيق المساواة .
و نحن في هذه المناسبة السعيدة ، نقف وقفة المتأمل في كل ما يرمز إليه هذا العيد الأممي من دلالات و معان . و لعلها أهمها ينصب ، على المستوى الفلسفي ، على نقد مفاهيم تتاخم مفهوم الشغل كمفهوم مركزي ، يتعلق الأمر بمفهومي "الاستلاب " و " الحرية " . فبين هذين المفهومين تتشكل مسيرة نضالية كبيرة تجمع بين كل الأطياف من عمال و مثقفين و طلبة و هيئات نقابية و جمعيات حقوقية، تحاول بعزم و طموح تجاوز تلك الوضعيات التي يفرزها واقع الشغل في كل أرجاء العالم ، مكرسة خطابا مضادا و مناهضا لخطاب الشغل ، الذي يتأرجح بين اعتباره يشكل عامل استيلاب و في اعتباره ، في مقابل ذلك ، يشكل عامل تحرر .

فكل التعريفات الفلسفية و الأنثروبولوجية التي حددت الإنسان قد عبرت عن جانبين إثنين ، الأول واع و الثاني لاواع . فالجانب الأول فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن قد انسلخ عن مملكة الحيوان بفضل ما يتميز به من عقل و وعي . و هذا شأن الفلسفات الكلاسيكية ابتداء من أرسطو ( الإنسان حيوان ناطق ) و مرورا بالفلسفة الإسلامية مع ابن رشد و انتهاء بالفلسفة الحديثة مع ديكارت و هيوم و كانط و فيخته و هيجل . أما الجانب الثاني فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن تتحكم فيه غرائز و رغبات و أهواء و تتجاذبه ميولات لاواعية و هذا شان ماركس في نقده للإيديولوجيا كوعي زائف و نيتشه في نقده للوعي السطحي ، و مدرسة التحليل النفسي مع فرويد في تحليلها لبنية اللاشعور، والوجودية السارترية في نقدها للعقل ، و مدرسة فرانكفوت في نقدها للإنسان المعاصر . و كتوفيق بين النظريات الكلاسيكية و النظريات المعاصرة في فهم جوهر الإنسان ، يمكن القول مع الفيلسوف الألماني الماركسي إرنست بلوك أن الإنسان لديه حاجات نابعة من رغباته المتعددة . و الحاجات هي بطبيعتها تعبير عن عوز و نقص ، فهي لا تتحقق إلا ارتبطت تلك الرغبات بالإرادة الواعية التي ينبغي لها أن تتوفر لديها وسائل التنفيذ " فلا وجود لإرادة غير مسبوقة برغبة قابلة للتنفيذ " .

فبناء على هذا التأطير العام، يمكن القول أن الإنسان لا يتحدد في جوهره كإنسان إلا من خلال خاصية ملازمة له ، ألا وهي خاصية الشغل ، تلك الخاصية التي جعلت منه كائنا فاعلا و مبدعا قام بتحويل الطبيعة ، كمادة خام ، إلى عناصر صناعية قابلة للاستعمالات لمتعددة .

لقد عبرت ظاهرة الشغل عن مفارقة فلسفية تضمنت تقابلا جعل ، بالتالي ، من الشغل ، من جهة أولى ، فاعلية إنسانية تقود الإنسان نحو الإبداع و الابتكار و بالتالي نحو التحرر ، و من جهة ثانية ، جعل منه أداة سيطرة و تبعية و عبودية . و هذا التقابل يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية :

ما الشغل ؟ و لماذا يعتبر في نظر العديد من المفكرين و الفلاسفة ، فاعلية إنسانية و خاصية ماهوية مرتبطة فقط بالنوع الإنساني دون باقي أنواع الكائنات الأخرى ؟ و هل يمكن الحديث ، في إطار التقسيم الاجتماعي و التقني للعمل ، عن استيلاب الإنسان جراء شعوره بنوع من الاغتراب و الغربة عن منتوج عمله المسلوب منه ؟ هل يمكن إدخال الشغل في خانة الإيجابيات أم في خانة السلبيات ؟ بمعنى آخر : هل الشغل هو أداة استعباد و سيطرة و تبعية ، أم هو عامل يسعى إلى تحرير الإنسان من تلك الطاقة السلبية الكامنة فيه ؟ و بأي معنى يمكن فهم أن الشغل يشكل عامل تحرر ، يسترد بواسطته الإنسان ذاته و حريته و كرامته المسلوبتين ؟

يعتبرالشغل ظاهرة تتسم بالتعقد . و وجه تعقد هذه الظاهرة يتجلى في كونها ، في نفس الوقت ظاهرة فلسفية و سياسية و اقتصادية و سوسيولوجية . فقد ارتبطت هذه الظاهرة أولا بالإنسان و ثانيا بالمجتمع البسيط في تركيبته العضوية، و ثالثا بمستوى معين من تطور هذا المجتمع التقني و الإنتاجي . و قد استطاع الإنسان بفضلها أن يصون كرامته و يحقق إنسانيته و آدميته . و لكن ، و في المقابل ، اعتبرت هذه الظاهرة عنصر استيلاب و أداة اغتراب تمحي وجود هذا الإنسان و تطمس هويته .

لقد اختلف عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة حول الغايات و الدوافع الرئيسية التي جعلت الإنسان يعمل ، و بالتالي ينسلخ بفعل ذلك عن مملكة الحيوان التي كان ينتمي إليها منذ أزمان سحيقة . فالبعض منهم قد اعتبر أن الشغل هو استجابة عضوية لتجدد الطاقة لدى الكائن الإنساني حتى يضفي طابع الاستمرارية على حيويته و نشاطه. بينما اعتبره البعض الآخر ، استغلالا للجهد العضلي و الفكري من أجل الكسب أو ضمان لقمة العيش واستجابة لدوافع نفسية لانتزاع الاعتراف من المجتمع أو إثبات الذات . كما أن ، البعض الآخر اعتبره نشاطا منظما و مهيكلا و ممأسسا غايته تحقيق الجودة و مراكمة الثروات و الزيادة في الإنتاج لتحقيق الرخاء الاقتصادي و الازدهار الاجتماعي و الاستقرار السياسي . فبفضله راكم الإنسان تجارب إنسانية ساعدته على سرعة التكيف مع المستجدات التي يفرضها محيطه . لكن و بالرغم من كل هذه الاختلافات في تحديد دوافع الشغل ، فقد أجمع الكل أن الشغل يشكل ، و بكل المقاييس ، الظاهرة الإنسانية بامتياز كبير.

عادة ما يتم الحديث عن حيوانات تشتغل، كالنمل و النحل و العنكبوت مثلا ، لكن ، حسب ماركس، تلك الحيوانات لا تشتغل، لأن ما تقوم به من أعمال يعتبر شيئا آليا نابعا من صميم غريزتها . فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك خاصية الشغل . و قد ظهرت هذه الأخيرة كنتيجة تفكير مسبق عن كل إنجاز . فبفضلها تمثل الإنسان مواد الطبيعة و أعطاها صورة تفيد حياته. الشغل إذن ، بحسب هذا المعنى الماركسي، هو فعل قد أثر على الطبيعة الخارجية و غيرها ، وبقيامه بذلك فقد غير أيضا حتى الطبيعة الإنسانية ذاتها .

لكن هذا المظهر الأولي للشغل الذي ظهر كعنصر محرر للإنسان من جور الطبيعة و جبروتها ، لم يصمد مع ظهور الأزمنة الحديثة ، التي ارتبط اسمها بنهضة شاملة قد مست جميع الهياكل و البنيات السياسية و الاقتصادية و الفكرية في أوربا . نتيجة تطور النظام الرأسمالي كنسق انبنى على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعلى الربح السريع و والعمل المأجور و الوفرة في الإنتاج و الاستهلاك و التوسع و الاستغلال ، فقد تحول الشغل من أداة لتحقيق الرخاء و الازدهار و التقدم في جميع الميادين ، إلى قوة استيلاببية تستنزف العامل و تحوله إلى مجرد قوة عمل تستغل جهده .

فإذا كان تقسيم الشغل وسيلة ناجعة للزيادة في الإنتاج و الاستهلاك و تحقيق المردودية و الرفاه ، كما عبر عن ذلك آدم سميت ، فإنه في المقابل من ذلك ، قد أدى إلى تدمير الماهية الحقيقية للإنسان التي تكمن في حريته و كرامته و استقلاليته . العضلي و النفسي مقابل أجر زهيد . فالفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه يكشف لنا أن الشغل ما هو إلا أداة قوية و جبارة تعمل " بلا هوادة على عرقلة تطور العقل و الغرائز و الإحساس بالاستقلالية ". فالشغل بهذا المعنى يشكل قوة مضادة تستنفذ قوة الإنسان الساعية إلى الحيوية ، و" هدف يؤمن الإشباع السهل و المنتظم " فالأمن الذي أصبحنا نعشقه كما لو كان من طبيعة إلهية ، يقول نيتشه، دائما يسود في الأماكن التي يكون فيها العمل شاقا و متواصلا

و إذا كان الشغل ، حسب ميشال فوكو قد نشأ كتحد طبيعي للموت ، و للندرة و تقلص موارد العيش ، بحيث اعتبر ، في هذا الصدد ، إيذانا بالبحث عن آليات جديدة لاستخراج ما تزخر به الطبيعة من خيرات ، فأنه حسب ، هيبرت ماركيوز ، قد حول الإنسان المعاصر و اختزله ، مع تطور علمنا التكنولوجي ، إلى مجرد آلة تعمل و تستهلك و تساهم في تسريع وتيرة منظومة الإنتاج و الاستهلاك و الإبقاء عليها كما هي .

أما السوسيولوجي الفرنسي جورج فريدمان فإنه يعتبر أن إدخال نظام الآلية في شكله المكثف في صناعة مجتمعات استهلاكية قد أخل ، بالتوازن النفسي للإنسان ، كما هدد مصيره الروحي . فإذا كان الشغل قد شكل في أصله عنصر تحرير و تحرر للإنسان فإن آلياته الجديدة التي أصبح يعمل بها ، و التي فرضها هذا النظام ، لا تسمح عمليا بتحقيق تلك الحرية المنشودة. فتبسيط الشغل قد أدى إلى اختزاله في حركات تافهة يكررها العامل تبعث على الملل و الرتابة المبلدة للذهن، و الانحدار به إلى مستوى الحيوانية . فأوقات الفراغ التي يقضيها العامل خارج الشغل تعتبر مجرد وظائف حيوانية : الأكل ، النوم ، التوالد .

و كتخريج عام ، يمكن القول مع جان بول سارتر أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق حريته المنشودة في عمله الذي يقوم به إلا من خلال الوعي بهذا الاستعباد في عمله ، ، سواء كان هذا العمل في مصنع أو في عيادة أو في جامعة ... و هذا لعمري ، هو جوهر المظاهرات التي تقام في فاتح ماي . فإذا كان الشغل يعمل على كبح جماح رغبات الإنسان في التحرر و الاستقلال الذاتي ، فإن مناهضته مرهونة بجودة الخطاب الشعبي و العالم ( بكسر اللام ) المناهض لعنف الشغل .
http://algharrazabdeljebbarblogspot.blogspot.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا يحتفل العالم بعيد العمال في الأول من مايو؟


.. طلاب جامعة كولومبيا يواصلون اعتصامهم ويرفضون تهديد إدارة الج




.. الجنيه الجملي بـ 50 ألف وجنيه إدريس بـ 700 .. سوق العملات ال


.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدرسة الخليل الأساسية وتعتقل الموظف




.. بأطباق المقلوبة .. طلاب هارفارد ينظمون وقفة احتجاجية من أجل