الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمُّ صباح

رائد محمد نوري

2013 / 5 / 1
الادب والفن



(أمُّ صَباحٍ عاملةُ خدمةٍ عملت في قسم اللّغةِ العربيّةِ في كليةِ الآدابِ جامعةِ بغداد منذ ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي وحتى إحالتِها على التقاعدِ في نهاية العقدِ الأوّلِ منَ الألفيّةِ الثّالثة.
تُوُّفِيَتْ أمُّ صباح في آب من عام 2012، قبلَ أيّامٍ ثلاثةٍ من عيدِ الفطرِ المبارك، والمفارقةُ الأليمةُ أنَّ أحداً في قسمِ اللّغةِ العربيّة /لا رئاسةً ولا أساتذةً- لم يبادرْ إلى ذكرِها بلافتةٍ تنعاها وتحيي عرقَ جبينِها تُعَلَّقُ على أحدِ الجدرانِ حيث كانت تعمل)


أُمُّ صَباح
مُمَثِّلةُ الطَّبَقاتِ المغضوبِ عليها
مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
وتِلْكَ الطَّبَقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ
بأذْيالِ الطَّبَقاتِ الآمرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
في قِسْمِ اللّغةِ العَرَبِيَّة
ظَلَّتْ تَمشي خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعْ
لَمْ تَرْكَبْ يَوْماً
زارَتْ كُلَّ مَحَطّاتِ العُمْرِ
وفي آخرِها
قِيلَ لها:
-اسْتَريحي.
-إلى متى؟
-إلى الأبَدِ.
لَطَمَتْ خدّيها
صَرَخَتْ:
-لا.
-أوما كَلَلْتِ؟
-بَلْ سئمْتْ
لكنَّ لي بناتٍ وحفدةً ينتظرونَ رجوعي
أنا إنْ لَمْ أمشِ خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعِ...
قاطعَها شُرْطيٌّ لَيْسَ في وَجْهِهِ دَمٌ
قال:
-سَيَخْلُفُكِ مِنْ أهْلِيكِ
مَنْ يَمْشي
أو يَجْري
أو قدْ يَقْطَعُ تذْكَرةً
تَمْنَحُهُ كُرْسِيّاً مِنْ خَشَبٍ قاسٍ
في عَرَبةٍ
مِنْ تِلْكَ العَرَباتِ المُخَصَّصَةِ لَكُمْ
أبْناءَ الطَّبَقاتِ المَغْضُوبِ عليها
والآن،
هاتي يَدَيكِ سيِّدتي
لآخُذَكِ
إلى حَيْثُ تَسْتَريحينَ
وراءَ جدارِ المَحَطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحتَ سماءِ اللهِ
***
وراءَ جِدارِ المَحَطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحْتَ سماءِ اللهِ
أبْصَرَتْ أمُّ صباحٍ ابْنَها
وأبْصَرَها
صَرَخَتْ:
-وَلَدِي.
وصاحَ:
-أمّاهُ.
تَعانَقا
بَكَيا
غَرَسَتْ مَشاعِرَها في خَدّيْهِ
وفي نَحْرِهِ
وما بَيْنَ ضُلوعِهِ
وغَرَسَ مَشاعِرَهُ
ما بَيْنَ عَينَيْها
وفي خَدَّيها
وفي كفَّيها
وفَجْأةً
سَلَّ ثِيابَهُ مِنْ ثِيابِها
وقالَ:
-أمّاهُ،
لمَ أتَيْتِ؟!
أوْلادي وأخَواتي هُناك
يَنْتَظِرونَ رُجوعَكِ.
-يا وَلَدي مُرْغَمةً جئت،
وأنْت؟
-تَذْكُرين؟
قَبْلَ سنين
سيّارةُ أجرة
سائقَها كُنْت
افْتَرَسَتْها أسْماكُ القِرْشِ
ورَمَتْ بي مُضَرَجاً بأسْئلةٍ حائرة
على الرَّصيفِ لِشُرْطِيٍّ لَيْسَ في وَجهِهِ دَمٌ
قالَ لي:
(هاتِ يديكَ
لآخُذَكَ
إلى حَيْثُ تَسْتَريحُ
وراءَ جِدارِ المَحِطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحْتَ سماءِ اللهِ.)
وهُنا الْتَفَتَتْ أمُّ صَباحٍ ونادَتْ:
-يا شُرْطِيُّ،
هأنا ذي
وهذا ابْني مَعي
كلانا ههُنا
فَمَنْ يَخْلُفُنا مِنْ أهْلينا؟!.
لمْ يَلْتَفِتُ الشُّرْطِيُّ الحامِلُ في بِزِّتِهِ
قَسْوةَ عاصِفةٍ شِتْوِيّة
ضَرَبَتْ بِأصابِعَ ثَلْجِيّة
أشْجارَ الدِّفْءِ الورْدِيّة
إليها
ظَلَّ يَسيرُ
حتى غابَ عَنْ عَينَيها
***
عفواً صَباحَ عِراقٍ قَتَلَتْهُ
قَبْلَ عِيدِ ميلادِهِ الخامِسِ بِشُهورٍ خَمْسة
قَسْوةُ أشْباحِ كوابيسِ شُباطَ
المَفْتونةِ بِساديّتِها التي
ما زالَتْ تَتَناسَلُ إلى يَومِنا
أوْبِأةً مُسَلَّحةً
بِقُلوبٍ مَسْعورة
اسْتَبْدَلَتْ بجلودِها
جُلودَ خِرافٍ وأرانِبَ
وحُمُرٍ أهْليّة
سَتَعيشُ الأحْلامُ عيشةً راضية
غيرَ عيشتِها التي تَعيشُ
لوْ أنَّ أمَّ صَباحٍ قَرّرَتْ
يَوْماً
أنْ تُصْبِحَ رئيسةَ قسمِ اللّغةِ العَرَبيَّة
أوْ عَميدةَ كُلِيّة
وأنْ تبْقى في مَوْقِعِها
مُمَثِّلةً
للطَّبقاتِ المَغْضوبِ عليها
مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
وتِلْكَ الطَّبقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ
بأذْيالِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
في ظُلْمةِ لَيلِ عراقٍ يَنْتَظرُ
هَدْهَدَةَ ضوءِ لسانِ الصُّبْحِ مآقيهِ
مُنْذُ قُرونْ

***


(أمُّ صَباحٍ عاملةُ خدمةٍ عملت في قسم اللّغةِ العربيّةِ في كليةِ الآدابِ جامعةِ بغداد منذ ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي وحتى إحالتِها على التقاعدِ في نهاية العقدِ الأوّلِ منَ الألفيّةِ الثّالثة.
تُوُّفِيَتْ أمُّ صباح في آب من عام 2012، قبلَ أيّامٍ ثلاثةٍ من عيدِ الفطرِ المبارك، والمفارقةُ الأليمةُ أنَّ أحداً في قسمِ اللّغةِ العربيّة /لا رئاسةً ولا أساتذةً- لم يبادرْ إلى ذكرِها بلافتةٍ تنعاها وتحيي عرقَ جبينِها تُعَلَّقُ على أحدِ الجدرانِ حيث كانت تعمل)


أُمُّ صَباح
مُمَثِّلةُ الطَّبَقاتِ المغضوبِ عليها
مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
وتِلْكَ الطَّبَقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ
بأذْيالِ الطَّبَقاتِ الآمرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
في قِسْمِ اللّغةِ العَرَبِيَّة
ظَلَّتْ تَمشي خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعْ
لَمْ تَرْكَبْ يَوْماً
زارَتْ كُلَّ مَحَطّاتِ العُمْرِ
وفي آخرِها
قِيلَ لها:
-اسْتَريحي.
-إلى متى؟
-إلى الأبَدِ.
لَطَمَتْ خدّيها
صَرَخَتْ:
-لا.
-أوما كَلَلْتِ؟
-بَلْ سئمْتْ
لكنَّ لي بناتٍ وحفدةً ينتظرونَ رجوعي
أنا إنْ لَمْ أمشِ خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعِ...
قاطعَها شُرْطيٌّ لَيْسَ في وَجْهِهِ دَمٌ
قال:
-سَيَخْلُفُكِ مِنْ أهْلِيكِ
مَنْ يَمْشي
أو يَجْري
أو قدْ يَقْطَعُ تذْكَرةً
تَمْنَحُهُ كُرْسِيّاً مِنْ خَشَبٍ قاسٍ
في عَرَبةٍ
مِنْ تِلْكَ العَرَباتِ المُخَصَّصَةِ لَكُمْ
أبْناءَ الطَّبَقاتِ المَغْضُوبِ عليها
والآن،
هاتي يَدَيكِ سيِّدتي
لآخُذَكِ
إلى حَيْثُ تَسْتَريحينَ
وراءَ جدارِ المَحَطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحتَ سماءِ اللهِ
***
وراءَ جِدارِ المَحَطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحْتَ سماءِ اللهِ
أبْصَرَتْ أمُّ صباحٍ ابْنَها
وأبْصَرَها
صَرَخَتْ:
-وَلَدِي.
وصاحَ:
-أمّاهُ.
تَعانَقا
بَكَيا
غَرَسَتْ مَشاعِرَها في خَدّيْهِ
وفي نَحْرِهِ
وما بَيْنَ ضُلوعِهِ
وغَرَسَ مَشاعِرَهُ
ما بَيْنَ عَينَيْها
وفي خَدَّيها
وفي كفَّيها
وفَجْأةً
سَلَّ ثِيابَهُ مِنْ ثِيابِها
وقالَ:
-أمّاهُ،
لمَ أتَيْتِ؟!
أوْلادي وأخَواتي هُناك
يَنْتَظِرونَ رُجوعَكِ.
-يا وَلَدي مُرْغَمةً جئت،
وأنْت؟
-تَذْكُرين؟
قَبْلَ سنين
سيّارةُ أجرة
سائقَها كُنْت
افْتَرَسَتْها أسْماكُ القِرْشِ
ورَمَتْ بي مُضَرَجاً بأسْئلةٍ حائرة
على الرَّصيفِ لِشُرْطِيٍّ لَيْسَ في وَجهِهِ دَمٌ
قالَ لي:
(هاتِ يديكَ
لآخُذَكَ
إلى حَيْثُ تَسْتَريحُ
وراءَ جِدارِ المَحِطَّةِ
في العُتْمَةِ
تَحْتَ سماءِ اللهِ.)
وهُنا الْتَفَتَتْ أمُّ صَباحٍ ونادَتْ:
-يا شُرْطِيُّ،
هأنا ذي
وهذا ابْني مَعي
كلانا ههُنا
فَمَنْ يَخْلُفُنا مِنْ أهْلينا؟!.
لمْ يَلْتَفِتُ الشُّرْطِيُّ الحامِلُ في بِزِّتِهِ
قَسْوةَ عاصِفةٍ شِتْوِيّة
ضَرَبَتْ بِأصابِعَ ثَلْجِيّة
أشْجارَ الدِّفْءِ الورْدِيّة
إليها
ظَلَّ يَسيرُ
حتى غابَ عَنْ عَينَيها
***
عفواً صَباحَ عِراقٍ قَتَلَتْهُ
قَبْلَ عِيدِ ميلادِهِ الخامِسِ بِشُهورٍ خَمْسة
قَسْوةُ أشْباحِ كوابيسِ شُباطَ
المَفْتونةِ بِساديّتِها التي
ما زالَتْ تَتَناسَلُ إلى يَومِنا
أوْبِأةً مُسَلَّحةً
بِقُلوبٍ مَسْعورة
اسْتَبْدَلَتْ بجلودِها
جُلودَ خِرافٍ وأرانِبَ
وحُمُرٍ أهْليّة
سَتَعيشُ الأحْلامُ عيشةً راضية
غيرَ عيشتِها التي تَعيشُ
لوْ أنَّ أمَّ صَباحٍ قَرّرَتْ
يَوْماً
أنْ تُصْبِحَ رئيسةَ قسمِ اللّغةِ العَرَبيَّة
أوْ عَميدةَ كُلِيّة
وأنْ تبْقى في مَوْقِعِها
مُمَثِّلةً
للطَّبقاتِ المَغْضوبِ عليها
مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
وتِلْكَ الطَّبقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ
بأذْيالِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ
في ظُلْمةِ لَيلِ عراقٍ يَنْتَظرُ
هَدْهَدَةَ ضوءِ لسانِ الصُّبْحِ مآقيهِ
مُنْذُ قُرونْ

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب