الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هناك كنت أتواجد..

محمد صالح

2013 / 5 / 6
الادب والفن


هناك كنت أتواجد..
وجوههم المشربة، تحتسي الخسة حتى الثمالة.. عيونهم مستنقع أسن، يرتل تعازيم الليل البهيم.. قتضاتهم تود أن تلوي عنق الهواء.. أصواتهم المرعبة تصرخ في وجه النزلاء ليلبوا نداء الصباح، قبل أن يستقبلوا أشعة الشمس الحارقة، التي تكشر عن أنيابها فتغرس سياطها في أجسادهم.. بملابسهم الرثة، وعروقهم النافرة التي تتعجل الموت قبل أوانه، يسوقونهم كالدواب نحو ساحة الفسحة.. شخص عجوز يجالس أصدقائه على مائدة طعام غث، يقتحم الكلاب طقسهم الحميمي ويقذفونه خارجا واللقمة اليابسة لازالت في فمه، بقدماه الحافيتان يطأطأ العجوز رأسه، ويجر خلفه أذيال الذل والعار.. كيف لا؟ وهو لا يقوى حتى على التآفف من واقعه المرير.. فبعد أن وجد نفسه وسط كلاب مسعورة لا تتردد في شرب دمه قبل نهش لحمه، لم يجد مفرا سوى إنتظار قدره البئيس.. شاب في مقتبل العمر، ببنيته الجسدية القوية يقف عند الزاوية، بلباسه الأنيق ونظراته الثاقبة التي تراقب كل شيء وثقة كبيرة في نفسه.. فجأة يتحلق حوله شبان بأعمار متقاربة يحدثهم وكأنه يعطيهم تعليمات حول عملية ما .. دفعني فضولي الكبير لإستطلاع الأمر.. إقتربت منهم لعل أذني تلتقط ما من شأنه كشف سرهم.. إنتبه العجوز لتصرفي، فإنطلق نحوي وعلامات الرعب تملء محياه، وكأن أبا يحاول إنقاد إبنه من خطر كبير يحدق به.. أمسك دراعي وسحبني نحوه قائلا، من فضلك إبني هل لي بسؤال؟.. أبعدني عن الجماعة رغم أن نار الفضول لازالت مشتعلة بداخلي.. قبل أن يقول لي، إياك بني أن تقترب منهم ثانية، فهاؤلاء كتيار جارف قد يرمي بكل من يقترب منه إلى حافة الموت.. ودون أن أتفوه بكلمة، يسترسل العجوز في إفراغ جعبته، إنهم تجار المخدرات، كلمتهم هي الأعلى في هذا العالم الفضيع، بإشارة واحدة منهم، بإمكانهم جعل حياتك جحيم.. إنزوينا إلى الحائط وعيوني لا تفارق تلك الجماعة، سيل جارف من الأسئلة يشق دماغي، ويختبر نباهتي.. من هم هاؤلاء؟ لما يحضون بكل هذا الإهتمام؟ من أين لهم بهذه القوة؟ .. أيعقل؟ أن يكون هذا المكان مستنقع أسن تنتعش فيه حثالة المجتمع؟ ألم يعتقلوا لبيعهم المخدرات؟ لماذا إذن تتاح لهم فرصة بيعها هنا؟.. وقبل أن يستقبل عقلي كل تلك الأسئلة، التي جعلته في حيرة تامة، ويرتبها ثم يستنفر كل خلاياه ويسخر طاقته كاملة ليجيب عنها،.. ويخرجني منتصرا من زوبعة التأويلات التي دخلتها، إنتشلني جواب العجوز مبدا كل الإفتراضات التي حاول عقلي حبك خيوطها،.. ببساطة لقد إشتروا السجن !!! وحولوه إلى سوق يحكمه قانون الغاب.. وقبل أن أنطق بكلمة، صرخة مدوية تصم أذان الجدار.. نفس الرجال عادوا ثانية، يرمون بكل من يجدونه أمامهم، يأمروننا بالعودة إلى جحورنا.. إستند العجوز على كتفي ليقف فقال هيا.. فسألته، لكن كم الساعة الآن؟ ابتسم، بعدها أجابني وما حاجتك إليها؟ فما يهم أن الأموار قد صدرت، ففي هذا العالم لا معنى للوقت، إذا أردت أن تحافظ على إستقرارك النفسي لا تعره إهتماما، فالرتابة هي سيدة الموقف، كل يوم ترى نفس الوجوه، تسمع نفس العبارات، وتمر بنفس الأحداث.. ودعت العجوز وتوجهت صوب مكاني، وصدى كلماته يتردد في آذاني.. إستلقيت على ظهري وغرقت في تفكير عميق بغية فك ألغاز هذا العالم الفريد والوصول إلى أسراره الدفينة.. مضت تلك الليلة والفضول لازال يخالج دواخلي، وأشرقت شمس يوم جديد، فجأة مجموعة من الحراس تركض في إتجاه إحدى الغرف، وكأنها سرب ضباع تتسابق لنهش ما إستغنت عنه النسور من جثة حيوان ضعيف.. يتعالى صراخهم، بعباراتهم المعهودة في هذا الوسط القدر.. فيخرج السجناء الواحد بعد الأخر، يرفعون أيديهم فرق رؤوسهم ويخضعون لتفتيش دقيق، طبعا مع إستثناء بعضهم من أصحاب المال والجاه.. وبعدها دخلت الضباع إلى الغرفة وبعثروا كل ما وجدوه بها من أفرشة وأطعمة وغيرها، إنها عملية التفتيش "لافاي".. ثم صرخ أحدهما بقوة مناديا على العجوز، سحبه إلى الغرفة في لمح البصر.. بعد برهة أعطيت الأوامر بالتوجه إلى ساحة الفسحة لتبدأ الأحداث المعهودة في سريانها البطيء.. رأيت العجوز عند الزاوية، توحهت نحوه، قبل أن يتجاهلني، فأدار وجهه وأنصرف إلى حال سبيله.. صفعة أخرى أتلقاها، وأسئلة اخرى تراودني، لماذا تصرف هكذا؟ أترى صدر مني ما أزعجه؟ أم أن في الأمر سر ما؟ أسندت ظهري إلى الجدار وأخرجت سجارتي فإرتشفتها بعنف ثم تفث دخانها في الهواء، وتتبعت خيوطه لعله يكتب جوابا لأسئلتي.. عدت إلى غرفتي وبدأت أتأمل كل شيء عساي أكشف أسرار هذا العالم وأدرك أين أتواجد؟؟... فجأة، بدأ ضباب الدهشة في الإنجلاء وتنكشفت أرقام المعادلة الصعبة واحدا بعد الأخر، حينها أدركت أني أتواجد في عالم غريب خاضع لقوانين خاصة... أتواجد حيثما يمنع على المرء بالبوح بما يريد قوله علانية وبصوت جوهري، فيلجأ إلى أساليب خاصة غريبة لعلها تؤدي المهة.. حيثما تخاف الأشياء التحدث إلى محيطها، لأن هناك من ينشف أذانه وكل حواسه، فتبحث هي الأخرى عن طرائق فريدة لإفراغ ما تسره مكنوناتها.. حيثما الجدران والأسلاك والقضبان، وكل مكونات الزنزانة تحمر خجلا من بؤس حياة نزلائها البسطاء، عكس ؤلائك الذين يسهرون على تسجيل كل ما يصدر داخلها ويحاولون كتمان أسرارها.. رغم ذلك أبت إلا أن توحي إلي بوسائلها الخاصة، محاولة التخفيفة من وحدتي وكآبتي لتبت في داخلي قوة هائلة، تزرع الحياة في خلايا جسمي وتدفعني إلى التمرد على الجلادين.. فرغم القيد الثقيل الذي يكبل أطرافي، الأعين التي تراقبني، والآذان التي تتحسس كلماتي رغم الأنوف التي تشتم رائحتي، رغم كل هذا وذاك، أقسمت أن أظل واقفا شامخا كشجرة السنديان لن تقوى سياط الرتابة والملل على صلب تفكيري وتكبيل مخيلتي.. هناك كنت أتواجد... سجن عين قادوس بفاس... ذلك الصرح الرهيب الذي يقشعر بدن البعض لمجرد ذكر إسمه، حيث ما تفقد الحقوق جوهرها، ويصبح قانون الغاب هو المتحكم الوحيد فيه.. حيثما لا يوجد غير وجوه لن تقوى عائلاتهم على نسيانها، والإبتسامة لا ترتسم على أي منها إلا بمشقة النفس أو بأقصى درجات الصمود والأمل.. حيثما لا ترى غير عيون يظللها الأسى والبعد والحرمان ولا يشرق بعضها إلى مرة كل أسبوع بعد زيارة الأهل.. ذلك الشلال الذي يروي هذه النفوس الكئيبة ببعض الكلمات التي تجعلها تحس أنها لازالت حية، وأهناك نفوس تقف على أعتابها تنتظر عودة الغياب، وتتشبت بخيط أمل وإن كان رقيقا، فمحال أن يبقى الإغتراب والظلم والقهر والحرمان إلى الأبد ... ومؤمنة بمجيء يوم سيكون لها لقاء.... هناك كنت أتواجد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب