الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشبكات الإخبارية: تصحير الواقع واستنبات جرثومة العنف

نضال شاكر البيابي

2013 / 5 / 7
الصحافة والاعلام


إنَّ الحقل الإعلامي، شأنه شأن الأيديولوجيا، بل هو أيديولوجيا خالصة، إذ أصبح بمقدوره أن يُهرب الكثير من الأفكار النمطية والإكراهات إلى وعي المتلقي عبر كلمات وصور ورموز وشخوص، بحيث يستمرئها مع مرور الوقت وتواتر التكرار فتتحول إلى بديهيات ومسلمات في دخيلته لا تقبل الشك ( بل أنه قد يحسبها من بنات أفكاره)، وهي بوجه عام مشحونة بالمسبقات الأيديولوجية الفاقعة.

وبحسب بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، فإن الذي يحدد أفكار وتوجهات أية شبكة إخبارية هو المحدد الاقتصادي، أي من قبل المعلنين الذين يدفعون ثمن إعلاناتهم، أو من قبل الدولة/القوى الاجتماعية، أو شركات النفط والسلاح، التي تمنح الدعم، ومن ثم تتحكم في الإعلام. فإنتاج الأفكار والتصورات والوعي مرتبط أولاً ـ حسب التعريف الماركسي ـ بصورة مباشرة وصميمية بنشاط البشر المادي وبصلاتهم المادية، إنه "لغة الحياة الواقعية".

ومقدمو نشرات الأخبار، والمراسلون، لا يرون إلا بعين المعلن أو الداعم، إذ إنهم يمارسون بوعي وبلا وعي عملية اختيار لجزء من "الحدث" ثم عملية إعادة تركيب الذي تم اختياره. أي التركيز على حدث يجذب ويدفع للمشاهدة، ومن ثم إضفاء طابع "الدراما". وهذا ما أسماه بورديو بـ" مفتاح التفسير" فالانتفاضات ومشاهد العنف رهينة باستخدام الكلمات المناسبة التي تثير حفيظة المشاهد، إذ إن الصورة تهيمن عليها الكلمات، بل لا تعني الصورة شيئاً دون التفسير (المفتاح) ويمكن للكلمات أن تسبب الدمار والخراب.

ويمكن لمجموعة من الأفكار النمطية والمسبقات المسمومة التي يتجرعها المتلقي صباح مساء والتي تُسوق جيداً وتتربع على عرش جذب المشاهدين وتتصدر الفقرات الأولى من افتتاحيات نشرات الأخبار، لكسب جزء من السوق ولو كان يعني ذلك إيقاظ النزعات الطائفية والعنصرية في النسيج العربي البائس، أن تخلق تصورات ومخاوف وتخيلات واستيهامات خادعة، تؤدي في نهاية الأمر إلى الهلع ومن ثم استنبات جرثومة العنف والتطرف.

وعلى سبيل المثال: هناك تفاقم لمعدلات القلق والخوف ـ بفعل التجييش الإعلامي الطائفي ـ من الأقليات في مصر والسعودية وسوريا، وهذا المعدل المتعاظم من القلق والخوف من شأنه أن يخلق ويقوي الأعراض العصابية والتمييز والتعصب أكثر من أي وقت مضى.

ولقد وجد متطرفو الأديان وحراس العقائد والقوميات التي تجاهر بالتمييز والإقصاء والتعصب حيال الآخرين، في الوسائل الإعلامية منصاتٍ تبشيريّة عابرة للقارات.

في كتابه "المصطنع والاصطناع" يذهب جان بودريار إلى أن ثمة اختفاء للواقع، نظراً لكثافة الفاعلية الإعلامية التي حوّلت "كل الحياة الاجتماعية" و"كل الواقع" إلى صورة مصطنعة يقدمها الإعلام. فما يقدمه الإعلام ليس الواقع كما هو، ولا "صورة عنه"، إنما يقدم صورة "ولّدها الإعلام عن صورة أخرى بدورها مولدة منه".

فغياب العلاقة بين الدال والمدلول هو ما حصل جراء هذه الكثافة الإعلامية، إذ أصبح "المعنى" كما يقدمه الإعلام، معنى الواقع، لا تعود مرجعتيه في غير ذاته، أي أن "الواقع" هو كما تقدمه الميديا، لا "الحدث" في ذاته، وتكمن كل قيمته من خلال قدرته على "غواية المتلقين". وبالتالي يمكن القول: إن "الواقع" اختفى، وظهر كبديل عنه "فوق ـ الواقع"! و"الحقائق و الوقائع" في عالم "الاصطناع" لا تعدو كونها مجموعة من الأقنعة، يحجب بعضها بعضه الآخر. وحين ننزع الأقنعة لا يبقى سوى مجموعة من الأفكار النمطية المبتذلة.

لقد اختل توازن "الواقع" بفعل تغول فعالية وسائل الإعلام الموجه في الحياة الاجتماعية، وصارت للأفكار النمطية المعممة قدرة إيديولوجية توسعية، بحيث باتت تشكل هذه الأفكار في لا وعي المشاهد "سلطة ذاتية" تكاد أن تحدد كيفية انخراطه في "الواقع" سواء فيما يتعلق بعلاقته مع نفسه أو مع الآخرين. فهذه الأفكار والنماذج القيمية والسلوكية التي يخلقها الإعلام استطاعت أن تُحفز ـ كما تفعل الإيديولوجيا تماماً ـ إيعازات أخلاقية متناقضة.

إذ يحدث أن تتوحد الهوية الشخصية في حالة عماء مع الهوية الجماعية مقابل جماعات أخرى، وهذا ما أعنيه بالإيعازات الأخلاقية المتناقضة، التي تجعل من المنتمين لمجموعة دينية أو سياسية مهيئين سيكولوجياً، لتبرير الكراهية، والاحتقار، والتعذيب، أو حتى المجازر، ما دامت من نصيب الآخر، وفي هذا السياق يمكن تفهم لماذا تحول المناضلون ضد الاستبداد إلى متعصبين عديمي الشفقة، بعد أن أمسى الوعي مستلباً ومعتماً وتائهاً.

ونحن نلاحظ أن كل إيديولوجيات التحرر تنطوي على سمة أسطورية وهلوسات وأوهام، إذ تُقدم للجمهور بوصفها منجزة ودائمة وكليانيَّة (صالحة لكل زمان ومكان)، لا متمرحلة تاريخياً، وإذا لم تحاور على نحو نقدي وعقلاني مع أفكارها، فإن مآلاتها الحتمية ليس أحدها بالطبع تحرير الإنسان من أغلال العبودية، إنما استعباده! وكما يقول كانط: إن من يريد حل جميع المشكلات، والإجابة عن جميع الأسئلة إنما يفرط في التبجح، ويشتط في الادعاء إلى درجة يكف معها فوراً عن أن يكون موضع ثقة.

ولقد أصبح واضحاً اليوم أن سلوك بعض الثوار أشبه بسلوك العصابيين، السلوك الذي يؤدي وظيفة نفسية خاصة تتخلص في التنفيس عما يختلج في النفس من كراهية وعدوان مكبوت.

وفي الواقع ثمة تشابه بنيوي/سيكولوجي بين بعض الثوار والمتسلطين، من حيث عدم الاستقرار الوجداني والعصابية لشعورهم بعدم الأمان، والقلق، والإذلال، الناتج عما يتعرضون له من إحباطات وإكراهات متتالية، والذي يؤدي بهم إلى البحث عن "كبش فداء" ليحملوه مسؤولية فشلهم وفقدانهم للأمل، ويوجهوا له عدوانهم ولو كان قبراً أو تمثالاً!

إنه عدوان مُزاح - حسب الاصطلاح الفرويدي - وتحدث هذه الإزاحة للعدوان عندما لا يستطيع الفرد أن يهاجم مصدر الإحباط بسبب الخوف أو العجز، حينئذٍ يستخدم أهدافاً بديلة كحيلة نفسية تضمن له التنفيس والإشباع بمعنى ما.

ولئن كان للعنف ولكل فعلٍ عدمي جذوره التاريخية والعقائدية والاجتماعية والسيكولوجية التي تغذِّيه وتحفز رغبة التدمير ولذة القتل، فإن الحقل الإعلامي اليوم أصبح استراتيجية عمل عنفي بامتياز، إذ إن تدعيم القاعدة الشعبية التي يحتاج إليها العنف الثوري/ المعارضة، أو السلطوي/ الموالاة، أيما حاجة، هي من أبرز مهام الحقل الإعلامي والشبكات الإخبارية. وجوهر هذه الاستراتيجية تبرير العنف وشرعنته بذرائع دينية وعقلانية، ومن ثم إحراز النصر على "العدو" وسحقه تماماً. والملاحظ أن القتلة المؤدلجين أبناء "العقائد الراسخة" هم من بين أشد القتَلة عداوةً وكبراً وأقلهم ندماً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات في لندن تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة


.. كاميرا سكاي نيوز عربية تكشف حجم الدمار في بلدة كفرشوبا جنوب




.. نتنياهو أمام قرار مصيري.. اجتياح رفح أو التطبيع مع السعودية


.. الحوثيون يهددون أميركا: أصبحنا قوة إقليمية!! | #التاسعة




.. روسيا تستشرس وزيلينسكي يستغيث.. الباتريوت مفقودة في واشنطن!!