الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيام الجد و النشاط 4

بوزيد مولود الغلى

2013 / 5 / 8
الادب والفن


وهمُ تصفية استعمار لم يجاوز القشر الظاهر ، استبدلت غين التغريب بعين التعريب ، ورقعت المقررات العلمية خاصة درس الحساب بمصطلحات مترجمة مقترضة أو مجتثة من أصلها الفرنسي ، زادت على الطفل والمعلم معاً ضغثا على إبالة ، فالمعلم الذي دأب على تدريس حصة الرياضيات غير منفصلة عن حصة دروس الفرنسية ، أصبح يدرس بلغتين : الرياضيات بلغة الضاد ، و دروس النحو والقراءة الفرنسية بلغة موليير ، فأصبح معلم اللغة الفرنسية مزدوجا يقود القسم بمقودين ، وما أصعب أن يجتمع لديه قسم برأسين ، رأس يُكونه التلاميذ الجدد المسمون تلفيقا المعربون ، ورأس يمثله التلاميذ الراسبون الذين يمثلون قارة منحسرة معزولة داخل المدرسة ، اجتمعت عليهم نظرات الازدراء من المعلمين والمتعلمين معا ، لأنهم يمثلون فئة الكسالى الراسبين في أحسن الصور ، ولأنهم يمثلون بقايا تصفية الاستعمار الفرنسي في وهْم مهندسي سياسة التعريب الذين احتفظوا لأبنائهم بمقاعد في مدارس البعثات ، و ابتعثوا لأبناء الشعب مقررات هجينة ، جعلتهم لا الى هؤلاء يعوجون ولا الى هؤلاء يعرجون ، فلا العربية أتقنوا بها دروس العلوم ، و لا الفرنسية أمسكوا بناصية التحدث بها ، فانشطروا منذ ذلك الحين نصفين وكان أمرهم فرُطا .
ومع مرور الأيام اتسع الخرق على الراقع ، وتوقف التعريب عند تخوم البكالوريا ، وأجبر الطلبة الراغبون في ولوج الشعب العلمية بالجامعات على دراسة العلوم بالفرنسية أو تغيير مسار تكوينهم العلمي نحو ضفاف أخرى كُرها لا اختيارا ، ولمن تشكو جارتنا موت حمارها الصريع ؟.
لعل حظ زيد من هذه السياسة المتقلبة مع الرياح كان جزيلا ووبيلا ، فقد كثرث عليه مصطلحات الترجمة منذ نعوم أظافره ، فاحتار أيها يأخذ ، كما تكاثرت الظباء على خراش ، فلم يدر منها ماذا يصيد ، فمادة الحساب التي عهدها تُسمى بهذا الاسم أصبحت وفق المصطلح المترجم الحامل لبعض إغراء وفتنة الجديد المتعلَّق به ، أصبحت تدعى مادة الرياضيات ، و أصبح الضرب يدعى حينا ضربا و يدعى حينا آخر جُداء . وما الجدوى ؟ تساءل زيد في خويصة نفسه . الجواب مؤجل لأن الكلام عن آخره كما حفظ عن أهله .
أجل، "الكلام بخواتمه" ، فسينتهي هذا التشرذم بين المصطلح المترجم و الأثيل حين يحصل زيد وأقرانه على البكالوريا ، فيرجعون قهرا إلى تعلم لغة موليير لمسايرة العصر ومتابعة المشوار ، وحينذاك يكتشفون أن التعريب ليس سوى تغريم كلّف الأمة حياة أجيال مجني عليها ، ولم يوقف مسلسلَ التغريب .
ما هكذا تساق الإبلיִ ، تمتم زيد وقد شبّ عن الطوق. القانون لا يرجع بمفعول رجعي ، والتغريب لا ينتهي بقرار رجعي . صاح يوما شقيق زيد وقد صار طبيبا عاش محنة الانشطار بين تعريب العلوم قبل البكالوريا " وتغريبها" ما بعد البكالوريا ، ومابين العهدين انبعثت عنقاءُ مغرب من الرماد وأعادت ما غرُبت به سلفا من تدريس العلوم بلغة موليير ، فأصبحت جل المدارس الخاصة تستورد مقررات اللغة الفرنسية والرياضيات الفرنسية من " السيد " الفرنسي الذي توهم مهندسوا المقررات العمومية المعربة ذاتَ أبريل جلاءه بل طرده من البرنامج الدراسي إلى الأبد ، لكنهم لم يعدوا العدة اللازمة لبناء صرح بيداغوجي متين لدرس العلوم ، فعاد السيد الفرنسي على استحياء في المدارس العمومية متلبسا لا يكاد يُعرف في حصص دروس الترجمة التي أريد لها ترميمُ بعض ما أفسده التعريب غير الموفق وغير المكتمل ، أو تحسينُ النسل وتلقيح سُلالات المقرر المعرّب بكلمات مترجمة كالمساحيق توضع على الوجه القبيح ، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر ؟ .سؤال تعقبه بالإجابة أحد المحللين في إحدى الجرائد المغربية متتبعا عُوار الإصلاح مثبتا بالأرقام أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين لم يصلح ما أفسدته سياسة حكومات متعاقبة منذ حكومة حزب الاستقلال الأولى. قرأ زيد بعض حلقات ذلك التحليل الماتع وقد أصبح من أهل بجدة التعليم وحملة شواهده العليا " دكتوراه " من كلية الآداب ، ونياط قلبُه تكاد تنقطع من الأسف والحسرة على ضياع جيل لم يتقن لغة العلوم ولا برع في لغة أهل الحلوم من الشعراء العرب و الفلاسفة الأولين الذين ما ضارهم أن أسّسوا بيت الحكمة لترجمة العلوم ، وما فرّطوا في لغة آبائهم الأولين . أما أتراب زيد صنائع طاحونة التعريب ، فما كسبت حكومتهم التي اتخذت القرار رهانَ التعريب ولا خيار التعميم ، وقد ذهبت أجيال ، ونشأت أخرى، وأعادت وزارة التربية الوطنية بزعامتها الاستقلالية الأخيرة إنتاج قرارات أختها الكبيرة التي أعلنت موت التغريب و نهاية عهد مدارس الأعيان ، فأجهض الوزير الاستقلالي تجربة ثانويات المتفوقين بالمغرب ، وهي جنين لم يكمل عامه الثاني بدعوى اجتثاث بقايا مدارس أبناء الأعيان ووقْف التمييز بين المتمدرسين . فصدقّه عموم الشعب الذي خطفت بصره الشعارات فهرِف بما لا يعرف كما هتف يوما انتصارا لدعوى التعريب الشامل .
وقد كان من حظ زيد أن يكون شاهد عيان على الزيف مرتين ، مرة حين أوهمه أصحاب القرار أن التعريب يجري لمصلحة أبناء الشعب الطامحين للتحرر من الاستعمار وآثار التغريب ، و كان ما كان ، ومرة حين أوهمه أصحاب القرار أنهم بإنهائهم مدارس التميز يشجعون تكافؤ الفرص بين المتعلمين ، وأنهم يريدون محاربة مدارس أبناء الأعيانיִ
تصفح زيد سجل تلاميذ ثانوية التميز اليتيمة بالصحراء ، وكأنها يتيمة دهرها، فلم يجد فيها سوى أبناء المعدمين والفقراء والمعلمين ، وهم كثُر ، جاؤوا من أقاصي الصحراء- وأصول أكثرهم من مدن الشمال - ليتقاسموا لقمة القسم الداخلي الحافية مع ثلة قليلة من أبناء الطبقة العليّة الميسورة نسبيا ، فاستيقن صاحبنا أن كلمة التمييز بين المتعلمين كلمة حق أريد بها باطل ٌ، هو الإجهاز على حق المتفوقين في أن ينبغوا بعيدا عن الزحام والاكتظاظ الذي عمت به البلوى في المدارس العامة ، وذلك ليخلو ويصفو الجوّ لأبناء المترفين والأعيان والنبلاء كي يدرسوا في المدارس الخاصة ومدارس البعثات أو يبعثوا إلى الخارج وقد مهدت لهم طريق تسنّم ذروة سنام الحكومة بعد العودة الميمونة إلى الوطن ، وقد أصبحت لأكثرهم جنسيتان ، لا تبطل إحداهما الأخرى تحت قبة البرلمانיִ.
كان أول عهد زيد بتعلم اللغة الفرنسية حين انتقل إلى قسم الابتدائي الثاني ،بدأ يتعلم كيفية كتابة الحروف الفرنسية رويدا رويدا ، وحدث ذات يوم أن وقف المعلم على أمّ رأسه يتابع ويراقب كتابته،فرفع الطفل الريشة إلى الأعلى فأصابت عين المعلم المنحني!! ، فانفجر غاضبا وصفعه بقوة وصاح :Montre LA MIROIRE" " هات المرآةיִ ، من المتحف طبعا!! ، فالقسم متوفر على متحف صغير جمع فيه المعلم كثيرا من الأشياء التي يستخدم بعضها للإيضاح.
انتدب معلم اللغة الفرنسية المذكور " محمد خرشوفا" زيدا عريفا للقسم،وأوعز إليه أن يقوم بتسجيل اسم كل من أحدث ضجيجا أو شغبا أثناء تأخر المعلم أو خروجه من القسم إلى الساحة . وذات يوم،عاد التلاميذ من الإستراحة ،وتأخر المعلم،واصطدمت تلميذة بدينة من أصل موريتاني بزيد،وأصابته في عينيه،فانشغل بمسح العين بيديه لاهيا عن تسجيل المشاغبين الذين ملأوا جنبات القسم ضجيجا وصراخا متعاليا ،وجاء المعلم نافشاً عفريته/ غاضبا وانتقم من زيد وضربه دون استفساره أو سؤاله عن عذره في عدم القيام بالواجب المطلوب. عاقبه لأن أقل ما كان يطلب منه هو إن يكتب على اللوح عبارة تقول : "القسم بأجمعه يشوش ويشاغب "!!.
اما معلم اللغة العربية "محمد الضراوي" المنحدر من القصر الكبير، والذي أقام بآسا مدة مديدة (10 سنوات أو تزيد)،فقد كان حازما للغاية،صارما ترتعد منه فرائص التلاميذ الصغار،كان شديد العقاب لا يعرف هوادة ولا رحمة،كانت ملامحه توحي بالجد الدائم...وذات يوم، امتدت يد زيد وبعض زملائه إلى بعض أثاث متحف القسم، وقبض عليهم حارس المدرسة، وسلمهم للمعلم المذكور فأنزل بهم عقابا شديدا...
كان زيد منافسا شرسا لبعض زملاء قسمه وخاصة مولود والأخوين ناجع ،لم يكن احد منهم يرضى أن يحتل نده مرتبة أفضل منه،وكانت حدة التنافس تصل إلى حدود الكراهية و التنابز بالألقاب...كان الأنداد ينادون زيدا " رأس العلم" ويزعمون أن علامة 10 ترتسم على قفاه .وما على مقدمة جبهته ومؤخرة رأسه إلا آثار شجّ بالحجر!...(دمغة).
انصرم الموسم الدراسي 79/80،وحصل زيد على رتبة مشرفة بين أقرانه،ومع إطلالة الموسم الدراسي الجديد، كان موعد الأقران مع التنافس الشديد من جديد ، إذ لا مناص من أن تجتمع السيوف في غمد ......القسم الرابع واحد لا ثاني له في المدرسة.
كان معلم اللغة العربية أحمد عياش رجلا ظريفا دائم الإنبساط بشوشا تسللت مودته إلى قلوب الجميع ، وفد إلى آسا من مدينة الكارة ضواحي الدار البيضاء،وكان يكثر المزاح مع الصغار ولكن أكثر مزاحه ضرب وطبطبة عنيفة على الظهر أحيانا،، مدرس فذ شاع خبر أو دعوى إمكانية تغييره أو تبديله، فثارت حفيظة التلاميذ في الكواليس تعبيرا عن رفضهم لتغييره، لم تكن ثقافة الاحتجاج الصاخب قد ترعرعت واستوت على سوقها ، فانخرط التلاميذ في احتجاج صامت يدعون و يتضرعون إلى الله أن يعود عياش إلى قسمه عودة الإبل إلى مبارِكها أو عودة الكريم إلى بيته ،وقد عاد ، وعودُه أحمد ....
أما معلم الفرنسية الحنصالي فقد كان رجلا صارما مقطب الوجه باستمرار لا تكاد ترى بياض أسنانه إلا منزعجا غاضبا، يكاد ينسحب عليه قول المتنبي :
إذا رأيت أسنان الليث بارزة ***فلا تحسبن أن الليث يبتسم יִ
ومن شدة الخوف من عقابه.بللّ تلميذ ملابسه...،كان من أساليب العقاب الأثيرة عنده الإمساك بأصبع السبابة و ليّه إلى الخلف حتى يكاد يقتلع وتسمع فرقعته الشديدة...عقاب مؤلم للصغار الذين تتعالى صيحات المفرّطين منهم في الواجبات المدرسية كل صباح ومساء ، وتحت سياط الرهبة والخوف ساد الجد بين التلاميذ،ومن أبطأ به جهده واجتهاده فالعقاب موعده!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس