الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جولة في ذاكرة مسفر

خليل محمد إبراهيم
(Khleel Muhammed Ibraheem)

2013 / 5 / 9
الادب والفن


جولة في ذاكرة مسفّر

الدكتور الكفيف خليل محمد إبراهيم
البريد الإلكتروني[email protected]
النقال من العراق: 07708802132
(من وثائق ملتقى الثقافة العربية الكردية؛ الدورة الثالثة؛ المنعقد في (النجف) الأشرف، بين يومي 4- 7/ 5/ 2013؛ ألقيْتُها عصر اليوم الأخير، وقد سبقني كل من الأستاذين (مفيد الجزائري) و(زهير الجزائري)، وقد أحببْتُ أن أنشره على موقعكم الأغر.

في مكان؛ تشيع رائحة القداسة فيه هو جدار يحيط بموقع زمزم؛ قرب الكعبة المشرفة؛ كنت واقفا أصلّي؛ في هذا المكان المقدس؛ كان معي أخي وأختاي؛ كان المكان المشرّف؛ مزدحما جد مزدحم؛ على عادته في موسم الحج؛ لم يكن يسيرا الانتباه إلى أحد؛ من غير العراقيين، فقد كنا نضع على صدورنا هويات؛ تبين مكان الواحد منا في مكة المشرّفة، وفي بغداد المحببة؛ الكل كان يعرفنا بهذه الشارة التعريفية؛ أدينا الصلاة، وذكرنا الله -سبحانه وتعالى- وسبّحناه، وجلسنا متكئين إلى جدار زمزم؛ طيّبها الله عز وجل، وأبصارنا تجول بين الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم عليه السلام؛ فليس يسيرا أن يكتب الله الكريم- في هذا الوقت للإنسان؛ العودة إلى هذا المكان الحبيب، لذا ينبغي التزوّد من هذا المكان الحبيب للعمر كله من جهة، ومن جهة أخرى التفكّر للتذكّر؛ من هنا يجد الإنسان نفسه منشغلا بشأنه؛ أكثر من انشغاله بأي شيء آخر؛ تردد بين أخي وبيني بعض الحديث؛ كان هناك من يجلس قربنا؛ يتكئ متكأنا أو يجعل وجهه لوجوهنا؛ قلما ينشغل أحد بما يفعل غيره أو هكذا ينبغي أن يكون؛ أما هذا الرجل الكهل، وزوجه الشابة، فقد بدا إنهما منشغلان بنا؛ تنبهنا لذلك حين سّلم الرجل علينا؛ أخي وأنا ليسألنا:-(أأنتما عراقيان؟!)
لم نفكر في ما يفكر الإنسان به في مثل حالنا، فعلى صدورنا هوياتنا، وفي أيدينا أساور تبين جنسياتنا، بل تبين عنواناتنا، (نعم)، (من أية مدينة أنتم؟!)
(من بغداد)؛ (من أين في بغداد؟!)
كان الرجل يسأل بلهجة عربية ينطقها كردي فيلي، والمرأة تتبسم؛ (ماذا تعرف من بغداد حتى نخبرك بمكاننا؟!) (أنا أرى في عنوانيكما محلة لا اعرفها)؛ (هذا صحيح، فقد كبرت بغداد كثيرا؛ تعددت محلاتها الجديدة؛ لكن هل تعرف بغداد؟!)
(طبعا اعرف بغداد، لقد قضيت فيها طفولتي وجل شبابي) وفهمت أنه من المسفَّرين في عهد الظالم؛ (متى تمّ تسفيرك؟!)
(في المرحلة الأولى من التسفيرات؛ في عام 71، وكان سكننا عند جامع المصلوب)؛ (في منطقتنا، فقد كنا في سوق الدهانة؛ أبونا (محمد إبراهيم) البقال)؛ (بارك الله فيكم؛ كان أبوكم رجلا طيبا)؛ (أتعرفه؟!)
(طبعا، واعرف السيد محمود العطار، وأخاه السيد صادق العطار، لقد كان سوقا جميلا حافلا بالسلع والطيبة والحياة؛ كان مزدحما صباح كل يوم بالمتسوقين، حتى إذا جاءت الساعة العاشرة أو ما يقرب منها؛ خفَّ المتسوّقون، وبدأ الأطفال كنس السوق وتنظيفه للعب فيه؛ كانت أيام؛ أين صار حال أبيكم؟!)
(توفي يرحمه الله)؛ (يرحمه الله، وكذلك السيد محمود وأخوه؟!)
(هذا صحيح، وحل محله ابنه جعفر)؛ (يرحم الله الجميع؛ وكيف حال جامع المصلوب؟! أهو كما كان حلوا يلتقي فيه المتحابون؟!)
(ربما لا ندري، فقد تركنا المنطقة منذ حين)؛ (لا شك أنه ما يزال حلوا، وما تزال النبقة تتوسطه، لقد كانت تظللنا إذا حمي حرّ الشمس، وإذا جاء وقت السدر؛ كانت تلقي لنا بسدرها؛ ما كان أهلونا يسمحون لنا برميها بالحجارة، إنها في جامع، إنها علوية؛ يا سلام؛ ما أحلى تلك الأيام؟!)
لم أحبب أن أقاطعه؛ أن اقطع سلسلة أفكاره وهو يتحدث عن السقة خانة؛ و كيف كانت تسقينا الماء البارد صيفاً من الصنبور مباشرة؛ الحرم؛ الصلاة؛ موكب عزاء الحسين الشهيد؛ انطلاق المواكب منه في يوم العاشر؛ الحزن الإيجابي الذي كنا نحسه تلك الأيام؛ لقد كنت اشعر أنه يلمس شيئا حميميا في قلبي قد فقدته وإن لم افتقده؛ في ذلك المكان، أو بالقرب منه؛ كنا نحس بمظلومية الحسين الشهيد، فنحس بوجوب رفض كل ظلم، لقد تربينا على رفض الظلم وكرهه، لذلك لم نحبب الطغاة؛ تماما كما لم يحبونا فكيف نحب الظالمين؟!
وكيف يحب الظالمون المظلومين؟!
لماذا إذاً سفّروا هؤلاء المواطنين البسطاء المخلصين؟!
أليس لأنهم رفضوا الظلم وصارعوه؟!
لم يحتملهم الظلم، فطردهم إلى خارج القطر؛ ألقاهم في صحراء جبلية؛ بين العراق وإيران؛ نالوا الكثير من العذاب الذي لم يكن أصعبه الموت، حتى وصلوا المخيمات الإيرانية المعدة للمسفرين العراقيين؛ لم يفكر بهم أحد غير أبناء الشعب العراقي الذي لم يرضَ هذا الظلم، كما لم يرضَ ظليمة الحسين (ع)، (فماذا تذكر غير الجامع وسدرته والسقا خانة فيه ومواكبه والمحبين الذين فيه؟)
(ماذا يمكنني، أن أنسى كي أتذكر؟!
إنها ملاعب صباي، ومراتع أحلامي، حيث الكتّاب الذي تعلمت فيه القرآن الكريم لأول مرة، حيث سمعت الأذان لأول مرة، حيث درست في مدرسة رأس القرية حيث الأصدقاء من الطلاب و حيث الطيبون من المعلمين الذين قد يضربوننا لكن بمحبة، لقد كنا نحس ذلك منهم، لذلك كنا نحبهم، لم يَشْكُ أحدنا معلمه لأبيه أبداً، ولو شكاه لعاقبه على تلك الشكوى، لقد سقونا المحبة مع الدرس.
هناك تعرفت لأول مرة على الفكر اليساري الذي يحارب الظالمين، حيث دخلت المدرسة، حيث كرهت ظلم البعث؛ قبل أن يستلم الحكم للمرة الأولى في عام 63 حيث عرفنا حزبا يبشر بالظلم الذي طالنا يوم أتمّ تسفيرنا ظلما وعدوانا؛ يوم أخرجنا من وطننا بلا شيء وبلا ذنب؛ آه ما أقسى البعثيين؟
وتنبه إلى أننا ما نزال في العراق، فكف عن البعث والحديث عنه، إذ ما يدريه من نحن؟!
وعاد يسأل عن رجال المنطقة الذين غادروا أرضنا إلى رحاب الله سبحانه وتعالى؛ (ما الذي فعله مهدي عكّوكة، وعباس البقال، وطلّوبي القندرجي، وعبد الأمير الحلاق؟!)
لقد صارت أسئلته أسرع كأنها قذائف السدر الذي تقذفه سدرة جامع المصلوب أو رطب النخل الذي كان في بعض البيوت، ثم تمّ قطعه كما تمَّ اقتطاع الكثير من أبناء الشعب العراقي من أماكنهم، ورددنا عليه بسرعة أن هؤلاء الرجال جميعا قد اختارهم الله تعالى إلى جواره، وإن اغلب أبنائهم قد غادروا الطَرَف، وقل من يعرف عنهم شيئا، وغطت وجه الرجل غمامة شفافة من الحزن على هؤلاء الذين تربى بينهم، والذين كان كل منهم مثل أبيه أو عمه؛ طالما صرخوا به -كما كانوا يصرخون بنا مربين لنا- أبناؤهم كانوا أصدقاءه بل أخوته؛ من يدري ما الذي حلَّ بهم؟!
لعل الله تعالى اختارهم إلى جواره عبر سجون الظالم؛ لعلهم فروا من البلاد لما أصابهم من الظلم، لعلهم ممن تمَّ تهجيرهم في الوجبات الكثيرة المتتالية؛ ماذا يمكنني أن أقول له؟!
كيف يمكنني أن اصف له ما آل إليه الأمر بعدهم؟!
لقد انتبه إلى حيرتي؛ دمعت عيناه؛ تبسمت زوجه، تساءل تساؤلا تقريريا كان يعرف أن إجابتنا عنه ستكون:-(نعم) هذا التساؤل التقريري هو (هل معكم من يتجسس عليكم؟!)
لم ينتظر إجابتنا واعتذر، (لقد كنت أريد أن احدث أي عراقي؛ أي بغدادي، فكنتم انتم؛ اعتذر لكم إن كنت سببت لكم أي إشكال أو إن كنت سأسبب لكم أي إشكال)؛ اعترف أنني شعرت بأننا قدمنا له بلسما شافيا لجرح عميق أحدثه له فراقه لبغداد، وأنني كنت مستعدا للتضحية بأي شيء كي أضمد له هذا الجرح، والخير في أن أحدا من جواسيس الظالم؛ لم يلتفت إلى هذه الجولة الحوارية في المكان، ولو تنبهوا، فالمؤكد أننا كنا سندفع الثمن غاليا كما دفعوه، وربما كان الثمن الذي سندفعه اكبر، لكن ماذا كان يمكنني أن أقول له عن المكان الجميل الثابت في ذاكرته، والذي ناله الكثير من الضيم في عهد الظالم، واستمر الضيم يناله بلا حساب؟!
ترى أعاد ليرى ما حلَّ بمنطقته التي تركها تزهو؟! أم ما يزال يتذكر ما كانت عليه يوم فارقها أو وصفنا لها؟!
هذا ما لا اعرفه، أتمنى لو عرفته منه أو من أحد عرف هذه المحادثة، فقد مضى عهد الظالم، وعاد الكثير من إخواننا المسفرين، ولو أن اتباع الظالم؛ ما يزالون ينعتونهم بالصفويين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب