الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرح مفتوح

فؤاد قنديل

2013 / 5 / 12
الادب والفن






من أين هطل كل هذا العدد من الذئاب الضخمة شائهة الألوان ؟! .. صدرى المترع بالأسى والحزن يطل عبر عيوني المجهدة من قلة النوم إلى المروج التي أجدبت والخضرة التي اصفرت وتحطبت .. الغبار يغطى الأفق ويتعالى من تواصل دهس الحيوانات التي قدمت فجأت ورسمت المشهد الكئيب . من داخل غرفتى العلوية أرقبها خلال خصاص النافذة . ضوء الفجر الشحيح يسقط عليها وهي تتهادى كالطواويس الملعونة . نسمات قليلة تتسلل إلي أنفى كلما فتحت شراعة الباب أو زجاج الشباك.. النسمات محملة بمزيج من راوائح لحم ودم وعفونة وبقايا شجن ليلى متفحم . تتخاطف الذئاب أفخاذ الماعز التي أقفرت منها المزرعة . أختنق بأنفاسى وأنين قلبى المحطم على قارعة سنوات طويلة قضيتها بحماس وعرق يحفر مجاريه على جسدى وأنا أبنى هذه المزرعة حتى صارت حديث الحساد والعابرين . أعرف كل عشبة فيها وأمر بينها وأطمئن عليها وأسألها عن أحوال نضرتها.
الظلمة تشمل كل شيء، لا تثقب زجاجها الأسود إلا دوائر الضوء المبهر تنطلق من عيون الذئاب . عشرات الثقوب اللامعة والمرعبة تمتد في خطوط مستقيمة .. الأفكار تنهكنى بلا جدوى .. الجنون يزرع شجره بأعماقى ، والعجز يرويها . أضرب رأسى في الجدران التعسة . أصبح من المستحيل أن أغادر بيتى إلى مزرعتي التي تبعد نحو ثلاثمائة متر .. المسافة الآن بينى وبين المزرعة مثل المسافة بين السماء والأرض ومثل المسافة التي تفصل بينى وبين من عاشوا قبل عشرة آلاف عام .. تسافر نظراتي في المكان المعتم فلا تقع إلا على أشعة حادة تطلقها عيون الذئاب ، بينما ضوء الفجر يلامس أعالى الأشجار التي بدت كمردة يرتدون السواد.
أين كان عقلى عندما تسللت تلك الكائنات ذات الأفواه التي تشبه أفواه التماسيح وهي مغارات تصطف على جوانبها الأنياب البيضاء المسنونة ؟ ! . كائنات لم أشهد ولم أسمع عن مثلها من قبل .. أين كنت عندما تفجرت الأرض عن تلك الكائنات الأسطورية التي تهيمن تماما على كل الطرق المؤدية إلى المزرعة وإلى النهر ..لابد إنها قضت تماما على البقر والماعز والدواجن.. كانت عندى بندقية لكنها الآن جثة بعد أن أهدرت الرصاصات القليلة فى محاولة قتل بعضها ولم أقتل غير اثنين .. كانت عندى ثلاثة كلاب قوية وسريعة ويقظة .. ليلة بعد ليلة تلاعبت بها الذئاب فرافقتها واستنامت إليها ثم اختفت أو تأذبت.
بالنهار أرقب الذئاب وهي ممددة على التل الأخضر وعلى قطيفة حقل البرسيم ، تستمتع بدغدغة أشعة الشمس الصباحية الوديعة ، ثم تتمطى وتلوى أعناقها نحوى ولا تبالى ، بينما في الليل يمزقنى عواؤها وهى تتنادى وتهدد من يفكر في الاقتراب. الليل يحمل مع ظلامه كتل الصقيع وأنا ريشة طائر هزيل في مهب الريح.
فكرت طويلا في سبل طرد الذئاب والتخلص منها بأى صورة ، فلم أعثر على أية سبيل مجدية . ودائما كان الأمر ينتهي بي إلى النوم والإحساس بأني مجوف مهما قضمت من خبز.. لما نفد الطعام لم أجد غير الخبز الجاف الذي كنت دائما حريصا على تخزينه ، فقد كانت عبارة جدتي موشومة على صدرى :
- .. لا تحمل الهم .. العيش مخبوز والمية في الكوز
طلمبة المياه في الحديقة الخلفية المكشوفة ، بسرعة أختطف منها كل يوم ملء دلو .
قمت مفزعا من نوم كان ثقيلا وأنا أضحك عاليا وأرتعد فقد كنت أحمل مشعل نار وأركض خلف الذئاب وهي تفر منى فرار الجبناء . بقيت مستيقظا ومندهشا حتى الصباح .. لا ينام النوم الثقيل إلا خالى البال ، فهل أنا هو ؟! .. مضيت أتأمل الحلم الذى يمكن أن يتحول إلى حقيقة .. أعددت كل شيء ثم قررت ألا يكون ذلك بالليل حتى أتمكن من رؤية أرض المعركة بكامل أطرافها .. راجعت نفسى عدة مرات .. إما أن تكون الهبّة قوية وكاسحة أو الموت .. الذئاب كثيرة ومتوحشة .. لابد أن تكون الفكرة محكمة إلى حد كبير . لابد أن أغرسها بأعماقى وأرويها ..لن أفلح إلا إذا أصبحت الفكرة أنا وأنا الفكرة .. لن يعيش الإنسان حياته مرتين. ولكنه إذا قرر أن يعيش مرفوع الرأس فسوف يعيش إلى الأبد.
في الصباح الباكر انطلقت بالمشاعل في اتجاه الذئاب المسترخية .. كانت معلقة بصدرى عدة سكاكين ومدى. كالعاصفة هجمت وأنا أصرخ . أبهجنى الذعر الذى أصاب الأعداء . تخلصوا من عباءة الدعة . هبت الذئاب كأنها عازمة على الطيران . وقع بعضها من فرط الاضطراب وصدمة المفاجأة . انتشيت واندفعت وهم يتفرقون في كل اتجاه، الذي ألحقه منها أطعنه عدة طعنات .. ما أعظم النصر ! . لن أتوقف . سوف أقضي عليها تماما . بقدر القهر المكدس بأعماقى سأنتقم .. لن أسمح بعودتها أبدا فقد أوشكت أن تقضى نهائيا علىّ.
بلغت المزرعة وأنا في أعقابهم لا أتحول . مزقتنى الحسرة وأفسدت نصرى لحظات وأنا أراها جرداء خاوية . ازداد هجومي وطعنى . فجأة ارتد كبيرها نحوى وطار فوقى .. أوقعنى وأنشب مخالبه في بطنى . سقطت ورغم صدمتى فقد أسرعت بسحب سكينى وأخذت أطعنه حتى أغرقتنى دماؤه .. ظل ينبض بقوة ويلهث حتى خار .. اختلطت دماء القاتل بدمائ المقتول . كان لحمه المحموم يصرخ في لحمى ، وقلبه يدق في قلبي حتى تهاوى وسكن .. دفعته عني .
أرسلت نظراتي إلى السماء وإلى التلال البعيدة الحمراء .. كان المشهد فسيحا و مشرقا . خلت الساحة جميعها من أى أثر للكائنات القميئة الشرسة ، لكن الجرح كان في بطني مفتوحا باتساع العالم . أحشائى تتدلى إلى جانبى بينما رعدة تسرى في بدني كلمسة الكهرباء .. تيار الهواء موجه إلى داخل بطنى المبقورة .. لا أستطيع الحركة بينما الألم ينهش عروقي ولحمي . عيناى على المزرعة . . بعد لحظات .. يا للسعادة ! .. لمحت عنزة وعدة دجاجات تطل برؤوسها في رعب . لابد إنها ولدت جميعها الآن فقط . ولدت في قلبي . ابتسمت ثم انشغلت بالجرح المفتوح . حرارة الشمس شرعت تكويه . الذباب يلعقه ويلسعنى . الغربان حطت بعيدا ثم دنت . حومت حدأة . ماذا أفعل ؟ إذا طال بي الوقت وأنا ممدد وعاجز ومهدد بالجرح المفتوح فلن يكون مصيرى إلا الموت البطيء الذي سأعيش كل لحظاته بقلبى وأعصابي . سوف تعود الذئاب أقوى مما كانت وسوف تبدأ بجسدى مفتتح عصرها الجديد . الجرح مفتوح .. وأمامي عمل كثير .. أمتار قليلة تفصلني عن المزرعة .. إذا قدر لى أن أعيش فسوف أنقل إليها بيتى . لا يجب أن أكون بعيدا . الذباب بالمئات ينهش جرحى المفتوح ، بينما كانت روحي تهش للأمل الذي يتشكل على وجه الأفق ، وتمنيت أن أمتلك القدرة على الغناء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب