الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كونفوشيوس جسر متين بين الحكمة والسياسة

مسعود محمود حسن

2013 / 5 / 14
الادب والفن


كونفوشيوس جسر متين بين الحكمة والسياسة
ليست مهمة المصلحين في الأرض سهلة, ولا سيما إذا كان الحكيم يعيش بين أكناف قوم يجهلون. فكيف يمكن للحكماء أن يغيروا المجتمع, ويزيلوا الظلام الذي يسكن في العقول؟ إلى أي حدٍ يمكنهم أن يقتربوا من السياسة, ومتى ينبغي أن يبتعدوا؟ ومن أين عليهم أن يبدؤوا الإصلاح, ومع من؟ كيف يمكنهم تطهير القلوب من إرث الفساد ويزيحوا الليل الجاهل ليشرق شمس العدل والعلم؟ مسيرة كونفوشيوس- كما عرضها الفلم الذي يحمل اسم الحكيم الصيني ومن إخراج المخرج الصيني (هو مي) بإنتاج عام 2010 - يقدّم إجابات مختصرة على هذه التساؤلات الصعبة.
لنبدأ أولاً بعرض البيئة التي كان كونفوشيوس يعيش فيها. فعلى المستوى السياسي إمبراطورية "زاو" تحيا صراعاً قوياً على السلطة في داخلها بين الممالك الثلاثة؛ مملكة "لو" التي يعيش فيه كونفوشيوس, ومملكة "تشي", ومملكة "ويي", وكل واحدة من هذه الممالك الثلاثة تكيد للأخرى وتتربص بها. والمجتمع مقسّم بين طبقتين سياسيتين هما الأسياد والعبيد, إذ لا مكان لمواطنة حقيقية في تلك الممالك, وإنما هناك طبقات حكم وعائلات تتقاسم النفوذ في المملكة الواحدة, والعدل مفقود بين الرعية والحكّام. وعلى المستوى الثقافي والديني فالقرابين التي تُقدّم للإله بشرية, والغايات فوق المبادئ, والقوة فوق العقل, والإنسان ذخيرة الحروب, ومصلحة القادة والعائلات فوق مصلحة الوطن بطبيعة الحال. وعلى المستوى الاقتصادي إما أن تكون ممن يبحثون عن لقمة الخبز, وإمّا أن تكون على شاكلة قارون!! والسؤال الثقيل هنا هو كيف يمكن لكونفوشيوس وسط هذا المحيط الجاهل والظالم أن يبدأ؟
البداية كما يُقدّمها الفلم كانت مع الحكمة, فالحكمة بوصلة الدولة ويحتاجها القادة كلّهم, وإن كانوا يرمونها بعيداً إذا تعارضت مع مصالحهم قصيرة الأمد, أو تصوراتهم الضيقة. الحكمة والعلم الاجتماعي والسياسي الذي يتمتّع به كونفوشيوس تُقرّبه من الحاكم الذي يضعه والياً على إحدى ولايات مملكة "لو", وينجح الحكيم في إدارة الولاية على أحسن وجه, ويذيع صيته في كل ممالك إمبراطورية "زاو", وخاصة بعد أن ينجح في مهمة عظيمة وفي غاية الصعوبة والتعقيد إذ يتمكن من استعادة ثلاثة ولايات كانت لمملكة "لو" وتم احتلالها فيما مضى من قبل مملكة "تشي" دون أن تضطر مملكة "لو" إلى خوض أي حرب مع مملكة "تشي", مما أوضح دون شك رجاحة العقل ورفعة الحكمة التي يتمتّع بها كونفوشيوس, وأثبت لمن حوله من القادة والملوك أحد كبرى مبادئه في السياسة الرشيدة وهو أنّ قوة العقل تفوق قوّة السلاح ,فارتفعت مكانة كونفوشيوس عند حاكم ولاية "لو" وعيّنه وزيراً للداخلية رغم الاعتراضات التي أبداها أصحاب الوجاهة والسلطة من العائلات الحاكمة في "لو".
المبدأ الثاني الذي قدّمه كونفوشيوس لتلامذته ولنا بطبيعة الحال, أنّ المبادئ ليس مجالاً للمساومة, وأن السياسة يجب أن تتبع المبادئ, وأن السلطة وسيلة بيد العدل وليس العكس , فقرر كونفوشيوس أن يهد الأسوار الثلاثة التي كان العائلات الكبيرة في مملكة "لو" قد أقامتها حول ولاياتهم ليخفوا عن الحاكم مشاهد الظلم التي تجري خلفها تجاه الرعية. ونجح السياسي الحكيم في هدم جدارين من الجدران الثلاثة لكن ضغط العائلات الكبرى والتهديد المبطن للحاكم بالانقلاب عليه أجبر الحاكم على إيقاف إجراءات الهدم ويعيد التاريخ كما كان في السابق, أي أنّ حاكم مملكة "لو" تاجر بالعدل في سبيل الحفاظ على عرشه, الأمر الذي وضع كونفوشيوس أمام مفترق طرق, فإمّا أن يبقى وزيراً ويحتفظ بسلطته دون حضور للعدل, وإمّا أن يترك السلطة حفاظاً على موقفه من العدل. ويعطي كونفوشيوس درساً عظيماً لتلامذته, إذ يرى أنه لا قيمة للسلطة إذا غاب العدل عنها, ويقرر أن يهجر مملكته التي ساد فيها الجهل والظلم على الحكمة والعدل, مذكرا إيانا بموقف النبي إبراهيم عليه السلام الذي هجر قومه أيضاً لمّا يأس من تصحيح مسارهم أملا في إيجاد بيئة جديدة تلقي سمعاً لأفكاره ومبادئه السامية.
يتفاجأ كونفوشيوس وهو يخرج من مملكته أن تلامذته اتبعوه أيضاً فيتوجهون معاً صوب مملكة "ويي" التي يحكمها ظاهراً ملك عجوز وباطناً زوجته الشابة التي كان لها نصيب من الحكمة في الحكم لكن دون حضور للعدل. وفي حوار مباشر بين كونفوشيوس والملكة يتمكن الحكيم من زرع بذور مبادئه في قلب الملكة ويقول لها مقولة في منتهى القوة والجمال: "أنّ مَن يؤمن بهذه المبادئ في الصباح, لا يأبه إن مات لأجلها في المساء", وتقوم الملكة بتغيير سياسة حكمها تجاه الرعية نحو العدل والإنصاف, لكن كما حدث في مملكة "لو" فهناك دوماً من يقف ضدّ الإصلاح والعدل, فيتم اغتيال الملكة بسهم في قلبها, إلا أنها تتذكر مقولة كونفوشيوس تلك فتموت وهي مبتسمة!
يهاجر كونفوشيوس مع تلامذته مملكة "ويي" وتستمر رحلتهم سنيناً طويلة يداوم فيها كونفوشيوس بتعليم تلامذته الحكمة والعدل والخير, ويطلب منهم أن يطبقوا تلك المبادئ في حياتهم, وتأتي العروض من هنا وهناك لتلامذته ليساهموا في الحكم في ولايات إمبراطورية "زاو", والتلاميذ يتحمسون لذلك لأنها الفرصة ليروا مبادئهم وقد أصبحت أعمالاً تُرى لكنّهم يأبون أن تسود المصلحة والسلطة على المبدأ شأنهم في ذلك شأن معلمهم, فإمّا أن يحكموا بالعدل والخير, وإمّا أن يعتزلوا أو يموتوا شهداء في سبيل المبادئ.
أحد المشاهد في الفلم فاقت الأخريات لقوة الفكرة التي طرحتها للمتلقي, ففي أثناء مسير كونفوشيوس مع تلامذته على بحيرة جليدية, يتكسر الجليد تحت أقدامهم وتسقط لفافات الحكمة التي كان كونفوشيوس يكتبها في الماء القارص تحت الجليد فيقوم أحد التلاميذ برمي نفسه في البحيرة الجليدية ويغطس في أعماقها لينقذ ما يستطيع من تلك اللفافات ويتمكن من إخراج العديد منها لكن البرد كان أقوى من قدرته فيتوقف قلبه عن النبض ويموت بين الجليد ولفائف الحكمة!!هذا الحادث كان له كبير الأثر في قرار كونفوشيوس الذي اتخذه حينما أرسل رئيس حكومة مملكة "لو" في أثره طالباً منه العودة إلى مملكته فيوافق كونفوشيوس على العودة شرط ألا يعمل في السياسة وإنما في التربية والتعليم فقط. ويؤسس كونفوشيوس حين عودته مدرسة كبيرة في مملكته ويبدأ بتعليم مبادئه بشكل موسع وكأنه استقر أخيرا على الحلّ الأمثل لمشكلة التغيير, وهي التربية والتعليم وتنشئة الأجيال على المبدأ القويم, ولسان حاله يقول: بهذا سوف نصلّ!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا