الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عَايْشة

سعيدة عفيف

2013 / 5 / 18
الادب والفن


.. وضعت قُلّتَي الماء الكبيرتين بعدما ملأتهما في عدلي الخُرْج، لم تبق قطرة ماء بالبيت وأمي تنتظر، والطريق ملتوية وبعيدة. كنت أود أن أبقى قليلا للراحة هنا، أنعم بهذا السكون المجاني. لكن الوقت يدهمني. ولم يتبق متسع من الوقت لأقصد الحانوت، فقد بقيت أشغال خشبية من أمس تنتظرني لأنعمها بمزيد من الحكّ وأذهنها كما أوصاني الْمْعَلَّمْ.. امتطيت حماري. بعد أن ارتوى جيدا من الساقية المحاذية لمنبع الماء العذب، حرك أذنيه عاليا، وأصدر شخيرا، لم يكن نهيقا بمعنى الكلمة. لعله لا يرغب مثلي في الرجوع بسرعة. ربتُّ على عنقه، ففهم أني أرجوه أن يتحرك ومضينا..
- ادِّينِي مْعاكْ فِينْ مَّا مْشِيتِي آلْحْبيبْ ادِّينِي مْعاكْ..
يحرك حماري أذنيه ثانية فتنتظم خطاه، لا بد أن هذا الحمار شديد الذكاء، يسمع دندناتي فيمشي على خط مستقيم لا يزيغ. أمسح ظهره برفق ومساحة من عنقه مشجعا:
- لا تهتم يا صاح، ما دمت تستجيب كعاقل سوف أعتني بك أكثر، أعدك.. لا تبالي بأولئك الذين أوسعوك صفات قدحية ربما هم يعانون اكثر منها لا أنت.. لا تكترث، فأنت لم تَحْرَنْ ولم تغضب يوما لأنني أعاملك جيدا.. ثم أنت تعبر عن رأيك دائما، ولم أذكر يوما أني فرضت عليك شيئا أو أكرهتك على ما لا تستطيع له حولا ولا قوة.. انظر، أحمِرة كثيرة أصبحت تعبر عن رأيها وتحتل المراكز القيادية.. من يدري، قد تقود بدورك قطيعا أو تتبوأ منصبا عاليا في يوم من الأيام؛ لست الحمار الذهبي طبعا لكنك حماري المميز..
يحرك أذنيه ثانية، فهو يفهم قصدي جيدا، ثم أمسح مرة أخرى بيدي على عنقه المستجيب أيضا، و نتقدم بحزم في الطريق..
وضعت الْقُلَّتَيْن بمكانهما المظلل تحت السقيفة بمدخل الدار. دعتني أمي لأكل شيء قبل الذهاب إلى الحانوت، أعطيت للحمار تبنا بالقدر الذي يسد به رمقه هو الآخر.. وخرجت.
في طريقي، لفت انتباهي تجمهر عدد من نسوة الدوار حول المَقَدَّم الذي كان يتكلم ملوحا بيده يمنة ويسرة، بينما النسوة يستمررن في لغطهن.. اقتربت أكثر. لابد أن الأمر له علاقة باستعراض ما أو بحفلة وطنية تنظمها السلطة المحلية بالمنطقة.. وعون السلطة يقوم بإعلام الجميع، وباستنفارهم للاستعداد.. للامتثال.. للحضور.. وبتهديدهم أيضا بعدم تسليمهم أوراقهم عند الحاجة، إن اضطر إلى ذلك..
انصرف المَقَدَّم. تَزمُّ عايْشة شفتيها غيظا، وتَصْرِفُ من عينيها شررا على قفاه، ودت لو تَحوَّل مقصلة تفصل رأسه عن جسده..
- اتْفُووو عْلىَ كَمَّارَا.. لَحَّاسِينْ الْكَابا.... الله يخليك دِيمَا هَاكّاكْ...
تلكزها إحداهن وتضع أصبعا على فمها مشيرة إليها بأن تخفض صوتها، فالمقدم ما يزال غير بعيد عن تجمعهن.. لكن هذه الحركة زادت من غضب عايْشة:
- لم يعد يهمني شئ.. تَمّارة والجّوع ها حْنا عايْشينْ فيهُم، راح العمر ولم يبق شيء أخاف عليه.. أربع وعشرون سنة خلت من الغناء والرقص في الطرقات خلف سياج الاستعراضات، بالأوتوبيسات، بحفلات الأعياد الوطنية وغيرها.. لبَّيتُ النداء دائما على حساب نفسي وأسرتي، ..عايْشة آجِي تْغَنِّي وْتْشَطْحِي.. عايْشة سيري تْغَنِّي وْ تْشَطْحِي.. وِيلا بْغِيتْ غِيرْ شِي شَهادة دْيالْ الضّعْفْ (الإحتياج) كَتَطْلَعْ لِيَا روحِي مْعَ هاذْ الْحَيَوانْ... وماذا جنيت من كل ذلك بعد أن هرمت، وماذا سيقع لي أكثر مما وقع.. وبماذا أعيل ذاك الهرم مثلي الذي لم يعد يقْوَ على الخطو أبعد من باب البيت.. حتى أنني لم أستطع أن أوفر له كرسيا متحركا.. وكل قايْد لا يفكر إلا في تركي إرثا للآخر الذي يليه.. وكأنني لا أشكو علة أو لم يَبْدُ من أحوالي ما يمكن إثارة انتباههم.. لم يعترفوا يوما ولو بشيء من الخدمات التي قدمتها طوال السنين الماضية.. لا يتذكرونني إلا عند الحاجة.. تعبت من كل ذلك... وُهَاذْ الْبَرْكَاكْ رَاهْ عَاقْلَة عْلَى النّْهَارْ اللِّي تْزَادَتْ فِيهْ امُّو وْبَّاهْ وُ مَا عَنْدوشْ الَوْجَهْ عْلاَشْ يَحْشَمْ ...
تصغي النسوة إليها وهي تشكو همها وهمهن المشترك.. فكُلُّهُنَّ عايْشة..
يصل الأوتوبيس، تتقدم الزعيمة عايْشة، حاملة عروستها القصبية الموَشَّحة بــــ "تَكْشِيطَتِهَا" البالية إلا من خيوط ذهبية تتحدى الزمن الذي عفا عنها، لتحافظ على لمعانها الكذاب من بعيد.. تضع رجلها على درج الأوتوببيس. تصعد، وتتبعها باقي النسوة ملوحات بعرائسهن، حاملات أكياسا بلاستيكية وقنينات الماء وما يتقين به اشتداد الجوع طيلة اليوم.. فيما يعلو صوتهن بإحدى الأهازيج الشعبية:

- ... وَ رَاهْ ادِّيتُو وْ رَاهْ ادِّيتُو يَا لاَلَّةَ عْلىَ زيِنُو رَاهْ ادِّيتُو..أَهَااااااهْ..

بعد لحظات قليلة، تبتعد الحافلة المتمايلة من فرط تكدس الراكبين، فأكمل خطواتي المتبقية إلى الحانوت..

سعيدة عفيف
مراكش في 03/5/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية


.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!




.. صراحة مطلقة في أجوبة أحمد الخفاجي عن المغنيات والممثلات العر


.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24




.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع