الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيادة السورية: أيّ انقلاب أبيض يصلح البنية المستعصية؟

صبحي حديدي

2005 / 4 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يقرأ المرء التسريبات المثيرة التي نشرتها الأسبوع الماضي صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، على عهدة المحلل السياسي الإسرائيلي بن كاسبيت، حول مواقف الإدارة الأمريكية ــ سيّد البيت الأبيض شخصياً، ثمّ نائبه ديك شيني، فضلاً عن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ــ من الرئيس السوري بشار الأسد: «شطب» الرجل من أيّ تعامل سياسي، تماماً كما صارت إليه حال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. كذلك أخذت الإدارة ترى في الأسد شخصاً «غريب الأطوار» ولا «يمكن الاعتماد عليه»، و«ينبغي الانتظار إلى حين غيابه عن الساحة»، و«نظامه لن يصمد طويلاً بعد انسحاب القوّات السورية من لبنان».
وتنتهي التسريبات ذاتها إلى أنّ هذه هي «التقديرات التي توصلت إليها وكالة المخابرات المركزية»، وأنّ «كافة الجهات في الإدارة الأمريكية» تجمع على اعتبارها «واقعية»، و«أصبحت تنظر إلى المستقبل وتخطط للمرحلة التي ستلي سقوط النظام السوري الحالي»... يقرأ المرء، فيخال أنّ النظام يترنح أو يكاد، اهترأ تماماً أو يوشك على الاهتراء، قاب قوسين أو أدنى من هاوية السقوط المبين!
ثمّ يقرأ المرء تسريبات من نوع آخر، نقيض تماماً ويفيد العكس على طول الخطّ، تناهبتها صحف وفضائيات عربية (خليجية بصفة خاصة!) استناداً إلى تقارير مراسليها السوريين، وأعادت إنتاجها عشرات المواقع والمنتديات السورية على شبكة الإنترنيت، عن «انقلاب أبيض» وشيك يزمع بشار الأسد تنفيذه الشهر القادم، وينطوي على التالي (بين إجراءات أخرى لا نأتي على ذكرها احتراماً لعقل القارىء): يتخلّص الأسد الإبن من «إرث أبيه القديم وحرّاس هذا الإرث»، و«يطلق يده [بيده، طبعاً!] في مسؤوليات الحكم متحرراً من كل الاعتبارات العائلية المحيطة به»؛ ويقيل أو يبعد عدداً من المسؤولين الكبار في الدولة «ممّن يتقلدون مناصب سياسية وعسكرية ومخابراتية، وسبق وألصقت بهم المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع الداخلية في سورية، وما آل إليه الوضع السوري في لبنان»...
كذلك يلجأ الأسد إلى «حلّ القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث الحاكم، وإلغاء الأحكام العرفية والاعتقال التعسفي، وتعديل الدستور لجهة كسر احتكار الحزب للسلطة، والترخيص للأحزاب، وتبييض السجون من معتقلي الرأي والمعارضين، ومنح تراخيص للقطاع الأهلي لإصدار صحافة حرّة»؛ و«يوقف كلّ التجاوزات الخطيرة التي أحالت الوطن السوري إلى مزرعة ينتهبها [رجالات الفساد]، وسيسمح «لأبناء الشعب السوري من المتضرّرين» بمقاضاة مرتكبي التجاوزات من كبار رجال الدولة وأهل بيت الرئيس (ولا نعفّ عن ذكر الأسماء إلا لأسباب قانونية صرفة)...
وأخيراً، وليس آخراً: تفاصيل هذا الإنقلاب الأبيض وُضعت «بمعاونة الجنرال عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة المصرية»، موفداً من الرئيس المصري حسني مبارك... وللإيضاح والتوثيق، نُشرت المعلومات أعلاه، جملة أو تفصيلاً وكما اقتبسناها بالحرف، في صحيفة «الخليج» الإماراتية، و«السياسة» الكويتية»، وبرنامج «الطبعة الأخيرة» على فضائية «العربية»، وموقع «سيريا نيوز»، بين عشرات الصحف والمواقع الأخرى.
المرء، هنا أيضاً، يقرأ فيخال أنّ الأسد ليس ممسكاً بزمام الأمور ــ من الباب إلى المحراب، ومن الثكنة العسكرية إلى قصر العدل، مروراً بالسوق الحرّة في مطار دمشق... ــ فحسب، بل هو الوحيد الذي يمسك باللجام ويقود العربة أياً كانت القوى التي تجرّها: خيول مطهمة أم ثيران عجفاء! صحيح أنّ السيناريو يحشر الجنرال عمر سليمان، على سبيل دغدغة المخيّلة من جهة، أو إسباغ بعض البُعد الإقليمي على «الإنقلاب الأبيض» من جهة ثانية، إلا أنّ الأسد هو صاحب الخطة وصاحب اليد العليا التي تنفّذها في آن!
أيهما أصحّ إذاً: تسريبات «معاريف» الإسرائيلية، أم هذه التسريبات التي نترك للقارىء حقّ التسلّي بتخمين مصادرها؟ كلا الطرازين مضلِّل بالطبع، وكما لا يخفى على القارىء النبيه، وكلاهما استطراداً يتصيّد في مياه عكرة أصلاً. ليس نظام بشار الأسد، ولا هو شخصياً كرأس أو واجهة أو عنوان لذلك النظام، على شفير الهاوية رغم كلّ المصاعب الجدّية التي يواجهها اليوم، وسيواجه المزيد منها غداً وبعد غد. ولكنه، في الآن وبالقدر ذاته، ليس ذلك الحاكم القابض على أعنّة تكفي لكي ينجز أيّ انقلاب، أبيض أو أحمر أو أسود أو رمادي: ليس ضدّ تماسيح النظام العتيقة أو الوسيطة أو الفتية فحسب، بل أيضاً ليس ضدّ نفسه شخصياً!
الطراز الأوّل من التضليل يربط مصير الأسد بالانسحاب العسكري القسري من لبنان، مفترضاً أنّ هذه هي الجولة الأخيرة في سلسلة معاركه (أو حروبه؟) من أجل انتزاع وراق القوّة أو الحفاظ على ما بين يديه منها. والطراز الثاني من التضليل يفترض أنّ انقلاباً أبيض اللون (تتمّ فيه، مع ذلك، جندلة الكثير من الجثث الثقيلة والتماسيح الضارية والوحوش الكاسرة!) يقوده الأسد بيديه لا بيد عمرو (أو عمر سليمان مثلاً!) سوف يجعل البيت الأبيض يعيد النظر في «غرابة أطوار» الرجل، ولعلّ كوندي رايس ستنصح بشيء من التهدئة الدبلوماسية، وببعض التخفيف من غائلة الشطب العرفاتية التي يُقال إنها أطبقت عليه!
والحال أنّ الأسد، لكي أشدّد من جديد على مواقفي المبكّرة من نظامه، بدأ ويظلّ اليوم أيضاً إبن النظام الذي شيّده أبوه منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1970، وربما منذ تولّيه منصب وزير الدفاع سنة 1966. وهو ليس وريث أجهزة الإستبداد والقمع والفساد والنهب المنظّم فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من (أو هو واجهة، أو عنوان، أو القيّم على) نظام «الحركة التصحيحية ـ 2» الذي يواصل أعراف وأنساق وإرث «الحركة التصحيحية ـ 1». هذا لا يعني البتة أنه الحاكم المطلق المتحكّم كما كانت عليه حال أبيه، ولا يعني كذلك أنّ يده مكبّلة بالأغلال فلا يقوى على أمر ذي مغزى كبير، وثمة في الأقصَيَين جدل متكامل بين استئناف الماضي السكوني المتماثل والعزوف عن صناعة المستقبل المغاير.
وفي مناسبة سابقة وحديثة العهد («الحوار المتمدن»، 2/4/2005)، توقفت بالأسماء عند ما أسميته «حلقة الستة»، أي الدائرة الأعلى والأضيق التي تسيّر شؤون السلطة وتضمّ إلى جانب الرئيس السوري كلاً من شقيقه والقائد الفعلي للحرس الجمهوري ماهر الأسد، واللواء غازي كنعان وزير الداخلية، واللواء آصف شوكت رئيس الاستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز استخبارات أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئيس. واليوم، في صدد مناقشة طرازَي التضليل اللذين أشرت إليهما أعلاه، أجد ضرورة في تصويب مصطلح «القيادة السورية» بالمعنى المفهومي والمؤسساتي، وليس بمعنى الأسماء في «حلقة الستة» ومَن لفّ لفّهم.
وبادىء ذي بدء لا بدّ من التذكير بأنّ المصطلح ذاته، «القيادة السورية»، بات غائماً ومبهماً وغير ملموس بعد وفاة حافظ الأسد في حزيران 2000: مَن هي هذه القيادة على وجه التحديد؟ كيف تشكلت، ومتى؟ ومَن، وما الذي، يمنحها سلطة (ولا نقول شرعية) اتخاذ القرارات بلا أساس دستوري؟ هل هي متماسكة منسجمة متفاهمة، سياسياً وأمنياً وعلى مستوى المصالح والتوازتات بين أطرافها؟ هل بقيت على الحال التي بدأت عليه حين تشكّلت، أو أعادت إنتاج نفسها، بعد غياب الحاكم الوحيد الأوحد حافظ الأسد؟
وفي تلمّس بعض الإجابة على هذه الأسئلة، ثمة تفسير أوّل، هو أيضاً ذاك الذي يعتمده أنصار السلطة، يقول ببساطة إنّ النظام متماسك ومستقرّ، وما جرى ساعة وفاة الأسد الأب لم يكن سوى محاولة بارعة لتطويق الأمور سريعاً، وتنفيذ القرارات والإجراءات التي كانت «القيادة السورية» قد أجمعت عليها في الأساس، ومنذ وقت طويل، في عهد حافظ الأسد وبرعايته. وهذا التفسير يضرب صفحاً تاماً عن طبيعة جولات التطهير التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة قبيل رحيل الأسد، ويغفل المغزى السياسي والأمني لاستبعاد رجال من أمثال علي دوبا (الرئيس الأسبق للمخابرات العسكرية) وحكمت الشهابي (رئيس الأركان الأسبق وأبرز أعضاء مجلس الأمن القومي)، وانتحار محمود الزعبي.
التفسير الثاني يقول إنّ الحرس الفتي (الذي ينبغي أن يمثله بشار الأسد، مبدئياً) تصالح سريعاً مع الحرس القديم الذي يمثله خدّام في الواجهة، ويضمّ في الخلفية جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية الأربع (المخابرات العسكرية، المخابرات العامة، مخابرات القوى الجوية، الأمن السياسي)، إلى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلى الأفيال والتماسيح الكبار والصغار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام. وإذا صحّ هذا التفسير فإنّ سورية تكون قد فقدت حافظ الأسد جسداً فقط، وليس منهجاً أو سياسات: مات الأسد! عاش الأسد!
التفسير الثالث يقول إنّ الحرس القديم سارع إلى «امتطاء» حدث الوفاة، وسعى مباشرة إلى تطويق الموقف بما ينطوي عليه من احتقان في المشاعر وتضارب في الولاءات، فوضع بشار الأسد في قلب السيناريو الذي كان يدور على الألسن منذ ستّ سنوات. وإذْ يبدو ذلك وكأنه «وفاء» لنهج الرئيس السوري الراحل، وتنفيذ لوصيّته غير المعلنة، فإنه في الآن ذاته يقوم عملياً بوضع بشار الأسد في فوهة المدفع مباشرة، ويُظهر البلاد وكأنها ملكية فردية لأسرة حافظ الأسد وحده (وليس حتى لآل الأسد مجتمعين، بدليل ما وقع آنذاك من مطالبة رفعت الأسد بحصّته الشخصية في الكعكة). هذا الوضع كفيل بإثارة المزيد من مشاعر السخط على مستوى القواعد التحتية في السلطة والجيش، وعلى مستوى الشارع السوري والرأي العام العربي والدولي، وكفيل بوضع بشار الأسد وفريقه في موقف دفاعي صرف، بدلاً من الموقع الهجومي الذي كانوا يرتاحون إليه لأنه الأفضل من الناحية التكتيكية. وفي سياق هذا التفسير كان من الطبيعي أن ننتظر من الحرس القديم شنّ هجوم معاكس لاحق، بعد أن تهدأ الخواطر وتصبح وفاة الأسد مجرّد ذكرى، وهذا ما جرى بالفعل عند وأد «ربيع دمشق».
التفسير الرابع يقول إنّ القوى ــ الأمنية والعسكرية والسياسية ــ التي تمكّن الأسد الأب من حشدها خلف نجله، بما توفّر له من وقت آنذاك، هي التي تحرّكت بسرعة قصوى وفرضت سيناريو التغيير كما تابعه العالم بدهشة. وهذه القوى يمكن أن تبدأ من وحدات الحرس الجمهوري ذات الولاء المطلق لبشار؛ ويمكن أن تمرّ بعدد من الفروع الأمنية، في المخابرات العسكرية والمخابرات العامة تحديداًا؛ ويمكن أن تنتهي عند هذه أو تلك من أفواج القوات المسلحة، وهذا أو ذاك من كبار ضباط الأركان. والتفسير هنا يبدو وكأنه يصف انقلاباً عسكرياً وليس مرحلة انتقال «سلسة»، ويصحّ فيه ما يصحّ في الإنقلابات العسكرية من سيادة منطق داخلي خاصّ، متقلّب تماماً، ليس الإستقرار في طليعة خصائصه.
في وسع المرء اختيار أيّ من هذه التفسيرات، أو تركيب عناصرها في كلّ أقرب رلى بتحصيل حاصل، وسينتهي المرء دون عناء إلى أنّ مصالح الحرس القديم التقت بمصالح الحرس الجديد، وكان لا مناص من استيلاد تحالف كهذا لكي لا تُصاب بنية النظام بشقوق وصدوع وانكسارات قاتلة تذهب بشوكته وسطوته، وتخلّ بتوازناته الداخلية ومحاصصات النهب الدقيقة التي تُبقي أواصر الولاء المشترك حيّة وحيوية في نفوس أهل النظام ودوائر السلطة الأعلى والأضيق.
وهذه بنية، أجدني للأسف أقول للمرّة المئة ربما، مستعصية على الإصلاح والتطوير والتغيير، لأنّ أيّ تبديل في أقانيمها سوف يصيب المعمار بأسره بارتجاج قاتل. كانت هذه حالها حين ألقى بشار الأسد خطاب القسم فتفاءل مَن تفاءل وبات البعض (مثل كاتب هذه السطور) أكثر تشاؤماً؛ وظلّت هذه حالها كلّما حلّت ذكرى سنوية لخطاب القسم ذاك، طيلة السنوات الخمس من هذه الوراثة المشؤومة؛ وهكذا يظلّ حالها اليوم أيضاً، بعد أن تبدّلت الدنيا كثيراً، كثيراً... ليس البتة في صالح «الحركة التصحيحية ـ 2».
إصلاح أقرب إلى المحال، إذاً، والمطلوب طيّ صفحته من حياة سورية: جذرياً وجوهرياً، مرّة وإلى الأبد!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن