الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة والدولة.. صراع التناقضات

وسام الربيعي

2013 / 5 / 21
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


رفع الثوار على مر التاريخ مشعل النضال على طريق الحرية، وحملوا هموم المظلومين والمستضعفين، منتصرين لهم على ظالميهم، مطالبين لهم بحقوقهم.

لكن كثيرا ما فشلت ثوراتهم، وقليلا ما نجحت. فإن فشلت ثورة كانت شرارة لثورات أخرى تعقبها. وإن نجحت، كانت انتصارا للحقّ والمظلومين… وإن كان انتصارا إلى حين...
وأقول إلى حين… إذ لا يلبث الثوار إن انتصروا في ثورة حتى يستأثروا بالحكم والسطلة لأنفسهم، ويقصون الآخر كما كان قد أقصاهم من قبل. فيقعون بذلك في فتنة حب الحكم والسلطة والاستئثار بالمال والجاه والنفوذ وغيرها. ومع الأيام، يتحول ذلك الثائر إلى جائر، وذلك المصلح إلى مفسد. فطغاة اليوم هم أنفسهم ثوار الأمس، وثوار اليوم هم طغاة الغد لا محالة. فطوبى للثائرين الذين سقطوا شهداء على طريق الحرية قبل أن يسقطوا في هاوية الحكم والسلطة.

ومادمنا نعيش اليوم ما يسمى بثورات الربيع العربي، فلا بأس من الخوض في هذه القضية والمصير المحتمل - بل الأكثر احتمالية - لهذه الثورات. فهي لن تختلف كثيرا عن سابقاتها في كل زمان ومكان.

إن التاريخ لا يذكر لنا إلا نماذج نادرة جدا من أولئك الثائرين الذين سَلِموا من السقوط في مفاتن الحكم والسلطة بعد نجاح ثوراتهم، وعُرِفوا بالعدل ونظافة اليد، كعلي وعمر، أو حتى غاندي ومانديلا. ورغم كون هذه النماذج نادرة وتعد من الشواذ للقاعدة العامة، إلا أن الإنسانية المعذبة كانت ولاتزال تتشبث بتلك النماذج والرموز، ممنية النفس بأن تسوق لها الأقدار ثوارا من ذلك الطراز.

لقد جاء الإسلام ثورة بوجه الظلم والفساد، وحركة تصحيحية في المجتمع العربي. وكان معظم ثواره الأوائل من المظلومين والمستضعفين. لكن ما بدأت به هذه الثورة في أول أمرها ليس كالذي انتهت إليه. إذ ما أن استتب الأمر للمسلمين وفتحوا البلدان والأمصار، وانهالت عليهم الأموال من هنا وهناك، حتى صاروا بحاجة لمن يثور عليهم، ليصحح مسارهم.

يقول في ذلك أحد المستشرقين ناقدا المسلمين بعد ما علمه عن فخامة قصور الأمويين والعباسيين وإسرافهم وفسادهم: "إن المسلمين قد أبدلوا قيصرية بقيصرية أخرى، وكسروية بكسروية أخرى". ولا أجد في كلام هذا المستشرق ما يُرد عليه. فالحقيقة المؤلمة فعلا هي أن سلطان وطغيان بني أمية في الشام قد فاق سلطان وطغيان أمراء القياصرة فيها، وكذلك طغيان بني العباس قد فاق ما جاء به كسرى في العراق.

إن مفاتن الحكم والسلطة كفيلة بأن تفسد أي ثائر، وأي ثورة، مهما كان أو كانت عظيمة، تلك هي طبيعة الحياة، ولا ينجو من ذلك إلا ما ندر من البشر. فمن ذا الذي سيطلق الدنيا ثلاث بعد أن تفتح له أبواب نصرها ومجدها؟

وفي دلالة لما يجلبه الحكم والسلطة من تناقضات لقيم الثورة والثوار. أقتبس شيئا للدكتور علي الوردي إذ يقول: (يحاول بعض المستشرقين ذم الاسلام بطريقة غير مباشرة. فهم يشيرون دائما إلى التفسخ الذي حدث في المجتمع الإسلامي، بعد موت نبيه بمدة قصيرة، كأنهم يقارنون ذلك بما كان عليه المسيحيون من تعفف بعد المسيح، فهم يذكرون على سبيل المثال أصحاب النبي محمد قائلين عنهم: أنهم تنازعوا وتلاعنوا وتقاتلوا وكفر بعضهم بعضا، بينما لم يفعل مثل ذلك أصحاب المسيح.
وقد جهل المستشرقون أن أصحاب المسيح لو كانوا قد انتصروا كما انتصر أصحاب محمد، وفتحوا الممالك بتلك السرعة الهائلة، لتنازعوا وتنافسوا وتلاعنوا كما فعل أولئك تماما. إنها طبيعة الإنسان - في كل زمان ومكان). انتهى الاقتباس.

أرى أن هذا التحليل للوردي مصيب إلى حد كبير، وتأكيد على ما يسببه الحكم والسلطة من تناقضات للقيم الثورية. فبينما لم يترك المسيح لأتباعه سوى الكلمة، ترك محمد لأتباعه دولة مع الكلمة، فراح أولئك ينشرون الكلمة، وراح هؤلاء يوسعون دولتهم لنشر الكلمة، ومع الأيام شغلتهم الدولة ونسوا الكلمة.
وبالرغم من ذلك، لم ينجُ حتى أتباع المسيح أيضا من نفس المصير المحتوم، وإن كان ذلك بعد وقت طويل قياسا بالمسلمين. إذ ما أن اعتنقت روما المسيحية بعظمتها وسلطانها الواسع، وصار المسيحيون يحكمون روما بعد أن كانت روما تحكم المسيحيين، حتى بدأت التناقضات ورُفعت السيوف والرماح إلى جانب الصليب، وكثر البطش وسالت الدماء لنشر كلمة "المحبة والسلام".

إن الفرق بين الثورة والدولة، هو الفرق بين الحلم والواقع، فالثورة التي تنتهي إلى الحكم، أشبه بالحب الذي ينتهي إلى الزواج. فكلاهما يبدأ بقيم ومبادئ وشعارات مثالية خارج الزمن وبعيدة عن الواقع. وبعد النجاح، سرعان ما ينتهي شهر عسل الثورة. وما إن توضع تلك المبادئ والقيم على أرض الواقع، يبدأ العد الحقيقي لساعة الزمن، وتظهر المشاكل والتناقضات التي تفرضها جملة من التعقيدات والمتغيرات من مشاكل أمنية واقتصادية وصراعات سياسية داخلية وخارجية وغيرها. مما يضع الثورة على المحك، وغالبا ما تفشل. إذ تضطر الثورة - التي أصبحت الآن دولة - للتنازل عن قيمها ومبادئها التي بدأت بها، للحفاظ على المكتسبات التي انتهت إليها. وذلك حتما سيؤدي بعد فترة من الزمن، إلى ظهور ثوار جدد وثورة جديدة لتعيد نفس الكرة.

تلك هي سنة الحياة على مر العصور. والحكام هم المحافظون، يتمنون لو أن الزمن يقف إلى آخر الدهر. والثوار هم المجددون، لا يهدأ حراكهم أبدا حتى يصلوا إلى المكان والوضع الجديد. وهكذا هي الأيام بين الناس. فالشيء الوحيد الثابت في الحياة هو التغيّر.

لذلك، فإن الثورة الحقيقية إذا أرادت الحفاظ على مبادئها التي قامت من أجلها، يجب أن تضع في حسبانها أنها مجرد مرحلة، ستليها مراحل أخرى. وعليها أن تقبل بالقادمين الجدد. ففي ذلك تكون مصلحة البلاد وازدهار الأمة. وهذا تماما ما توصلت إليه المجتمعات المتقدمة، وهي الآن تنعم بالازدهار والتقدم ورغد العيش، بسبب استقرار البلاد الدائم الناتج عن التبادل السلمي للسلطة. ولا يعني ذلك أن تلك المجتمعات قد خمدت وانطفأت فيها نار الثورة، بل تلك النار لم تنطفئ يوما في أي زمان ومكان، فهي كنار الشمس، أزلية أبدية. لكن ثورات المجتماعات المتقدمة تدور رحاها داخل صناديق الاقتراع، وليس في الشوارع والميادين. وذلك النوع من الثورات السلمية يجنب البلاد كلفة الفاتورة العالية التي تسببها الثورات المسلحة.

لكن تاريخنا كله، منذ عهد الخلفاء وحتى قيام الجمهوريات الحديثة، لا يحدثنا - إلا نادرا - عن حكومة أو سلطة سلمت حكمها سلميا للمجددين. فالحكم عندنا لا يزول إلا بانقلاب أو اغتيال أو ثورة دموية تُسحب بعدها جثث الحكام في الشوارع، أو أن يموت الحاكم حتف أنفه في أفضل الأحوال فيليه أبنه.

نحن بحاجة إلى جيل جديد من الثوار، يفهمون ثقافة التداول السلمي للسلطة بعد نجاح ثوراتهم. وتقديم مصلحة الشعب والبلاد على كل شيء. فالثائر الحقيقي يثور ليغير الحكم، لا ليحكم هو ويستأثر بالحكم. نحن بحاجة إلى ثوار يستمرون بالتضحية والعطاء بعد الثورة، وليس فقط خلالها. نحن بحاجة إلى ثوار لا يرون في الحكم جزاء واستحقاقا نظير خدماتهم التي قدموها خلال مسيرتهم النضالية، أو يعتقدون بأن الحكم هو مكافأة نهاية الخدمة - أي نهاية الثورة.

نحن بحاجة إلى ثوار من طراز "نيلسون مانديلا" شيخ المناضلين، الذي أمضى سنوات عمره الطويلة في السجون والمعتقلات، وحين أدرك الحكم، رفض أن يحكم بلاده ولايتين متتاليتين، واكتفى بولاية واحدة فقط رغم التأييد الشعبي الواسع له، وفاجأ العالم بأسره حين قال: (لست أنا بالرجل الذي لا يمكن الاستغناء عنه). فكان بذلك نموذجا للمناضل الذي لم يقبل تعويضا عن سنين عذاباته الطويلة في السجون ببضع سنوات حكم زيادة.

وفي نموذج أروع وأسمى، يندر تكراره… لكم أيها الثوار في "تشي جيفارا" أسوة حسنة… ذلك الثائر الأممي، الذي زهد في الحكم والسلطة بعد نجاح ثورته في كوبـا وقال: "إنّ الثورة تتجمد، وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي". فتخلى عن منصبه كوزير وعن رتبته العسكرية وعن قيادته للحزب، وراح يبحث عن ثورة أخرى في مكان آخر، حتى سقط ثائرا على طريق الحرية، ولم يسقط في هاوية الحكم والسلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب العمال البريطاني يخسر 20% من الأصوات بسبب تأييده للحرب ا


.. العالم الليلة | انتصار غير متوقع لحزب العمال في الانتخابات ا




.. Mohamed Nabil Benabdallah, invité de -Le Debrief- | 4 mai 2


.. Human Rights - To Your Left: Palestine | عن حقوق الإنسان - ع




.. لمحات من نضالات الطبقة العاملة مع امين عام اتحاد نقابات العم