الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرفة السيد ناجي

جوزفين كوركيس البوتاني

2013 / 5 / 25
الادب والفن


بحكم عملي كممرضة، فأنا ادخل بيوتًا كثيرة- بيوت الأغنياء والفقراء، الطيبون واللئام، واتعامل مع كل فئة من فئات المجتمع من الوزير إلى المتسول. ولأنني اسكن في منطقة عسكرية، كوني ابنة عسكري قاتل في الخطوط الأمامية، فالأمر يجعلني اهتم بالناس اكثر لأنني اعرف جيدًا كم الناس بحاجة إلى ادنى مساعدة في منطقتي. فحين يمرض الناس والبلد في حالة حرب مستمرة، يتحولون جميعًا إلى جسد مريض واحد بحاجة الى يد الحب والحنان، وينسى معظمهم المركز والسلطة ويأتون إليَّ مجردين من كل شيء إلا من مرضهم. وأجد قول أبي يرن في أذناي باستمرار: مهنتان تعلمان الأنسان ما لم ولن يتعلمه في أعظم جامعات العالم وهما الجيش والصحة. فهاتان المهنتان، كما كان ابي يردد دائمًا، يمثلان خلاصة المجتمع بأكمله وكم كان على حق. ما علينا، فلنعد الآن إلى ما كنت اود ان احدثكم عنه، وهي حكاية علقت بذاكرتي منذ زمن وها أنا اضعها اليوم على الورق.
في أحد الأيام وفي أثناء عودتي من المستشفى، ما كدت اضع حقيبتي على الطاولة استعدادًا لتناول الغداء، حتى طرقت جارتنا، زوجة السيد ناجي، الباب وهي تترجى أمي ان اذهب معها لأحقن زوجها المريض السيد ناجي الذي كان قد اصيب بحمى خلال اجازته القصيرة من الجبهة. فأخذت حقيبتي وسرت معها لبيتها المجاور لنا، فهم جيران طيبون ولنا معهم "عشرة عمر" كما يقولون. ف "حي المعسكر"، كما كان يسمى، حي مليء بعوائل العسكر وهو شبه خالٍ من الرجال بما ان معظمهم كان في الجبهة، ناهيك عن من استشهد او من قتل او فقد خلال معارك البلد التي لا تنتهي. وحتى من تقاعدوا كانوا قد سيقوا إلى ما يسمى ب "الجيش الشعبي" او منحوا مهام حراسة الفرق الحزبية التي لا تعد ولا تحصى. ومن النادر ان يجد الزائر رجل يسير في حينا، اللهم العسكر ممن جاءوا في إجازة قصيرة لزيارة عوائلهم، ناهيك عن نعوش الشهداء التي كانت منظرًا شبه يومي أمام ابواب البيوت حيث تسمع اصوات الهلاهل واطلاقات الرصاص استقبالاً للشهداء.. وهكذا كان حال منطقتي..
وذهبت برفقة زوجة جارنا الطيب ناجي، وهم من اهل الحويجة المعروفون بطيبتهم وكرمهم، فدخلنا الصالة وقالت زوجته: ناجي لازال نائمًا. اعطني لحظة لإيقاظه لكي يأتي الى الصالة.
فقلت: لا بأس، بما انه مريض يمكنني ان اذهب أنا إلى غرفته لازوقه الحقنة في فراشه.
فاحتجت قائلة: هذا غير ممكن. فهو لا يسمح لأي كان بدخول غرفته. حتى انا حذرني من ذلك إلا عندما يريد مني تنظيفها.
فقلت مستغربة: ولكنك زوجته! ألا يشاركك نفس الفراش؟
-أجل يأتيني هنا في الصالة ليقضي مآربه ومن ثم يمضي الى غرفته، وكما تعرفين فنحن عشائر والمرأة لايمكنها مناقشة الزوج او سؤاله، وبما أنه يأتي من الجبهة مرة كل شهر وهو معرض لأن يستشهد في أي لحطة، لذا فأتركه على راحته.. وأنا كما تعلمين تعبة لأنني أم وأب في آن واحد ولا وقت لدي لأمور اعتبرها غير مهمة كهذه. فانا أم لأربعة اطفال مشاكلهم ومتطلباتهم لا تنتهي. ودعيني اقولها بصريح العبارة: ناجي يشرب وانت تعرفين الشرب محرم عندنا، لذا فهو لا يحب لأحد بأن يدخل غرفته الخاصة هذه. استغربت مما سمعت من جارتنا، فرغم ان ناجي جارنا منذ ما يزيد عن العشر سنين، ورغم اني اسمع عنه دائمًا وعن طيبة قلبه من زوجته، غير اني لم التقي به حتى الآن. وبعد بضع دقائق، خرج السيد ناجي من غرفته مرتديًا دشداشة بيضاء واقبل نحوي بقامته الطويلة ووجهه السمح، رغم الشحوب والنحول الواضحان على ملامحه. فرحب بي قائلاً: سوينا زحمة عليج..
بدا وكأنه يترنح في مشيته ولم أعرف ان كان ذلك بسبب الشرب أم بسبب المرض- ام بسبب الأثنان معًا؟ خاطبني باحترام فائق بصوت بالكاد يمكن سماعه فقلت:
- لا بأس فحق الجار على الجار، ثم هذا واجبي يا سيد ناجي ومهما قمنا بخدمتكم انتم اهل الجيش فلا يمكننا ان نوفيكم حقكم. هل نسيت ان أبي ايضًا نائب ضابط في الجيش مثلك؟
فابتسم باحترام وقال:
- أجل، اباك رجل رائع وهو صديقي وعزيز على قلبي.
فحقنته وانا متوترة بعض الشيء.. وبعد ان انتهيت قال: إذا امكن هناك حقنة أخرى في المساء.
- انت تأمر يا سيد ناجي
- لا يأمر عليك ظالم يا انستي.
وغادرت وانا أفكر كم هم طيبون اهل الحويجة. فكما كانت امي تقول دائمًا: "هم كالسكر يذوبون في القلب." وبقيت افكر في غرفة السيد ناجي وكم تمنيت لو استطيع الدخول إليها من باب الفضول لا أكثر. كنت اريد ان اعرف سر هذه الغرفة اللعينة التي باتت تشغل بالي الآن. وعند الساعة الخامسة مررت عليهم للحقنة الثانية وكل همي ان ادخل غرفته، غير انني لم اتمكن من دخولها هذه المرة أيضًا لأنه جاء إلى الصالة من جديد وبعد ان حقنته شكرني بحرارة ومضى إلى وكره السري.. وملأت لي زوجته الطيبة كيسًا من البندورة الطازجة وناولتني الكيس وهي تشكرني وتقول: انت طيبة مثل أبيك! ارجو ان تعطي هذا الكيس لأمك لأن هذه حصتكم من المحصول.
فغادرت المنزل ولم استطع النوم تلك الليلة وانا أفكر بتلك الغرفة الممنوعة من الدخول. ترى ما الذي بداخلها؟ وفي اليوم التالي، وفي
طريق عودتي من المستشفى، قررت ان أطرق باب منزل السيد ناجي بحجة السؤال عنه، فلربما اتمكن هذه المرة من الدخول الى تلك الغرفة السرية. فطرقت الباب الخارجي للمنزل ويداي ترتجفان وكأنني ارتكب جريمة ما- ربما لأنني قبضت على ذاتي وانا احاول التطفل على امر لا يعنيني. فخرجت زوجته وسألتها بشيء من التكلف عن صحة السيد ناجي، فأجابتني بصوت منكسر:
- لقد التحق صباح هذا اليوم بالجبهة في مهران، وهي بعيدة من هنا كما تعرفين. لقد ذهب دون ان تتسنى له الفرصة ليتعافى تمامًا من مرضه.
فتلعثمت وقلت لها بصوت ملؤه الخجل
- هل تعرفين بأنني افكر منذ البارحة بغرفة السيد ناجي؟ وكم اتمنى الدخول اليها ولو من الباب فقط كي ارى ما فيها!
فضحكت زوجته وقالت:
-لا بأس يا عزيزتي، سأجعلك تدخلينها ولكن إياك ان تخبري أحدًا عن الأمر. انت عزيزة عليّ ولا أريد ان اكسر بخاطرك.
وبعد ان وعدتها بعدم اخبار احد، أخذت مفتاحًا معلقًا في زاوية الصالة تحت صورة بدت وكأنها لوالد السيد ناجي وهو يرتدي زيًا عربيًا جميلاً. وفتحت الغرفة – او الوكر المحرم- واذهلني فورًا ما وجدته فيها. ما كان فيها احزنني اكثر مما افرحني او سقى فضولي. اصبت برهبة ورغبة واحاسيس كثيرة تداخلت مع بعضها البعض وانا أنظر لما في داخلها. كانت الغرفة شبه فارغة إلا من سرير حديدي لشخص واحد وبجانبه منضدة حديدية صدأة وفوقها صورة لأمه ومجلات خلاعية وكتابين لإحسان عبد القدوس (بنات الصيف وأنا حرة) وساعة منضدية قديمة ومنشفة معلقة على مسمار، ولكن جدران الغرفة كانت مغطاة بصور ملونة لفنانات اجنبيات وعربيات مثل مارلين مونرو وكاترين دينوف وبريجيت باردو ومارلين ديتريش وهند رستم ونادية لطفي، كما وكانت هناك صورة بجانب السرير للفنانة شمس البارودي كتب عليها "أجمل حبيبة في العالم"، وفي الزاوية كانت هناك عشرات من قناني الجعة الفارغة..
صعقت تمامًا لما رأيت. كانت كل حبيباته شبه عاريات، ومحظيته المدللة شمس البارودي متمددة على البلاج وهي تنظر إلى السماء ولم تكلف نفسها حتى عناء النظر إليه.. كم آلمني هذا! رجل يقضي الجزء الأكبر من حياته في الجبهة ثم يعود ليقضي إجازته برفقة نساء وهميات، تاركًا زوجته المسكينة تقضي وقتها كله في تلبية حاجيات البيت والأطفال بينما يعيش هو في عالمه الخاص.. أسبب ذلك هو ان زواجه زواج عشائر؟ أم لأن الوطن لم يمنحه الوقت الكافي كي يحب ويختار من يريد، لذا تراه ترك الأمر لأهله الكرام ليوفروا عليه عناء الأختيار؟ تخيلته وهو يقضي وقته مع كل نساء الصور وكيف يستمني وهو يتخيل نفسه في حضن احداهن في كل مرة، ولكن حصة الأسد كانت بلا شك من نصيب شمس البارودي التي وضع صورتها بجانب سريره..
تركت الغرفة وعدت للبيت وفي داخلي غصة عميقة..
**
ومضت السنين وافترقنا وكل مضى إلى حال سبيله.. وفي يوم من الأيام التقيت بالسيد ناجي وزوجته الطيبة في شارع الأطباء في كركوك وعلمت بأنه قد نجى من الحروب التي خاضها في جبهات القتال، بيد أن الهم والغم دمرا اعصابه وأصاباه بشلل نصفي.. وكم آلمني منظره، فسألته عن اطفاله وقال بأن جميعهم قد كبروا وهاجروا خارج البلد وبأنه سعيد من أجلهم..
-لا أريدهم ان يعيشوا محرومون من لذة الحياة مثلنا.. قلت لهم إياكم ان تعودوا الى هذا الوطن! فيكفي ما فعله الوطن بأبيكم واعمامكم..
ثم صمت السيد ناجي والحزن بدا واضحًا على ملامحه، فأكملت زوجته قائلة:
- هو على هذا الحال منذ سافر اولادنا خارج البلد!
فتمنيت لكلاهما الصحة والعافية ومضيت تاركة خلفي السيد ناجي الذي قتله هم البلد وهم الأبناء وقلت في قرارة نفسي: ترى كم رجل في هذا البلد مثل ناجي: عاشوا حياتهم كلها على الأوهام والحروب والحسرات؟ آه يا بلد.. آه يا بلد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك