الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسخ

سعيدة عفيف

2013 / 5 / 27
الادب والفن


بعد الظهيرة، وبالجهة الخلفية من البيت، تجلس السيدة غالية كما العادة، على كرسي خشبي، تحت الشمسية التي تتوسط جنينتها المتواضعة، تمد يدها من حين لآخر على الطاولة لتلتقط كأس القهوة الذي ترشف منه رشفات متباعدة، ثم تعيده بعد ذلك من حيث أخذته.
تتأمل توهج الأعشاب تحت أشعة الشمس القوية، مستبقية نكهة القهوة اللذيذة بفمها لتستشعر قوة مُرَكَّزِ طعمها بقمة رأسها. فيما قسوة الأشعة تغلف مقلتيها بغلاف رقيق من الدمع، فتبدوان سابحتين إلى حيث لا شطئان ولا مرافئ.. تغلقهما بخفة لتفتحهما ثانية على تلك الوريدات المختلفة الألوان، والمتناثرة على طول حافة شريط أخضر، يحاذي ممشىً مُبلطا لا يتجاوز عرضه المترين، يفصل بين مكان جلوسها وما تبقى من أمتار مغروسة، تمتد إلى حيث يوجد الباب الحديدي ذو المصراع الواحد الذي يفضي مباشرة إلى الشارع...
وهي مستغرقة بين هذا المشهد وبين تماوجها الباطني، تنتزعها الأفكار من محيطها.. تشدها أحداث الرواية، ثم تتذكر...
في ذلك الزمن البعيد، تحديدا في القرن الخامس الميلادي، كان الراهب هِيبَا يصرخ آمرا عزازيل بأن يبعد عنه صوت الغواية، لكن عزازيل لا يلبث أن يجيبه، هذا ليس صوتي يا هِيبَا، إنه صدى روحك... لم يكن عزازيل سوى ذلك الأنا الآخر المحبوس داخل هِيبَا، لم يكن سوى صوت روحه التي تئن تحت وطء رحى التساؤلات الأبدية التي تولدت في ذهن البشر مذ كان ولا يزال، رحىً تدور دورات لا نهائية غير حافلة بالمكان والزمان. غير حافلة بالإنسان ..
عزازيل منا وفينا وإلينا.. عزازيل في أعماقنا كما الإله.. إنه صوتنا الآخر.. إن نحن أصخنا السمع جيدا...
وتستمر الحكاية في التداعي..
.. كان هِيبَا شاعرا طبيبا في جبّة راهب. وكانت روحه الشاعرة ممزقة بين أمور الدنيا و الدين، بين إرضاء النزعات الإنسانية و بين الإغراق و التوغل في الزهد عن كل ما هو دنوي، تواقا للتحرر من صوت الجسد، طموحا أن تتوثب روحه و تحلق بعيدا في سماوات الطمأنينة و المحبة الإلهية.. غير أن كلا من صراعات الخير و الشر الأبدية، والتساؤلات ذات الطابع التشكيكي و التي لا يجد لها جوابا، و اهتزاز إيمانه بين الفينة و الأخرى و اشتهاءات الجسد النزقة المنفلتة من جميع النواميس، إلهية كانت أم وضعية، تدهمه و تباغته غالبا، بل و تنتصر عليه أحيانا، و تلقي به في أسراب عذابات لا تنتهي...
ويتهادى إليها صوت من الأعماق:
- لماذا تتذكرين كل هذا يا غالية؟
- لست أدري، نحن لا نهرب من أنفسنا إلا إليها.. والتاريخ، مادام يكرر نفسه، لَخير شاهد على ذلك. ثم قد يكون هذان الرجلان يوقضان في نفسي تذكر أحداث تلك الرواية..
- تقصدين أَرْ.. وَنُو..
- ومن غيرهما؟ لا يوجد غيرهما..
- كلاهما يخطب وُدَّك، ويطمع في التقرب منك دون غيره..
- يعبثان ويَهدِران وقتهما فيما لا طائل منه..
- فيمَ؟
- في مخاطبة الودِّ.. أجل، لا طائل من ذلك !
- وما العمل؟
- لا عمل.. هل رأيتِ بأمِّ عينيك يوما جسدا حيّاً بلا روح؟ أو روحا تحيى خارج الجسد؟
- قد تكون للأرواح أطياف مثل ما نسمعه بالحكايات والأساطير، لكن بمعنى اقتران الروح بالجسد، فلا يمكن ذلك أبدا..
- هما كذلك.. شيء من حكاية الراهب ذكرني بهما، ربما عذاباته وتناقضاته، التي ليست سوى تناقضات الحياة نفسها، وحلمه بمعرفة الحقيقة الغائبة عن واقعه.. شأنه في ذلك شأن أي إنسان متقد الفكر لا يهدأ، مشتعلة روحه للإشراق؛ غير أن هِيبَا وأمثاله جسد وروح لا يتجزءان، أما هذان، فروح غائبة عن الجسد، وجسد غائب عن الروح.. وكلاهما في عذاب لا يدركانه، جراء النصف الآخر الممعن في الغياب..
- وأنتِ؟ ألستِ في حيرة منهما؟
- لا. الأمر حاسمٌ نفسَه.. أنتِ فقط من تسأل..
- وأنتِ من أنتِ؟
- أنا ألاحظ فقط.. وأغوص في ذاتي لأنجو بها من كل هذا المسخ.. !

مراكش في 7 أبريل 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05