الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلاكيت ... آخر مرة

ريم ثابت

2013 / 5 / 27
الادب والفن


القلم مشدوه بين عقال أصابعي ... يرتجف قليلاً... محاولاً أن يلملم شتات نفسه ... ليسطر ما تم اختزاله في جعبته من أحداث مضت ... ولكن ... هيهات ... فمداد حبره العاصف يمضي في وهن... كلما أُطرق بطرفه الحاد على صفحات من ذاكرة الألم... يتلاشى أحياناً من فرط التعب ... حيث لازالت الأعصاب الطرفية الحاضنة له ... غير آهلة للسيطرة على حيز الموقف... خارجه عن الإطار المألوف... إثر جراحتي الطبية الأخيرة ... !!!
هنالك ... حيث مسرح الأحداث ... كان يقبع مرقدي ... في وضع مركزي ... يسلب اهتماماً محورياً من قبل الجميع... تماماً مثل اهتمام أولئك المترددين على متحف (اللوفر) ... حيث كل ما يشغلهم هو إلقاء نظرة فاحصة على لوحة (الجيوكندا) .. ولاسيما عند عرضها في وضعية أفقية على لوح من خشب الحور... ويأتي الاهتمام بمرقدي على نحو خاص ... بعدما تم اختراق الجسد النحيل بمادة التخدير ... وخرت قواه العصبية في انهيار مباغت...
أربعة ساعات - في واقع الحال - كانت بالنسبة لهذا الجسد الهزيل أقرب ما تكون إلى دهر كامل... استوطن فيه العزلة عن العالم ... داخل شريحة تكنولوجية أشبه ما تكون باستوديوهات أفلام الخيال العلمي... كان يئن في مرقده في حوار جدلي شائك مع الألم... ورغم كل هذا الاختراق المحدق ... وقوة تلك المادة الإكلينيكية في العبور ... إلا أنها لم تتمكن من تجاوز بعض من الحدود الإدراكية التي يشغلها الحيز الحسي لهذا الجسد.... فقد باءت محاولاتها بالفشل بدءً من جولتها الأولى.. إذ تمكن الإدراك السمعي أن يتخطى الكثير من الحواجز المرئية... ويغزل من نسيج إدراكه تصوراً بصرياً لما يحدث على مسرح الأحداث ..
اسمعهم بوضوح... وهم يتبادلون المشرط...الحفار... المبرد... النصل... الخ ... يهمهمون... وإذ بأصواتهم تعلو أحياناً ثم تخفت ... يتصدرها صوت قائدهم ..... الذي اعتاد أن يتعامل مع طاقمه بجدية شديدة ... اعتاد - على نحو صارم - أن يلقي بوابل من التعليمات عليهم... كقائد لكتيبة عسكرية .. موكل إليها إنجاز مهمة طارئة ... مبتغاها الأخير حفظ السلام البيولوجي على الأرض... وما أقسى أن تمضي ساعات مماثلة ... تتباطيء تارة في المضي قدماً نحو الانفلاج ... وتتسارع تارة أخرى مربكة أو مزعجة بغموضها المخيف ...وبينهما جسد يترنح بين الغفوة واليقظة.... ككتلة تجريدية ثلاثية الأبعاد خلت منها معان الحياة وتفاصيلها الأساسية ... كتلة تترنح ما بين الإطاحة والأفاقة ... ما بين تأوهات كتومة ... وإغراب عن العالم الواقعي ....
ومن جديد... الزمن يمضي على إيقاع سلم (دو الكبير) تباطؤ الجحيم... والألم آه .... يزداد سوءًا في ثورته... يعتصر الجسد الواهن تدريجياً... فيتهاوى في جنون هذا الألم آخر ما بقي من معاقله الصامدة... والغريب وسط كل هذه المعاناة ..... أن يأتي جهاز القياسات الحيوية ليتصدر المشهد المخيف... ويعلن عن رغبته الأكيدة في إنهاء هذا الموقف على طريقته الخاصة... منذراً بانخفاض ضغط الدم ... وهبوط وقع خفقات القلب...
عندئذ ... توقفت الكتيبة كاملة عن السير قدماً نحو مهمتها الإنسانية بأمر نافذ من قائدهم ... وخفتت أصواتهم جميعاً خفوتاً تدريجياً من مسامعي... وفي غصون ثوان معدودة... ما لبثت القوى المتهالكة أن توقفت تماماً عن المقاومة ... في انتظار مرير لأحداث وتفاصيل المشهد التالي .... وفي طباق مع الجاذبية الأرضية... بدت عن قرب هالة بيضاء .... أخذت تلوح من غيمات رمادية ساكنة... حاملة روح الجسد المسكين في اتجاه رأسي بين السماء والأرض ... حملته إلى حيز مفتوح أقل رمادية ... تكاد أن تنقشع غيماته تباعاً... ليكشف عن سكون قاتل... فراغ شاسع في الواجهة المقابلة... !!!!! عندها ... بدا من أعماق الروح صدى صوت ضعيف .. كان يتضرع برضاء واستسلام إلى الباريء ويقول: (إلهي... نجني برحمتك) ....
وعلى نحو فجائي ... تظهر بعثة حفظ السلام البيولوجي... لتدفع بشحنات كهربائية مباغتة صوب القلب... فتلفظ الجسد النحيل إلى غرفة العذاب...... تلفظه وتلقي به مرة أخرى إلى صخب الأحياء.... وتودعه سالماً في أحضان مرقد الألم ....
وحيث أن في الإعادة – أحياناً – تكون الإفادة .... كما أن الوصول إلى المشهد المثالي أمر ليس بهين... شاء القدر أن يُعاد (كلاكيت) الصراع مع الألم ... خمس مرات متتالية على مدار أربعة ساعات كاملة....
وفي كل مرة يتضرع لسان حال الجسد المسكين في استسلام ويقول:
(رب اجعله... كلاكيت آخر مرة) ..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو