الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُحَاق

طه جعفر الخليفة

2013 / 5 / 29
الادب والفن



لشدة صمته و استغراقه في السكات و قلة حركته او انعدامها احياناً، لم يكن ينتبه الناس لوجوده بالمكان المحدد. كان عندما يجلس في أحد الكراسي في واحدة من مناسبات الحي يتحرك رأسه المستقر بنظرات عينيه علي نقطة ما في الفضاء الممتد أمامه و اتجاه موقع ساعده الأيسر علي فخذه حيث تلتف ساعة سيكو كاينتك علي معصمه. معروف لدي الجميع أن أيوب يحسب الدقائق خلال اوقات المجاملات في احتفالات عقد القران و العزاءات. عادة ما يغادر المكان بعد عشرة حركات لرأسه بين النقطة المحددة في الفضاء أمامه و ساعة يده. عندها يقف ليتحرك فيشد ظهره ليكون مستقيما و يبذل التفاتتان واحدة لليسار و أخري لليمين، يبستم بفتور و يحرك جسده ليواجه الموقع الذي يجلس عليه الشخص الأهم الذي تجب مقابلته في تلك المناسبة و بعد ان يتأكد من خلو الطريق يمضي معلناً للشخص الأهم الذي الذي تجب مقابلته في المناسبة المحددة عن رغبته في المغادرة فيمد أيوب يده و يتمتم أما بمبروك أو أحسن الله عزائكم و يستأذن للذهاب. لم يحدث قط أن أصرّ عليه شخص ما ليظل بالمكان خاصة بعد تلك الحادثة و هي أنه في مرة من المرات و بالصدفة فقط جلس ضيفٌ غريب عن الناحية إلي جواره ليمضي برفقة أيوب لحظات الملل الماكثة التي يتطلبها تنفيذ أي مجاملة في الحي و قال الغريب: اسم الكريم منو؟ هنا قال أيوب: تقصد الكريم بالألف و اللام فابتسم الغريب باستغراب هاديء لم يهتم أيوب لإستغراب الضيف و واصل كلامه قائلاً: الكريم هو الله، و لفرط أعجاب السودانيين بالله سبحانه و تعالي و حبهم له فقد اعطوه اسماء حُسْنَي اضافية زيادة علي التسعة و تسعين اسماً المعروفة تلك و هي التامّ، الموجود، المحمود و المقصود ثم قال مبتسما و الغريب في الأمر أنني اعرف ثلاثة أشخاص يحملون في سلسلة اسمائهم هذه الاسماء و هم عادل احمد عبد التام ، عبد المحمود الطاهر أبو راس ، ياسر عبد الموجود كباشي و نجيب محمد عبد المقصود. تلخبط الضيف الغريب و لم يتشجع علي الضحك إلا عندما ضجّ المكان بضحكات شباب الحي المشاغبين و هنا غادر ايوب المكان بنفس تلك الطقوس حيث يقف، يلتفت يُسرة و يُمنة ثم يتأكد من خلو الطريق نحو الشخص المحدد فيمضي ليصافحه و يغادر بعد همهمة بمبروك او أحسن الله العزاء.
انتقلت عائلة أيوب للحي قبل عامين فقط. و حدث أن وقعت مصادفات غريبة جدا بعد قدوم أسرته مباشرةً فلقد توفيت أمه في اليوم التالي لأنتقالهم للحي ، سريعا حتي قبل ان تتمكن الاسرة المنتقلة من تبادل مجاملات التعارف مع سكان الحي . في اليوم الثالث لوفاة أم أيوب توفي والده، بعد اسبوع من وفاة والده توفي اخوه الأكبر . بعد ثلاثة ايام فقط من وفاة أخيه الأكبر توفيت أخته الجميلة التي غضب سكان الحي خاصة النساء لوفاتها و تأسفوا علي شبابها وجمالها النادر المغادر. عقدت الدهشة ألسن سكان الحي و امتلأت مجالسهم بالحكاوي خاصة عندما سرَت تلك الشائعة التي ترددت حيت قِيل أن الموتي من أسرة أيوب يعودون لبيوتهم خلال ليالي العزاء. بالفعل حدثت مقابلات عابرة بين افراد أسرة أيوب المتوفيين و سكان الحي من ذلك النوع الذي يصرّ من باب المجاملة علي قضاء ليلة علي الأقل من ليالي العزاء ببيت أهل الميت. كان الرافضون لهذه الشائعة يعولون علي أن أقارب أسرة أيوب المنتقلة حديثا للحي الذين جاءوا للعزاء ربما يكونون هم الشخصيات التي اعتقد سكان الحي انهم هم الموتي العائدون فلم يهتموا بتلك الشائعة.
كثّف احساس سكان الحي بصدق الشائعة ما تمّ و لفترة طويلة بعد تلك الوفيات المتتالية حيث لم تكن هنالك صورة واضحة لملامح شقيقة أيوب فلم يتوفر لشباب الحي معاينة جمالها إلا من طلّاتها الخاطفة لتنجز حاجات يتطلبها تنفيذ العزاء من بيوت الجيران او لتستأذن بطلب مُهّذب من أجل الحصول علي جردل أو قيزان كبير، مصلاية اضافية أو ثيرمس شاي. تحدثت الأمّهات و الأخوات و القريبات لأولادهم عن جمال تلك الفتاة التي لا يشبهها حتي الجِن، بذلك تكونت صورة ما لملامح هذه الفتاة المتوفاة في اذهان شباب الحي فزارت معظمهم في منامهم فمنهم من اصبح عريساً مبللا بنشوته المنتصبة و منهم من احتاج أن يركض في منامه فصَحَي بانفاس متلاحقة و شهيق أيقظ الجيران و منهم خنقته الفتاة في تفاصيل أب كبّاس ضاغط و مؤلم و منهم من اصبح يهذي متبرجلاً إلي أن أخذه أهله للفقرا و الشيوخ لطلب العون و الحماية.
ورث أيوب عن أهله بيتا كبيراً تم شراءه و تسجيله عن طريق واحد من اكبر مكاتب المحاماة في وسط البلد. كان البيت في الأصل مملوكاً لأسرة عريقة بالحي انتقلت للسُكنَي بأطراف المدينة لتستفيد من فرق السعر بتأسيس عمل يدر عليهم دخلاً بعد فقدان والدهم و اخوهم الأكبر لوظائفهم نتيجة لقوائم التشريد من الخدمة العامة علي ايام الطيب سيخة عندما كان وزيراً لشئون الرئاسة. ورث أيوب أيضا من والدته و من والده وسامة غير عادية فكان أيوب بقوام معتدل و جسم ثابت البنيان و راسخه، بملامح صبوحة و متسقة و نظرات ملئها الشرود و السكات و ربما ملامح جنون غارب يحتاج إدراكها فرَاسَةً و دِقّةَ ملاحظة. كما ورث سيارة كامري بيضاء موديل العام السابق لرحيلهم للحي. حاول الكثير من شباب الحي و فضولييّه التعرف علي أيوب و التحقق من تاريخ اسرتهم و كانوا يصطدمون باجابات ايوب المربكة حيث حدث أن أجاب أحدهم عندما سأله: انتو يا أيوب أهلكم من وين؟ فرد أيوب القول: أهل الوالدة من مدني و أهل أبي من بربر و لقد عاشت اسرتي في سنار و كوستي و القضارف و الابيض و الفاشر. لم تكن تلك الإجابة كافية للسائل فقال لأيوب: اسمك بالكامل مين يا ابني ؟ فرد أيوب قائلا: انا، باستغراب ثم قال: أيوب! بعد أن حرّك يده اليُمنَي التي كانت قريبة من صدره في نصف دائرة. أصر السائل و قال: أنا اقصد و اسم ابوك منو؟ قال أيوب باختصار: عبد القادر و انصرف حتي دون أن يقول للسائل بعد إذنك أو السلام عليكم.
عندما تصل سيارته الكامري الشارع الذي يفتح عليه بيت أيوب يسود صمت و ترقب في المكان و يسكن ضجيج المتجمعين جوار الدكان الذي يحتل زاوية الشارع مع شارع الاسلفت و مكتوب أعلي ابوابه بالجانبين "بقالة الناصية" . يحتفظ أيوب بأضواء السيارة مُشعلة و يفتح باب الديوان ثم يدخل سيارته و يغلق الباب ورائه بعصبية. يختفي أيوب في أيام نهاية الأسبوع ، العطلات و الأعياد فلا تتوفر لسكان الحي أي فرصة لتجاذب اطراف الحديث معه و إمطاره بالأسئلة. يتحصل أيوب علي المعلومات التي يحتاجها لمعرفة العزاءات بالحي و مناسبات عقد القران من صاحب الدكان في ناصية الشارع.
بعد أن هدأت عاصفة شائعة أن أهل ايوب يرجعون من المقابر سرت شأئعة أخري و هي أن أيوب ربما يكون من عناصر الحركة الشعبية أو الحزب الشيوعي و ربما يكون من أحد رجالات المعارضة للنظام، كسبت هذه الشائعة تأكيد من فكرة أن أيوب لم يُشاهَد و لا مرة واحدة في مسجد الحي إلا في المرات النادرة التي حضر فيها أيوب صلاة جنازة ما بالمسجد. معروف لدي الناس الذين يرجعون من مسجد الحي بعد صلاة الصبح بشارع بيتهم، أن أيوب يكون جالساً علي كرسي بلاستيكي و إلي جواره كوبان باحدهما بقايا قهوة و يكون في يده كتاب او مجلة و تُشم بالمكان رائحة التبغ. تأكدت هذه الشائعة لسكان الحي عندما وجد أحد شباب الحي الفضوليين علي الطاولة جوار مقعد ايوب الخالي في الصباح الباكر كتاب أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة لانجلز و كتاب عن النوع الاجتماعي للكاتبة الهندية كَمْلَا بهاسين. وصلت هذه المعلومة لأحد عناصر اللجنة الشعبية عن طريق أحد شباب الحي من ذلك النوع الذي لا يصبر كثيرا علي غموض الأشياء و كان بالأساس غاضبا من أيوب و الظواهر الغريبة التي لازمت مجيء اسرته للحي و هي الوفيات المتتالية الغريبة التي حدثت و الزيارة المتكررة التي انجزتها و مازالت تنجزها اخته لاحلام شباب الحي و ما يترافق معها من أمور خطيرة ثم صمت و جنوح أيوب للانعزال. أبلغ منتسب اللجنة الشعبية جهاز الامن العام فتم بعد ايام تنفيذ مداهمة لبيت ايوب في أحد الليالي؛ قليلا بعد منتصف الليل و أقتيد أيوب إلي جهة غير معلومة . بهذه الحادثة التي لم يكن يعلم أهل الحي علاقتها بالشاب الذي لم يكن يصبر علي غموض الاشياء و عضو اللجنة الشعبية تأكد للجميع أن أيوب علي الأقل رجل خطر علي أمن النظام الحاكم و ربما البلد. كان بالأساس سكان حي منقسمون إلي فئتين فئة منتعشه اقتصاديا، عالية الضجيج و مساندة للنظام ، فئة أخري صوتها منخفض ، متعثرة اقتصاية و معارضة للنظام بهدوء شديد يشبه الصمت. في انصرافهم لمناقشة الحادثة و تقييمها و ايجاد المبررات لها أو رفضها و إرذال النظام بأقذع النعوت أو الدفاع عن المداهمة و دورها في حفظ الأمن بالحي . لم يتذكر أيٌ من سكان الحي أن يسأل عن أيوب في مكاتب جهاز الامن أو أن يكلف أحد عناصر اللجنة الشعبية بالبحث عن مصير هذا الجار الغريب الذي أنضم مؤخرا للحي و غادره بشكل غير معتاد.
بعد أشهر قليلة انتقلت اللجنة الشعبية من مقرها المستأجر من أحد اعضائها إلي بيت أسرة أيوب الخالي و المهجور، بعد قليل اختفت السيارة الكامري و تم تغيير طفيف للبيت باضافة مظلة و تثبيت لافتة مكتورب عليها " مقر اللجنة الشعبية للحي ...." و اصبح المكان مقراً لأنشطة رسمية غير معروفة لسكان الحي و لم يحدث أن سمح رجال اللجنة الشعبية أو الرسميون لسكان الحي مرة واحدة بالسؤال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز