الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة المصرية بحاجة لطليعة

مصطفى مجدي الجمال

2013 / 5 / 31
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يدهشني كثيرًا ذلك النزوع المريب عند مثقفين ثوريين كُثُر لتضييع الوقت في أوقات لا يجوز فيها تضييعه..

فكل ساعة تمر قد تعني المزيد من الشهداء.. قد تعني المزيد من تآكل المكاسب الثورية القليلة- ولكن المهمة- التي حققتها انتفاضة يناير 2011. وبخاصة دخول الشعب المصري "فضاء" الحياة السياسية، وكسر جدار الخوف ومثالب الفردية واللامبالاة..

حتى أنني أحيانًا أتصور أن داخل كل مثقف منا "طابور خامس" خفي معنيّ بزرع الإحباط والحيرة والشقاق. فهذا منغمس في الدفاع عن تاريخه المجيد- وقد يكون مجيدًا بالفعل في أجزاء منه- وآخر منهمك في وضع الخطط الثورية من وحي رأسه فقط وينتظر من الآخرين التنفيذ، وثالث لا يكف عن التربص بالآخرين ليحدد أولاً بأول مواضع الانتهازية و"التحريفية"..الخ في طروحاتهم.. وآخرون انخرطوا في صراعات عقيمة حتى داخل أحزابهم، والجميع يجيدون اختلاق القضايا التي تثير الخُلْف..

كنت ومازلت آمل خيرًا في مثقفين من شباب الثورة يستطيعون إنتاج رؤى جديدة طازجة لإخراج شعبهم من أزمة ثورته الحالية.. لكن أكثر ما يحزنني أنهم على الرغم من خبراتهم الثورية الميدانية الثرية، لم تُتِح لهم الظروف تكوين ثقافة سياسية حية تتفاعل مع المنتَج الثقافي الثوري العالمي، ومع الظروف الخاصة المتقلبة للثورة المصرية، ومع مستويات المزاج النفسي- الاجتماعي للطبقات الشعبية في اللحظات التاريخية المختلفة..

تسألني بالطبع.. إلى أين نحن متجهون؟ وما الحل؟

ليس عندي حل متكامل.. وإلا كنت أفعل نفس ما أنقده. فالحل المتكامل لا يتبلور إلا على أيدي طليعة ثورية مثقفة حقًا، ومنتمية للشعب ومنخرطة معه، ومنتظمة في كيانات بها حد أدنى من الانضباط الجماعي، فضلاً عن التمتع بالمرونة والإبداع..

لماذ لا نملك هذه الطليعة الآن؟

بداية يعترض البعض على فكرة "الطليعة" هذه، استنادًا إلى طبيعة الاستبداد التنظيمي الذي وصم عمل الكثير من الأحزاب اليسارية في العالم خلال القرن العشرين، وربما امتد إلى ما بعدها. ومن نافلة القول الرد بأن تاريخ التطبيق الفاشل لا يعني نفي الإمكانية المستقبلية للفكرة، ناهيك عن ضرورتها..

الطليعة التي أعنيها، وحتى تستحق هذه الصفة العزيزة، لا يمكن أن تكون متعالية على الشعب، أو على الأجيال الجديدة، بل إنها لا تكون طليعة إلا إذا انغمست بينهم وتعلمت منهم.. فالمعرفة الحقيقية لا تسير في اتجاه واحد، وتقوم أيضًا على علاقة جدلية بين النظرية والممارسة..

يتبنى البعض رؤية "ليبرالية" أو "فردية" أو "شعبوية".. سمها كما تشاء.. مضمونها ألا حاجة لطليعة منظمة، وأن الطليعة هي نفسها "السلطة الحاكمة" بالمقلوب. وذلك على اعتبار أن المثقف الطليعي هو في النهاية مشروع لموظف في السلطة القادمة. ويرون أن العصر هو عصر الكيانات "التنظيمية" الواسعة الفضفاضة التي تسمح للفرد داخلها بحرية الاختيار والتصرف..

وخير رد على هذه الرؤية هو ما آلت إليه ائتلافات كثيرة- معظمها شبابية- تبلورت أثناء الثورة، واتخذت طابعًا لا حزبي ولا حتى جبهوي، وقد لعبت بالفعل دورًا حاسمًا في انتفاضة يناير 2011 لأنها كانت تعرف بالضبط ما ترفض، لكنها للأسف لم تكن لديها الرؤية/ النظرية لما تريد وكيف تحققه، فكان أن تم اختراق الكثير منها من قبل الثورة المضادة (وخاصة اليمين الديني والتيار الليبرالي) أو دخلت في مواجهات وتحالفات خاطئة، أو انخدعت ببعض الرموز الليبرالية التي لمَّعها الإعلام الخاص والحكومي كي تقوم بهذا الدور..

ربما تعود بعض جذور هذه المشكلة إلى الحالة المزرية التي بلغتها أحزاب المعارضة الرسمية قبل الثورة، ولكن يجب أن نلاحظ أيضًا تأثير التثقيف "المدني" الغربي في المنظمات الأهلية والجماعات الشبابية منذ التسعينيات، والذي غلب عليه فرض الاهتمام بالقضايا الجزئية المنفردة (بهدف تجزئة الوعي والحركة إلى حركات شباب/ نساء/ بيئة/ حقوق إنسان..الخ). وكذلك زرع العداء للنشاط الحزبي والتحدث عن حركات اجتماعية ومدنية واسعة باعتبارها البديل الثوري العصري عن النشاط السياسي الحزبي. أما الممارسة التثقيفية الأخطر فكانت زرع الفكرة الخاطئة عن صراع الأجيال، وأن القدامى فاشلون لمجرد أنهم قدامى وبغض النظر عن تضحياتهم والسياق الذي ارتكبوا فيه أخطاءهم.

معنى ما أقول أنه لا بد من تبلور طليعة مثقفة، ومنضبطة، وديمقراطية فيما بينها، ومتسلحة بأرقى الأخلاق الثورية من تواضع وصدق واستعداد للتضحية وتغليب الصالح العام على الخاص، ومنضوية عضويًا في المنظمات الشعبية فتثريها وتتعلم منها، وقادرة على الشروع في صياغة رؤية نظرية للثورة المصرية، وبناء التكتيكات والشعارات الدعائية والتنفيذية الملائمة لكل مرحلة ولكل معركة.

والطليعة ليست بديلاً بالمرة عن الشعب، أو عن التحركات الثورية الواسعة. كما أن فكرة الطليعة لا تعني أن تروج كل جماعة لنفسها على أنها الطليعة الموصوفة، بمقتضى "حق الإرث" أو "براءة الاختراع الأيديولوجي" أو امتلاك زعيم كاريزمي.. أو.. أو..

فلا يُتصور أن تكون هناك حدود فاصلة بين الطليعة والشعب، فيجب عليها أن "تمتص" أفضل من تفرزهم الحركات الشعبية، كما يجب عليها أن تتخلص أولاً بأول من الانتهازيين وأصحاب الذوات المتضخمة..

بطبيعة الحال لا يمكن بناء الطليعة في فترات زمنية قصيرة، مهما كان إلحاح اللحظة الثورية. وليس من حق أي منظمة سياسية ثورية اليوم أن تتصور في نفسها هذا، مهما اتسعت عضويتها.

أعود فأقول لن تنجح ثورة ما لم تمتلك نظرية ثورية وتنظيم ثوري. ربما تتحقق نجاحات أولية على هذا الصعيد أو ذاك، لكن هذه النجاحات قد تتحول إلى فشل مرير نتيجة عدم وحدة الحركة الثورية، والتكتيكات الخاطئة، وضعف التنظيم الحزبي والنقابي والجماعاتي.. وإذا تمعنت أكثر ستجد أن الجوهر هو عدم تبلور وتنظيم وانتظام الطليعة الثورية.

خلاصة ما أدعو إليه هو بناء تنظيم ثوري طليعي، لا يعني بالضرورة إنهاء أو استبعاد ما هو قائم من أحزاب يسارية، وإنما قد يقوم بالجمع بين أفضل ما فيها.. ولا أستطيع أن أحدد بشكل فردي ومزاجي كيف يتم هذا، فمن المهم أولاً الاتفاق على هذا الهدف ثم نشرع في بحث تنفيذه، بل وتنفيذ خطواته الأولية في الممارسة، فبناء هذا التنظيم ليس مجرد عملية نقاشية أو قدح ذهني.. إنه عملية نضالية.. و"عملية" هنا تعني أنها لا تتم بطريقة الخطوة الواحدة، وأنها قابلة للتعديل أثناء الممارسة.. أما "نضالية" فتعني أنه تواكب وتكون ثمرة لنضالات مشتركة..

ونسأل: ما هو الأساس الذي سنبني عليه؟

في البداية هناك الأساس النظري والسياسي والتنظيمي. والمقصود بالأساس النظري هو امتلاك نظرية "عامة" للثورة المصرية، تحدد: طبيعتها، ومكوناتها الطبقية، وسياقها التاريخي، وقواها الثورية، وأعداءها، وأهدافها. ونقصد بالأساس السياسي تحديد طبيعة المرحلة الحالية من الثورة، وتحديد طبيعة السلطة القائمة، وربما أيضًا تحديد الحلقة/ المعركة الرئيسية في كل مرحلة. أما الأساس التنظيمي فنعني به تحديد طبيعة البنية التنظيمية ومستوياتها وآلياتها وعلاقتها بالحركة الشعبية.

أما عن الأساس "البشري" (!!) فهناك أولاً الأحزاب اليسارية القائمة ففيها جميعًا من المقومات والكوادر ما يمكن البناء عليه.. ومن المهم تطوير "التحالف الديمقراطي الثوري" فيما بينها إلى "منصة" لعملية توحيد تزيل الحواجز الذاتية والمصطنعة أمام توحيدها في حزبين أو ثلاثة، ولعل هذا يكون جاذبًا لآلاف اليساريين الأفراد والشباب من "اليسار المجتمعي" الذين مازالوا ينشطون كأفراد أو جماعات صغيرة أو حركات فضفاضة، ويخشون من الانضواء في تجارب حزبية فاشلة..

ثانيًا: هناك النقابات المستقلة (العمالية والمهنية والفلاحية) والحركات الاجتماعية والائتلافات الشبابية الثورية التي تصقل كل يوم المزيد والمزيد من الكوادر الواعدة التي لا ينقصها سوى تعميق الرؤية الثورية واكتساب المزيد من المعارف النظرية والمهارات التنظيمية.. ولن ينجح تنظيم طليعي ما لم يكن على علاقة عضوية وثيقة مع هذه الحركات.. وأن تكون لديه آليات وهياكل تنظيمية مرنة للتفاعل معها..

ثالثًا: هناك أيضًا تحركات المثقفين الثوريين الجماعية والفردية.. وهي بالطبع فئات تبدو "عصيّة" على التنظيم.. إلا أن مضي المشروع الذي نتحدث عنه في طريقه كفيل باجتذاب أفضل من فيهم في المستقبل..

رابعًا: هناك مجال واسع نادرًا ما نبحث فيه.. ربما لأن به من المخاطر الكثير.. ونقصد به المهمشين في الأحياء العشوائية، والتي يتصور أنها في حالة مخاض هائل لبركان قد ينفجر في وجه المجتمع كله.. والتحدي الهائل أمامنا كيف نحول هذه الفئات من احتياطي استراتيجي رهيب للثورة المضادة وتبرير الدكتاتورية الدينية أو العسكرية إلى جزء من قوى الثورة..

أخيرًا.. لا بد من التذكير بأننا إزاء ثلاثة مستويات من العمل التنظيمي الثوري:
(1) أوسع جبهة أو جبهات تكتيكية مدنية في مواجهة الدكتاتورية الزاحفة لليمين الديني الفاشي.
(2) تحالف صلب بين القوى الحزبية والنقابية والاجتماعية ذات الطابع "اليساري" حتى لو لم تتخذ هذا المسمى.
(3) تنظيم أو أكثر (لا مانع) للطلائع الثورية.

وبين هذه المستويات الثلاثة علاقة جدلية لا شك. ومن المفهوم أن تنشأ بينها تناقضات. غير أن المستوى الثالث هو المرشح والمطلوب منه السيطرة عليها وممارستها على نحو سليم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض ضغوط عضو مجلس الحرب بيني غانتس لتقديم خطة واضحة


.. ولي العهد السعودي يستقبل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سو




.. جامعة أمريكية تفرض رسائل اعتذار على الطلاب الحراك المؤيد لفل


.. سعيد زياد: الخلافات الداخلية في إسرائيل تعمقها ضربات المقاوم




.. مخيم تضامني مع غزة في حرم جامعة بون الألمانية