الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تصوير تسجيلي لجحيم حقيقي

ناهدة جابر جاسم
(Nahda Jaber Jassem)

2013 / 5 / 31
الادب والفن


- في باطن الجحيم - للروائي العراقي سلام ابراهيم


تصوير تسجيلي لجحيم حقيقي


ناهدة جابر جاسم*

ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 صدرت للروائي العراقي " سلام ابراهيم " رواية ( في باطن الجحيم ) بعد سلسلة أعماله الروائية ( رؤيا الغائب 1996 ) ، ( الإرسي 2008 ) ، ( الحياة لحظة 2010) عن دار الشؤون الثقافية بـ 320 صفحة من القطع المتوسط، والرواية وثائقية تسجيلية مدعمة بالوثائق الرسمية وصور الكاتب وزوجته كاتبة هذه السطور التي كانت معه في تفاصيل جحيم تلك اللحظات وهم يصابون بقصفٍ كمياوي وصورا فوتوغرافية أخرى لثوار قضوا في القصف، أبو رزكار، أبو فؤاد، أبو الوسن، وصور لعوائل كردية مع أطفالها ضاعت إلى الأبد في حملة الأنفال ولم يعثر على جثثهم في المقابر الجماعية، وكذلك صور رسائل محكمة لاهاي بهولندا إلى الكاتب كي يحضر شاهدا. وكانت الصور موزعة بين السرد وفي الأمكنة التي يجري تصوير تلك الشخصيات مما أضفى على النص المزيد من التأثير، إذ يداخل القارئ بأن ما يتابع من تفاصيل جحيمية هي ما وقع فعلا أي الحقيقة عارية والشخوص من لحم ودم وليس شخوص مركبة من أخيلة وواقع كما هو الحال في الروايات عادة.

انطلاقا من غلاف الرواية وعنوانها المذيل تحته سنتي حملة الأنفال 1987-1988 اللذان يثيران انتباه القارئ إلى خصوصية الرواية التي تتخذ من الأحداث الحقيقية مادة سردها كأفعال ذات دلالات موحية ترتبط بشخوص معرفين بالأسماء الحقيقية

والمرحلة السياسية وهويتهم كثوار في ثمانيات القرن الماضي زمن الدكتاتورية في العراق فيدخل القارئ في مناخ روائي تسجيلي يبدو للوهلة الأولى محصورا ضمن تراجيديا حملة الأنفال العسكرية وبشخص الراوي – سلام إبراهيم – نفسه لكن النص ينفتح على أبعاد وتيم إنسانية أشمل تتعلق بالإنسان كقيمة لا تقدر بثمن، فيلامس النص عذابات تفوق البعد الأيدلوجي للثوار إذ يتعامل معهم كبشر لهم ضعفهم وقوتهم شرهم وخيرهم في معادلة عميقة.

تتكون الرواية من ثلاثة أقسام:

الأول: معنون (مع محقق الدولة الدنمركي) وفيه تفاصيل التحقيق الذي أجراه محقق الدولة الدنمركية مع الكاتب في مكتبه بكوبنهاجن وفيه تفاصيل دقيقة عن قصف يوم 5-6-1987 لمقر الثوار في وادي زيوة خلف العمادية على نهر الزاب حيث أصيب – سلام – إصابة خطيرة كادت تودي بحياته. وكان شاهدا على (نزار الخزرجي) رئيس أركان الجيش العراقي وقت حملة الأنفال والذي هرب بظروف غامضة من الدنمرك قبيل احتلال العراق 2003 بأشهر.

الثاني: معنون (مع محققة الدولة الهولندية) وفيه تفاصيل التحقيق الذي أجرته محققة الدولة الهولندية في لاهاي مقر المحكمة الدولية عما جرى له ولرفاقه في قصف بعد سنة من القصف الأول 21-8-1988 لنفس الموقع إذ قام الكاتب بدفن الضحايا، وكان شاهدا ضد التاجر الهولندي Fan)) الذي ساهم بتوريد المواد الأولية لتصنيع الأسلحة الكيماوية.

الثالث: معنون (ما لم يطلبه المحققون مني) وفيه تفاصيل النزوح الكبير لسكان القرى الكردية التي كانت تقع تحت سيطرة الثوار والثوار المتعبين صوب الحدود التركية واختراقهم الحدود عنوةً مع اقتراب الجيش العراقي، فصور حياة التشرد والجوع والأمراض والمخاوف في المعسكرات التركية التي أقيمت على عجل.

ثلاثة أقسام قد تبدو للقارئ وللمهتم في الشأن السياسي العراقي عبارة عن مراحل في حياة كاتب عراقي نجا من محرقة موتٍ محتمٍ، لكنها بالنسبة لي كابوس أرتعش حين أتذكره أنا الضحية المصابة والمصاحبة للكاتب الذي كان على وشك الموت حرقا واختناقاً، إذ كنا قبل لحظة القصف مساء 5 حزيران 1987 نحلم بليلة عادية في ذلك المكان المنزوي البعيد عن مخاوف السلطة، لكن تلك الليلة أدخلنا الدكتاتور في جحيمه بكل معنى الكلمة، مشاعر الهلع والأحاسيس التي أصابتنا لا يمكنني البوح بها لأنها ستكون مثلبة أخلاقية على المناضل بعيون المتحجرين أيدلوجيا وكأن الإنسان من حديد لا من لحم ودم ومخاوف وأماني.

وصف الراوي بدقة شديدة وبذاكرة ذهبية قادرة على تذكر الظلال والهمسة ليلة القصف وما تلاها من تفاصيل، وكأنه كان يراقب ويسجل كل صغيرة وكبيرة رغم شدة وخطورة إصابته، تفاصيل مشحونة بإحساسه ووجهة نظره في تناوب بين ما يجري في جسده من حريق الألم وما يجري لمن حوله، فرصد كبار السن من المناضلين اليساريين المعروفين في التاريخ السياسي العراقي المعاصر كأبي ماهر المرحوم (ثابت حبيب العاني) وهو يتضور ألما ويستجدي السماء كي تمنحه قليلا من الهواء وكيف ركضت زوجته لمساعدته فيما كان يوشك على الاختناق، والذي نجا بأعجوبة أيضا، وكذلك العديد من الشخصيات التي أصيبت بذلك القصف، كسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الحالي (حميد مجيد موسى) والفقيد (توما توماس) الذي كان مسئول الموقع المضروب.

رغم صمت – الراوي – وقت الإصابة أغلب الوقت وتكسر وجهه ألما، لكني وجدته عند قراءة النص راصدا كل شيء، فهو يتذكر مثلا بالتفصيل كي أصررت على نقله إلى جواري بعد أن فتحت عيوني وصار بي حيل، إذ صور الحوار الذي جرى بيني وبين الرفيق المسئول وأنا أهم بنقله من كلته المشتركة مع الرفيق أبو رزكار الذي سيقضى متأثرا بجروحه بعد ثلاثة أيام. صور كل ذلك بدقة في ص 67 وما تلاها سأورد الحدث نصا وهو عينه للقارئ على طبيعة الأداء السردي واللغوي المبهر:

( - أريدْ أخذه يَمْي!.

استيقظتُ من كوابيس الألم على صوتها وهي تتحاور مع أحدهم، عرفته على الفور حال سمعتُ جوابه كان يدعى ملازم رائد:

- لا رفيقة.. حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.

كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخةً:

- لا راح أخذه هسه.. مالي علاقة بأي قرار!.

قالتها بحزم.. وحدي من يعرف عنادها الجميل وتصميمها الذي لا يقف بوجهه شيء، لا عائلتها التي رفضت الزواج بيّ، ولا التقاليد وهي تلتقي بيّ كل يوم في بيتنا في – الحي العصري – أو بيوت الأصدقاء، ولا إصرارها على العمل التنظيم السري رغم اعتراضي قبيل صعودنا إلى الجبل

سمعته يردد:

- رفيقة ما يجوز.. رفيقة!.

باعدت أجفاني مغالبا ألمها، فرأيتها تنحني وترفع حافة الستارة المنسدلة، وتهمس:

- ها حبيبي أش لونك؟

ساعدتني على النهوض. أغمضت عيني مستسلما ليديها الحانيتين. قادتني لتصعد بيّ المسلك المجاور لساقية النبع

- إلى أين تريد بي؟!.

هذا ما لم أفكر فيه وقتها، فأن أكون قربها حتى ولو في الجحيم فذاك حلم الليالي التي افتقدتها منذ اللحظة التي سمعتها تصرخ:

- رفاق.. عميتْ!. ) ص 67-69

أنها رواية فريدة في الوصف والسرد ولقط الحالات الإنسانية وتصوير العذاب البشري موثقة بالصور عن أحداث مهمة في تاريخ العراق السياسي حيث عصفت بحياة الفرد العراقي الحروب والدكتاتورية، وتأتي فرادتها كونها أول رواية عراقية وعربية تسجيلية فنية يكتبها الضحية نفسه بأسلوب حار يشد القارئ من أول سطر حتى الأخير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟