الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوريا وثقافة الوجود داخل جماعة

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 6 / 2
كتابات ساخرة



من النادر أنْ تجدَ كوريًّا يأكلُ وحده أو يجلس في المقهى وحده أو يسافر إلى مكان وحده. فالثقافة الكورية تقوم بشكل أساسي على الوجود داخل الجماعة طيلة الوقت. وهو وجود تنظمه مجموعة من العادات والتقاليد التي يمكنها أن تكفل بقاء الرابطة بين أفراد الجماعة لزمن طويل جدًّا. الأفراد من مسقط الرأس نفسه تجمعهم رابطة ذلك المكان بقوة، الأشخاص المولودون في العام نفسه، الزمالة في المدرسة أو الجامعة أو الشركة إلخ. بعض التلاميذ الصغار ينتحرون لأنهم لم يتمكنوا من الانضمام للجماعة التي من المفترض أن يكونوا داخلها. المرشحون للرئاسة في كوريا مثلاً، يعتمدون بدرجة كبيرة على أصوات ناخبيهم في مساقط رؤوسهم. ويكون التنافس رهيبًا بين المناطق الكورية كل مرة وكأن الأمر يتعلق بالعائلة لا بالوطن. لقد وُصف الرئيس الراحل- المحترم- روه مو هيون- بالعنيد الأحمق لأنه ترك مسقط رأسه وترشح لرئاسة مدينة بوسان. فمن سينتخبه هناك وهو ابن إقيلم جولانامدو في الجنوب "صعيد كوريا".

منذ روضة الأطفال يتم تعليمهم كيفية العمل المشترك وقيمته ودوره في تحقيق الإنجاز. ويمتد ذلك طيلة سنوات الدراسة حتى يخيلُ إليك أنه لو أراد أحد أفراد الجماعة دخول الحمام، فستجد الباقين يتبعونه على الفور حتى ولو لم يكن لأيٍّ منهم حاجة يريد قضاءها هنا.
في إطار الجماعة يجب أن تختفي الميزات المتفردة للأفراد بحيث يبدو الجميع في أقرب درجات البساطة والاعتيادية. فالشخص الحريص على أن يبدو دائمًا عبقريًّا وفذًّا أو متميزًا ماليًّا أو اجتماعيًّا سيكون من الصعب عليه الاستمرار مع الجماعة لأنه سيسبب لها تعبًا أو إرهاقًا لا تريده. معظم أفراد الجماعة أشخاص عاديون ويرحبون جدًّا بمن على شاكلتهم. قد يجالسون ذلك المتميزة مرة ويبدون إعجابهم الشديد به لكنهم لن يحرصوا على التواصل معه مستقبلاً. وسيطلق عليه التعبير الكوري الشهير "إنه ليس شخصًا مثلنا: سارام أن يي يوو".

بغض النظر عن مشكلات هذا النظام لكن من أهم مميزاته أنه يعلم الفرد الحرص على التواضع- ولو مجبرًا على ذلك- والحفاظ على قيم الجماعة طالما أراد الوجود فيها وكذلك العمل داخلها بإخلاص. فالجماعة لو أوكل أليها بعملٍ ما ستنجزه على أكمل وجه مهما كان الخلاف بين أفرادها في وجهات النظر إلى طبيعة ذلك العمل أو الحياة بشكل عام.
في الأسبوع الماضي. نظم قسم اللغة العربية مسابقة بين الطلاب. قدمت "نور" محاضرة رائعة في ربع ساعة عن "العامية المصرية". وقدمت "علا" عرضًا لمدينة كوانج جو وقيمتها التاريخية والفنية والسياحية في كوريا. وتحدث "رامز" عن بعض المواقف الطريفة التي حدثت معه خلال إقامته بالأردن. وغنى "مصطفى وليلى" أغنية "على باب الله. مع مسابقة أخرى من خلال أسئلة تم طرحها على طلاب كل فرقة على حدة. بعد تقييم درجات المتسابقين كان "مصطفى وليلى" في المركز الأول. كنتُ سعيدًا طبعًا لأني دربتهما على أداء الأغنية- كذلك كنتُ سعيدًا طبعًا بكل الطلاب- لكني تأملتُ ورقة جمع الدرجات النهائية ووجدتُ أن درجات "نور" تضعها في المركز الأول. تحدثتُ إلى رئيس القسم وراجعنا الدرجات مرة ثانية ووجدنا أن "نور" فعلاً هي صاحبة المركز الأول. ثم تذكر رئيس القسم أنها فازت بالمركز الأول في مسابقة الفصل الدراسي السابق. فقال: "إذن هذه المرة نغير الفائز. سنعطي الجائزة لمصطفى وليلى." طلبتُ منه أن يخبر "نور" بهذا الموقف، فتفضل مشكورًا على الفور وتحدث معها. ردتْ بكل أدب وبابتسامة عريضة بالموافقة. ومن المركز الأول المستحق، نالت "نور" المركز الثالث دون غضاضة أو تأفف أو شكوى. ولأنها ذكية وتعرف أن هذه هي ضريبة الوجود في جماعة، فقد منحت الكل سعادة حقيقية حتى مع بعض الألم الإنساني الطبيعي الذي ربما أحست به لبعض الوقت، ولكنها تعلمت جيدًا ألا تسمح له أن يفسد عليها منظومة القيم التي تعلمتها منذ الصغر. هذا المثال البسيط يبين الكثير عن الثقافة الكورية وبخاصة بعض جوانبها التي تدعم تقدم المجتمع وسيره المستمر إلى الأمام.
ما أحوجنا الآن وفي هذا الظرف التاريخي بالذات لقيم الوجود في جماعة؛ جماعة لا تقوم على إيديولوجيا لها أغراض تسخر فيها كل الأفراد وكل شيء لتحقيق مكاسب خاصة ولو على حساب الآخرين والوطن نفسه. وإنما جماعة بين الزملاء والشركاء والأصدقاء يكون هدفها نجاح كل أفرادها والمحافظة على روابطهم فيها وبها لأطول وقت ممكن.

محمود عبد الغفار غيضان
2 يونيو 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أية جماعة بلا أيديولوجية؟
حازم ( 2013 / 8 / 13 - 14:13 )
اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا كل جماعة تحكمها أيديولوجية تحكم وعيها بالواقع سواء أكان وعيا علميا أو زائفا. وهل تقدمت البشرية إلا بأفراد تميزوا عن الجماعة و سلكوا دربا جديدا في كل المجالات؟ المقابل الجلي يتمثل في جماعة الخرفان المقدسة، هل نبغ منهم أحد وقدم جديدا؟ كما قال ألتوسير الأيديولوجية تنادي الأفراد كذوات. كوريا تسير على درب الرأسمالية الغربية، وقد رأينا أين انتهت دولها الرائدة في أمريكا وأوربا الآن، فماذا نتوقع؟

اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل