الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة العقل الغيبى

ميشيل نجيب
كاتب نقدى

(Michael Nagib)

2013 / 6 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


مما لا شك فيه أن العقل فى منطقتنا العربية يمر بمحنة كبيرة نظراً لتغيير طبيعته ووظيفته الإنسانية إلى طبيعة ووظيفة غيبية، وهذا التغيير أحدثته الأفكار والعقائد الدينية المتسلطة على الأفراد الذين يستعذبون نكهة التدين والعواطف الجياشة بالعوالم الغيبية التى يضعها كل مؤمن حلماً وهدفاً نصب عينيه، مما يجعلها تقيد أفكاره وتعزله عن الواقع، هذا العقل الغيبى أستغله القادة السياسيون والدينيون فى وضع مسميات هزيلة للهزائم التى تلحق بشعوبهم ودولهم، سواء كانت هزائم معنوية بتخلف العقل عن مجاراة الحداثة والتقدم الإنسانى أو هزائم مادية فى معارك وحروب يتم إقناع الفرد بأنها مجرد نكسات أو نكبات، وسرعان ما يأتى رجال الأديان الموالين للسلطة لتفسير تلك النكبات بأنها عقاب من الآلهة على عبادة الله وفسادهم وفجورهم، لتستمر محنة العقل الغيبى للإنسان المجبر على تصديق مايقال له حتى لا يعتبر عاصياً لمشيئة الآلهة التى تعيش فى مكان ما من عقول البشر الحالمين بالثأر من الأعداء.

هذه النكبة أو النكسة تأصل معناها لدى الجميع مما أتاح للأنظمة السياسية والدينية إنتاج نكسات جديدة تقبلها بسرعة عقول الشعوب المهزومة، فإنتكاسة المريض فى مرضه لا تعنى عدم الشفاء بل هى مجرد إنتكاسة بسيطة يعود بعدها إلى حالته الطبيعية، وهكذا بدأت النكسات تتوالى على المجتمعات العربية من إستبداد ودكتاتورية وتخلف وإعادة إنتاج الأفكار الدينية التى تكفر الآخرين وضرورة محاربتهم بأعتبارهم الأعداء الجدد للإنسان العربى، وهذه النكبات الجديدة ساعد على أنتشارها وإمدادها بالمال اللازم كل من له مصلحة فى بقاء الدكتاتورية والبقاء فى السلطة سواء كانت أنظمة خارجية يعنيها أستمرار الصراعات الداخلية أو الأنظمة الحاكمة نفسها التى تعيش على زرع الفتن وأستغلال العنصر الدينى فى ضمان بقاءه فى الحكم، وهكذا أستمرت محنة العقل تغوص أكثر وأكثر فى غيبية تراثية مملوءة بأفكار وظلام التخلف الذى يعاد إنتاجه من جديد وكأنهم يكتشفون كنوز عقائدية ستنقذهم من نكباتهم المتكررة.

محنة العقل الغيبى هذه لاحظها البعض من النخبة المثقفة لكنهم كانوا أسرى لفكر الهزيمة وفكر الأخيار الكاذب، فالواقع يشعرهم بثقل الهزيمة الحقيقية التى لحقت بالوطن لكنهم فى الوقت نفسه أنساقوا للخطابات السياسية والدينية التى تزرع فيهم أفكار عظمة الإنسان العربى المسلم وأنهم خير البشر، مما أوقعهم فى إزدواجية الصراع بين فكر الهزيمة الواقعى وبين فكر أنهم الأخيار بين البشر وهذا الصراع أوقف كل محاولات الإصلاح أو التغيير منتظرين جمال عبد الناصر أو صلاح الدين الأيوبى آخر ينقذهم من آثار النكسة والنكبة التى حلت عليهم ليجدد حياتهم الدينية وأنظمتهم السياسية، وهذا معناه أنهم بأفكارهم الدينية المتجزرة فى عقولهم لا يريدون الأعتراف بأنه يعيشون فى محنة كبيرة وللخروج منها عليهم تجديد العقل ومنحه الحيز المناسب حتى يقدم أفكار التغيير والتحديث المناسبة للعصر الذى نعيشه.

وسط محنة العقل كانت الأصوات والأفكار المطالبة بالتغيير والنهضة والتجديد وسرعان ما يخفت نورها على وقع أقدام الخطابات الغيبية التى ترفض أفكار العقل وتستخدم الفكر التراثى الغيبى كمرجعية وحيدة لإقناع الرعية بأن المستقبل سيكون فى سيادة الفكر والعلم الدينى ولن يكونوا فى حاجة إلى أفكار العقل الغربى الكافر المستوردة، وسرعان ما أستجاب الشارع لهم وصدقوا أقوالهم وجاءت النكبة الجديدة بفوز الإسلاميين فى تونس ومصر وليبيا، وظهر واضحاً أن أستعانتهم بالأفكار الغيبية وتراث مجتمعاتهم القديمة الملئ بالصراعات والحروب وسفك الدماء للجلوس على كرسى الحكم وأمجاد الخلافة والبطولات الزائفة التى تلوثت بدماء البشر، هى نفس الأفكار الذين يريدون تطبيقها على إنسان العصر الحديث حيث الفقر المعرفى والتخلف الحضارى والفكر الغيبى الذى يفرض نفسه ويسيطر على قرارات الفرد بأعتباره فكراً مقدساً.

إن التخلص من الخرافات والأساطير الغيبية التى يُعاد أستخدامها هى خير علاج لمحنة العقل الغيبى المتقوقع فى دائرة الظلام الثقافى الآتى من أعماق التاريخ العربى، تلك الثقافة الظلامية العنصرية التى تعمل بقوة على تجهيل ما عداها من ثقافات إنسانية تحترم حريات البشر وتؤسس لحقوق المواطنة والمساواة للجميع، والتخلص من إستبداد الفكر الدينى الغيبى سينقذ الأنسان من التسول والموت جوعاً ويصون تطبيق العدالة على الجميع وحفظ كرامة الإنسان، ستنتهى محنة العقل عندما نؤمن بأن ثقافة الإنحطاط هى تلك الثقافة الغيبية التى سادت عقولنا سنوات عديدة وحان الوقت للتخلص منها وإعادة الإنسان إلى مكانته التى أهدرها الإستبداد الغيبى.

إن التقدم والإزدهار هم نتاج التحرر من القوى الفاشية التى تتخذ من الدين والسياسة ستاراً للهيمنة على إرادة البشر، والتخلص من القمع والجمود والتقليد الأعمى للتاريخ الذى لن يعود، التنوير الحقيقى هو قدرتنا على الوقوف بجانب ثمار العقل والأبتعاد عن الإنتهازية والإنغلاق وعدائية الفكر الدينى الغيبى الذى يكفر العقل الإنسانى، فالتمرد على الأوهام والوصاية الدينية المستبدة والمتسلطة على العقول سيجعلنا ندخل فى عصر الحرية والديموقراطية ونبدأ عهد جديد تسوده منظومة القيم للعقل الإنسانى الحقيقى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة