الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تُخطئ الشعُوب؟

نصير عواد

2013 / 6 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الخطأ والصواب مرتبطان بعلاقة أزليّة لا يأتي أحدهما بمعزل عن الآخر. وذهب قدماء الفلاسفة إلى أنّ الخطأ سبق الصواب، وأنّ تراكم الأخطاء يولّد الصواب، وبالتالي فهي أخطاء مقبولة ومبرّرة وضرورية لغرض التوازن. ولو نظرنا إلى حركة الشعُوب سنجدها لا تسير بخط مستقيم من النجاحات، فهي قد تسكن وتتخلف أو تستيقظ وتخطو، وحتّى القول الدارج عن أن الشعوب تستفيد من تجارب الشعوب الأخرى يعني ضمّنا كمية النجاح والفشل التي عانت منه تلك الشعوب للوصول إلى ما وصلت إليه؛ بمعنى أنّ الشّعب يعمل وينتج ويصنع قيم وثقافة ولا يمكن تجريده من دوره ومسؤوليته، إنْ كان ذلك سلبا أو أيجابا. نسوق ذلك بسبب أنّ الأحزاب السياسيّة غالبا ما تضع مصطلح "الشّعب" في خانة الحقائق المطّلقة والمفاهيم المقدّسة التي لا يجوز المس بها، ولم يحدثْ للأحزاب أن ألقت يوما بالمسؤوليّة على عاتق الشعوب رغم كل ما حَدَثَ من عثرات ونكبات. فمن عادة الأحزاب السياسيّة التغني بمأثر الشّعب وألقاء اللوم على الحكومات والقيادات والأزمات الدوليّة والمؤامرات الخارجيّة وتقلبات الطبيعة، ولكنها حين تصل إلى مفردة "الشَّعب" تصْمت وكأنّها داست على لغم أرضيّ، وتخاف أنّ تقول شيئا حتى لا تُتْهم باللاوطنية أو تُتهم بأنها واقفة في صف الحكومة، مع أنّ ضعف أداء بعض الشعوب وتراجعها في أماكن عدة من كوكبنا الأرضي تُعْتبر ظاهرة طبيعيّة ولا يعني بأي حال افتقار هذه الشعوب إلى حضارة أو ثقافة أو هوية خاصة بها.
سلطة الدّولة هي التي تُظلِم وتُهدر حقوق المواطنين، هذه حقيقة معروفة ومكرورة حد الملل، ولذلك توقفنا عند قطب المعادلة الآخر، الشّعب. مع أننا لا نرى رجالات السلطة وقد نزلوا علينا من كوكب آخر بمركبة فضائية، بل نرى أنّهم جزء من المجتمع وتشربوا بثقافته السائدة، يتحدثون لغته ويقرأون تراثه وأشعاره. عندما يتعرض الوطن إلى أزمة، سياسيّة أو أخلاقيّة أو اقتصاديّة، عميقة ينبغي علينا البحث في كلّ جوانبها وتسمية الأشياء بأسمائها ولا نلقي بالمسؤوليّة على طرف دون آخر، على الرغم من أنّ المسؤوليّة الأولى كما أسلفنا تقع على عاتق سلطة الدّولة. صحيح أنّ الذاكرة الشِفاهيّة حَفِظت للحاكم، على الدوام، الظلم والطغيان ووضعت كلّ مَنْ يواجه سلطته في خانة الضّحايا إلا أنّ ذلك لا يعني إنّ الضّحية لم تُخطئ أو لم تُساهم في الموقف الذي وصلت إليه. فهل يكفي أن نختصر صمت العراقيين على الظلم، عشرات السنين، بالتقيّة والصبر على الحاكم؟ وماذا نسمي الهياج الجماعي لطائفة تُعد بالملايين ضد طائفة أخرى أقل عددا لتعبث بها قتلا وحرقا، وماذا نقول عندما تنفلت قطعان مسعورة من كل الجهات على مؤسسات الدّولة وتسرق المتاحف وتهدم المصانع وتحرق المستشفيات وتنهب محتوياتها؟ ألم يئن الأوان لخفض أصواتنا عندما نتغنى بالماضي وبأمجاده التليدة، وبأننا من "بلد النهرين وموطن الحضارات ومهد القوانين".
إنّ الرؤية الناقصة والمنحازة لعناصر الصراع أعمت بصيرتنا وجعلتنا نرى ما تقوم به سلطة الدّولة من قمع وتنكيل بمواطنيها مدان، حتّى لو كانت وسيلتها الشكلية القانون والمحاكم، وأنّ نرى في هيجان العامّة وبتكسيرهم آلة الدّولة وبحرقهم مستشفياتها وتخريب متاحفها إنه "حكم الشّعب أو عدالة الشّعب". بعد سقوط الديكتاتور بأعوام كنت قد رأيت قرب تنور جارتنا جهاز "سونار" يُستخدم في تصوير القفص الصّدري لتشخيص الأمراض المُعْدية كانت أدارة المسّتشفى قد دفعت به الألاف من الدولارات. روت الجارة المتّشحة بالسّواد كيف هرع الجميع، بعد سقوط الديكتاتور، لنهب المستشفى المجاور لهم، من كراسي وأسرّة نوم وشبابيك وأبواب، في حين كانت هي متأخرة بعض الشيء عن "الفزعة" وعندما وصلت لم تجدْ في المستشفى سوى هذا الجهاز الذي لا تعرف عنه شيئا فحملته على رأسِها وجلبته إلى البيت ووضعته جنب التنور لتنشر عليه الخبز الحار لحظة اخراجه من التنور!!!.
الحديث عن الدّولة يسّتدعي مصطلحات قانونيّة وحقوقيّة لإشباعه في حين أنّ الحديث عن سلطة الدّولة، أو الحكومة، لابد له من مصطلحات سياسيّة ونضاليّة تتسلح بها الأحزاب لغرض المواجهة. في هذه المعادلة الصراعية يبقى الشّعب يمثل افتراضا سياسيا للأحزاب المتصارعة على كرسيّ السلطة وكلٌ ينسج افتراضه على منوال رؤيته وبرنامجه السّياسي. عند هذا الحزب يتكون الشّعب من شرائح وطبقات وعند ذاك الحزب ينطق الشعب بلسان واحد للحاكم، مع أن الحقائق على الأرض تقول أن السياسيين مِن نسيج واحد، يهيمون بفكرة الشّعب وهم في ذات الوقت منشغلين بمصّلحة أحزابهم. يُرَحّلون الأخطاء إلى الأفراد والمجموعات والقيادات، وأحيانا لعدو خارجي، ويشدّدون على فشل الخطط الاقتصاديّة وتخلف الأمتين العربية والإسلاميّة من دون أن يحُّملوا "الشّعب" جزء من مسؤولية ذلك. عجيب أمر هذه الأحزاب تطالب بأشراك "الشّعب" في صنع القرار وادارة الدّولة وتسيير عملية الإنتاج ولكنها لا تحمله المسؤوليّة عن أي من الأخطاء الحاصلة حتّى لو كانت تلك الأخطاء عفويّة وغير مقصودة أو من تلك التي تفرزها طبيعة العمل. مع أنه يكفي أن نمر بسوق أو شارع حتى ندرك مساهمة الشعب بجزء من مأساته، ونعرف لماذا لا يذهب الأطفال إلى المدارس ولماذا العائلات لا تهتم بنظافة بيوتها وشوارعها ولماذا الأسواق وسخة وفي فوضى مريعة، فهل أنّ مؤامرة خارجيّة تقف خلف ذلك؟ وهل أنّ قرارا رئاسيا أجبر القوم على التخلّي عن قيمهم الأخلاقيّة والاجتماعيّة وشرّع للجار قتل جاره على الهويّة والاسم؟. في الحقيقة لو أزلنا غبار القداسة عن مصطلح "الشّعب" لرأينا الشّعب العراقي في الماضي القريب قد ساهم من طرفه في صناعة صدام حسين، واليوم يساهم عبر صناديق الاقتراع، في دورتين انتخابيتين، بتزكية السرّاق والمفسدين والمزورين؟ وأنه سبق له أن ساهم في المذابح الطائفيّة وما زالت الذاكرة محتفظة بصور مخزية عن تذابح الفقراء فيما بينهم على الاسم والهوية؟. بالطبع هذه الحقائق لا تُرضي البعض ممّن يرون بـ"الشّعب" مجموعة شرائح وطبقات ومصالح لا يمكن أطلاق مصطلح جامع عليها، ويفضلون ألقاء اللوم على الأحزاب المتواجدة بالشارع أو على الاحتلال الأمريكي. لأن ألقاء اللوم على "الشّعب" ستتحمل جزء منه الأحزاب السياسيّة والقيادات الناشطة في الشارع. ففي الحياة اليوميّة غالبا ما تكون أخطاء السّياسيين ملموسة في حين أنّ أخطاء الشعب ليست كذلك ولا يمكن تشخيصها مباشرة، ولذلك نجد السّياسي لا يؤكد على أخطاء الشّعب حتّى لا تُكشف مؤخرته، ويحاول الاختفاء خلف ذرائع أيدولوجيّة تمهد له الفرار من مواجهة السؤال الأخلاقي. بالطبع هذا الاختفاء ستنتهي مبرراته حال وصول السّياسي المعارض إلى كرسيّ السلطة، وسيتدرج في مواجهة الشّعب لحين الوصول إلى مرحلة ألقاء المسؤوليّة كاملة عليه.
الحزبيون، والسائرون في ركابهم، لا يحبون التعميم ولا يستطيعون الاقتناع بأنّ هناك شعوبا فقيرة، الصومال، وأنّ هناك شعبا يكره شعب آخر، الفلسطينيين والاسرائيليين، وأنّ هولاكو وهتلر وصدام حسين لم يشنوا حروبهم بمفردهم هم وعائلاتهم وأبناء عمومتهم فقط، وأنّ الحروب الأهليّة بلبنان والعراق وسوريا وليبيا ساهمت فيها الشعُوب بدور أساس. طبعا سيأتي طيب القلب يردد اسطوانة "أننا ضد الصهيونية ولسنا ضد اليهودية"، وسننصحه بشراء نظارة لرؤية حياة الفلسطينيين في الشارع وليس عبر تصريحات الأحزاب السياسيّة.

نحن حتى لو اتفقنا مع الرؤية الحزبيّة وسلّمنا بأن المجتمع خليط من شرائح وأفراد ومصالح فأننا لا نغفل حقيقة أنّ الممارسات الشائنة، الفرديّة وغير الفردية، حين تَحدُث وتمضي من دون محاسبة من قاموا بها فإنّ ذلك سيؤدي إلى ربطها بالمجموع وستُطلق تسميات عامة ومجازية غير محببة وغير مُنّصفه بحقهم، ستتحوّل بمرور الأعوام إلى أشعار وحكايات ونكات ترددها الذاكرة الاجتماعيّة، ومصطلح "الفرهود" الذي نُحت في أربعينيات القرن الماضي ببغداد الرشيد فيه أكثر من دلالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة