الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رجل القبو

فراس سليمان محمد

2005 / 4 / 29
الادب والفن


رجل القبو

نص

لتحلَّ الرؤيا فيكَ ، فهي منقذكَ .. ومعذِّبُك . لكنها حكماً أفضل من مواتكَ وحصرِكَ في الأشياء .
فلما اكتملت الفكرةُ ، وأُشير إليها بتكوِّر الزَّمن لحظةً لا تُحسُّ جئتَ مكتملاً إلى حين ، مرفوقةً كياستُكَ بطرفٍ من الحياء ومصابة عينك اليسرى بحَولةٍ كثيرة الصفات ومترعة طفولَتك ، كانت ، بحكمةٍ لا تزهو ولا تُبَرْهَن .
ولأنَّ من يعرف .. يعرف أنك ستنزوي فيجرِّحُ روحَك قلقٌ وتخلخل جسدكَ خيالاتٌ مبعثها كل شئ . فلا تقوى لتكون .. إذ أن زمانك ليس في الزمانِ .. فينداح فيكَ ماء الموتِ ، وكي لا تذهبَ إلى عَمائكَ مبكراً ، أسعفْتَ برجلٍ يعمِّرُ موتَكَ فيكَ ليؤجله . يدلُّكِ إلى يديكَ فتخطئ .. يدُلُّكَ إلي عينيكَ فتنسى .
ليَلُمُّكَ الشَّطحُ فتذهبُ إلى آخر دركٍ في صياغة الحال مائلاً دون ميلٍ إلى أعراضِ الوحدة الصَّرْفة . عاشقاً كُن . . وماضياً إلى زوالكَ ، فالغافلُ يقرأ ما يكفي المرامَ وما يَنْظمُ المكانَ في جوقةٍ تتداعى في التِّيْهِ/النورِ .
تتداعى الموسيقا .. ويمتد السطرُ ، يوصلُ النقطةَ بنفسها . عاشقاً كُنْ ، خبرة الصوتِ فيكَ حيازةُ الكُلِّ بين دفّتيّ شوقٍ يقتاتُ اسمَه .
كنْ . . فليس في النقصانِ معانٍ . . ليس في الاكتمال . ستفرح التشابيهُ وسيخرج نملُ الكلامِ من رؤوسٍ دائخة .
يمكنك أن تبدأ من أي نقطة . . إذ . . الاتجاهُ هو الفكرةُ وحسب . . إياكَ والحكايةَ ، الحكايةُ فتنتةٌ وإغراء . . ذاكرة دبقة . . لا تجاملْهم ، دعْ كتابك للريح ، إنّ أيّة إشارة تكفي لزجّك في زنازين فهمهم ، دعه للعابرين دون متاع . . للساهمين المعفرين باحتمال حريةٍ ورؤى لا نظائر لها ، للماضين هكذا . .
صحيح أنه من المستحيل نفي الشكل ، ولكن مع هذا فلتكن مهمتكَ/ لعبتكَ محاولةَ النفيّ هذه ، محاولة يائسة وصعبة .
لتنسَ النتائج . النتائج دائماً مضحكة .
رجل القبو هناك "يقول" ، وذلك ربما آخر إشارة لوقوعه في حيّز ، ولأنني ما استطعتُ أن أرفعَ إغماضةَ التشابك من أمامي ، رميتُ جسدَ رجلِ القبوِ في أيّكة الكلام ، ليس إجابةً تفكَّ الذهولَ ، وإنما خطوة عميقة في الظلّ .
الكلمة/ الرحلةُ شساعةُ الانخطاف وسرعته ، ليست شيئاً ليرسو . . فلتةٌ متدرّجة ، انحرافٌ عن ثقل التضاد والثنائيات المطروحة على رقائقَ هشةٍ ، محضُ زيارةٍ من لا شيء إلى لا شيء آخر .
ولا ينتهي مسلك الصوت إلاّ في لعبةٍ خطوطُها مناسبةُ الحماس في العجز الصائرِ المتحول .
إذن . . أولاً اللغة . . وربما أخيراً ، اكتشافُ شكلها وسحب الخيوط من ماهيتها ، توصيلها إلى آخر وظيفة لها ، إحراق أرديتها ، سَلْخُ التاريخ عنها .
شيء يشبهُ كسرَ الغاية ، وقوعٌ في مصيدة القانون من الجهة المعتمة .
ماذا يعني رجل القبو : لا تقعْ في سياق ، لا تكن ساذجاً وتحاكِ الفكرة ، الفكرةُ جنس أصفر . . وقتٌ يحلُّ قبالةَ الجسد جداراً ، خيارُ الحاجة وقد توكّأ على حركة صغيرة تشي بالعجلة والوجل .
لا تنغمر في العالم الواقع في أسر اسمه . كن فعلاً قابلاً للتحقق دون شروط ، لا تكن/ كن خارج النظام - القوة - النص .
عَلّق جسدكَ على لحظة ليس لها خواص . ليس في شيء وأيضاً ليس في الموت أو الصمت .
ولأنّ صرختي كانت همساً أقول "مغامرة" ، وأنا أتحمّل تناقضات تسوطني وستسوطني لاحقاً .
إنه مطمئن ، لكن ليس كما يُفهم الاطمئنان ، إذ هو يمضي هكذا في جوف نقطة مفتوحة لتضمّ الكونَ وتكونَهُ دون دليل .
ولأنني أحسّ بالارتباك على أشُدِّهِ أقولُ : كنتُ أتمنى أن يخرج صوتُ . . رجل القبو . . صوته نفسه من موقعه . . صوتٌ صافٍ لا تشوبه أصواتُ الأمكنة المختلطة ، صوتي "أنا الراوي" .
وستنكشف أنياب اللعبة , كذبتي التي صدّقتها "ذلك نصُّهُ أن يُملي عليَّ" . وعليكم أن تتوقعوا بل وتتقبلوا انفجار صوتي ، أنا الراوي ، من كل الزوايا منخرطين في اللعبة ومتناسين قدرتكم على المحاكمة ، وتتوقعوا أيضاً أصداءً كثيرة ربما لفكرة واحدة ما دمت أنا الراوي أحاول كرسياً مخلخلاً لهذه الدرجة .
لماذا الفكرة أقرب إلى نفسها وأصعب من أن تكون .
لماذا أرى الزمن يتفتت في الهواء لأجل حكمة لا تُفهم ولا تُسمى . لماذا أزنُ خفّة العدم برغبة ، وأسندُ جسدي إلى معنى لم أشيّده ، أكتب ارتباكي كأني أعيدني إلى أصلٍ أجهله ؟
هكذا مثلي في الجسد هيامٌ شاردٌ .
إعرف أحد ليس بريئاً مما سبقه من ذلك الأرث العظيم / من تلك الجهود ..المساهمات . إذاً كيف يمكن لرجل القبو أن يوجد ما دام ليس ثمة أثر صافٍ لوجوده . بقيَ سلسلة بدائل تحتاج إلى قراءة . شيء يشبه كينونةً تقول نفْسَها في حركة جوهرية متحررة من الأثقال الواضحة . كأني أقع في برودة المُكتشف في حفرةِ المنتبهين لشروط الانتباه .
يحدث أحياناً أن يتفتت الظلُّ ليلمَّ الساهمون ذَهبَ شمس لا تُرى ولا يتأتّى نورها إلاّ في التباسها ، في إشارةٍ هي الظل وقد بدا نقيضَها وهو ليس .
لكن أنا لم أستطع أن أنهض مثله نظيفاً من اللحظة الفارقة ، أن أتماهى مع ما يشعُّ من جوهرة النسيان ، مع ما يشعُّ من خيوط الرؤى وقد انبثقتْ من الكلّ ، من ذلك اللمعان الموارب الذي يتراقص وراء ما يُرى ويُحس .
كأنه ما رغبتي سوى أن أستعيدَه ، أقصد أحقِّقهُ داخل إمكانيات الإنشاء .
خيبة المدِّ في قبو النباهة المختلفة ، ميراثُ السَّرد في خاطرِ السَّاهم ، قبالة لحظة لا تحدّها ذاكرةٌ ولا تقعُ إلا خَلفَ مخيِّلة القارئ المسكين .
وإذا كان لا بد من الإيمان/ الركون بصفته رابطاً ومؤكِّداً للعلاقة مع نبض الزمان والمكان ، مع ضرورات المدرَك ، فإيمان الرجل تحوّل إذْ انفكَّ ، وأصبح ، أو أصبحت ، تجليات إيمان الرجل نابعة من معاني التحول والانفكاك نفسها .
كل شيء يمكن أن يُردّ عليه ما دام العقل يحاكم ، أو لنقل ما دامت سلطة العقل ترسم حدوداً . ولكن التصدي لرجل القبو يفترض مساءلة كل الأشياء لا لنفيها أو توطيدها بل لتصعيد ظلالها إلى آخر نقطة .
لكن العقل أيضاً خيبة المدِّ في قبو الاختلاف . . وقتَ ما يُرجئُ الندمُ صعوبةَ نفسه .
يمرّ الحفاةُ بين جسدي وكينونة الكائن دون صورة .
ما قصدتُ جيشاً من الآخرين فيَّ يُزهقُون السطر ، ويرمون زئبقَ كلمتي في استقامة نظرهم ، فتشحُّ يدي عن قطف ظلها . . بل الحفاةَ في هديرِ عطشهم .
يتراءى القبو طيراً هارباً في عتمة النفي ، أو عتبةً أكثرَ اتساعاً من تابع مكانها ، فيما يفيد الناظرَ دقةُ النبات في حوش الخلاء . . وانجدالُ البائدِ من الماء على تلّةٍ حجبت اللوحَ المكتوبَ وخشخشةَ التنفّس لرعاة السراب الحفاة .
خيبة المدّ في هوةِ الوصلِ . مكانَ ما يرمي الشاعرُ عينيه ، رجل القبو دموعَه .
لا شيء في الإيمان ولا شيء خارجه ، وحاضرات الصورة أشلاء مغطاة بقميص الزمن المفتوح المهترئ ، هنا فساد الدوائر وفضائل الرؤية دون طائل .
ولأنني لستُ فاعلَ الكتابة ولا فاعل السكون ، ولأنني مهجوس بشطح الأنبياء وآلاف الزاهدين . . ولأنني استواءُ الضدّ أمام احتمالات أضداد عظيمة ، ولآنني أعظم من الشهادةِ والدليل وأكثرُ امتداداً من الزمن ، لا أقع في هذا أو ذاك ولا بينهما . الباقي فيَّ ليس مني ، وأنا عصارة ما يمكث فيكم عندما تقلدونني دون أن تعرفوني .
لا أريد أن أدّعي أني أعرف لماذا وضع رجل القبو روحه بين يديّ ، هذا إذا كان هو فعلاً قد وضعها تاركاً لي هذه المهمة الصعبة ، مهمة التبليغ والإرسال . ولكني أحدسُ إدراكَهُ . . أنهم قلّة هؤلاء الذين يصغون للصوت المكتمل في الـ هناك . . أهكذا إذْ أسأل . . أتقاطع معكم وأنحاز إليكم ، أو بينكم وبينه ، أمضي متناسياً حجمَ الوهمِ والحقيقة ، مشدوداً لخشبة المشهد المهيأة ، منداحاً كبقع الزيت على قماشة الوجود الملونة . . ! ؟
لا . . ما زال ثمة بياض يصفع ، لا . . فما زال رجل القبو في مدى عينيّ يقوّس الترابَ موجةً أو طاحونةً ، يُملي مصادفات القلب على ضريح الشرق . . يبذر بلاغةً لا يرغبها في تجاعيد الفضاء ، . . . يخلط نفايات النعاس بلبن المعنى ، يلمُّ نقائضي في وثن القول . . ويحرق أحمرَ الثمر بين يدي .
في القبو ، أو في هيولى الصورة . . حيث زيت الموسيقا يسقسق في كرات الهباء , يقف الرجل في جرح الظلام هيكلَ وجعٍ ينهدم وينبني . . ينبني وينهدم . . وأنا ألمعُ وأدمعُ من شدّة مكوثي على الحافة وفي الخطوةِ المقلوبة .
حتى لو كانت آخر روح رجل القبو جسداً وآخر جنونه حكمةً ، فذلك يتعلق بكارثة الانوجاد .
أيها السادة ، أنا أرتجف الآن ، ليس فقط لأنّه ليس ثمة شيء ناجز ، بل لأن الناجزَ مجرّد ومكتمل ، ولمَّا يريد أن يتجسّد فإنه ينفرط في الأجزاء ، ولأن الأجزاء تعاود بحنين غريب لتكمل نفسها لترجع إلى أصلها ، تحاول ذلك عبثاً .
الكون . . الامتثال - مغزى الضعف مغلفاً بجماليات حزينة ، قد تلتصق بعض أشلائها على أمزجة مجنونة ، لكنها لا تذهب في ذاكرة ووجدان العامة .
سوء حظ أوهنَ اليدين عن حمل المتاهة ، وضَرَبَ الحالةَ حين خلعها من جذورها إلى مكان لا يلائمها .
كل شيء خطأ . ليس ثمة ما يحصِّنُ رجلَ القبو إلا ضعفه الملتبس .
ضعفُ رجل القبو مُسمّى ناقص ، يعجز عن أداء مهمته في الوصول إلى الزوايا المتشابكة في المتاهة . إذ . . أنه لا آخَر . . لا آخَر . .
حلقةُ العلائق غبار ، تمريراتُ المطق السرية أضحت بالفعل في مرمى العلن .
الوحدة هي تمزيق للجسد أمام التماثل / اللاتماثل الرهيب .
فقدٌ مأساوي لكثافة النقطة الأساس ، ذلك رغم شساعة الاتجاه للموت . . ثَمة لا اتجاه . . العودة . . الخرق . . التبديل . . الجهد . . الجنون . . . معاصٍ لا تُرتكب .
كل معادل مُقترح انتحارٌ . السؤالُ هو الخلاص ، الجواب هو السؤال المعجزةُ .
في البساطة ديمومة الأشياء والأسماء
في الديمومة بساطة الأشياء والأسماء
في الأسماء والأشياء ديمومة البساطة .
اللغة معجزةٌ ناشفة ، ذلك أن الوعي في تحققِ جزءٍ منه فيها لعبٌ يصفو أمام الشيء ويتعكّر أمام الاسم .
هل اللغة هنا خارج الدوائر ، قبالة الجرائم العامودية ؟ والالتفافُ من خلالها ولأجلها إعادة إبليسية لتأهيل الطبيعة . . إنقاذِها مصفَّاةً وربما فارغة من دوافع الموت والعَوْد .
لا يحتمل الارتباكُ الخللَ لأنه جوهرٌ ما ، اللعبة شرسة والقدرة على الاستمرار استهلاك لا يعي نفسه إلا بزواله .
المشيئة الكاملة لرجل القبو إشارات معقدة أحاولها أنا بما لا يحيطها ، ومن الأمانة . . وما الأمانة هنا سوى محاولة تأكيد تناغم ما ، التذكير أنّ رجل القبو لا يعبأ بشيء ولا حتى بما أحاول ، أنا الراوي ، قوله . . وهل من مهماتي أن أنزله من عرشه ، أن أخرجه من قبوه ، وكيف لي أن أفترضه بطريقة أكثر وضوحاً وما السبيل لتفتيق طقم صمته ، لتفتيت غيوم فكرته ؟ ! .
وإذا كان رجلُ القبوِ كتلةً ، جسداً . . وتلك مقاربةٌ مقُترحة كي ندركَ الحالةَ ، فإنه حتماً أفاد من السابق ، اعترف أم لم يعترف ، وإذا لم يكن السابق تلك الذاكرةَ ، خزان المعرفة المثقوب ، فليكن الكائن قبله دون ضبط ، أو الآخر المختلف .
هكذا ثمة أنفةٌ من قطف الأسماء وصياغة الأحداث . رؤية لا تُدعَّم بـ "قال فلان وحث هذا" ، التاريخ والاجتماع في الرأس فولاذ ذائبٌ متحولٌ إلى ضباب .
بكلام آخر . . الذاكرةُ فعلُ نسيان ، أرضُ النسيان أكثر خصوبة والأشياء خارج صفاتها قبالة طفولة مخيلةٍ حقيقية تقبل القراءة ولا تقبل الحدّ .
وأنا في موقفي أمامَه ، دون أن يريد ، أراد إحراق ذاكرتي ، إنه يحاور آخر شكلٍ للحركة . . الذهنَ بوصفه ذهناً ، حرثاً مشوشاً ، ليحرره من المعلومة ، من الاستعراض وإغراءات الأشياء وسلوك ومسالكَ قديمة . إنه يرمي روحاً أمامي لتنبت ظلالٌ وأضواءٌ لتنتصبَ الفكرة مشدودةً إلى الحلم . الفكرةُ في الموت فعلُ طاقة انداح في غير المدرَكِ . . لكنْ الموجود . النسيانُ كونٌ في اليقظة الكامنة . ليس ابتغاء للمجاورة والتقابل ، بل استنفاداً لطاقة الانحلال . . يتقصَّدُ رجلُ القبو ارتكاباته .
العالم لا يستمر ويسير دونكم ، لكنّ أحداً لا يخلقُه سواه .
وإذْ هو ليس خطاباً ، وإذ المطلق نفسه ليس خطاباً إلا في محاولات نقيضه ، إلا في تمثُّلاتِنا عنه .
رجل القبو خارجَ الإسهاب مكتملٌ لأنه لا يشرح وإنما يُشرَح ، خارج السجال لأنه فكرةُ السجال . وعلى الواقف في حضرته أن يعي بحدّةٍ إطلاقيّةَ اللغة وقصورَها . . إنها جثة الوعي . . تتفسّخ . . وتتسع ولا تعطب .
في الشائع من الأرض أو قبلها ، نهضتْ ريحٌ . . حتى فرطتْ وفرط عنها وُعُوْدٌ بالأشياء .
أصوات تتحجّر ويبقى داخلَها امتدادٌ وليونة .
والسامعُ افتراضٌ حلَّ بدرايةٍ مشوشة . والسامع جسدٌ يحاول الحجرَ . والمحاولةُ استعارةُ ريحٍ صغيرة تهبُّ في القلب بين نسيان الريحِ/ البدءِ وملامسةِ الحجر الساقط ، بوساطة ذاكرة تنمو .
والسامع يمضي طويلاً ، ليخرج من الافتراض ، يقع في الرقص . . يقلّد البرقَ والنهرَ وتويجات الزهر ، . . و ويقلّد الامتدادَ والليونةَ فيه .
وتسرقه أسبابُه ليربط جسدَه بزمانٍ ومكان . . فيمدّ يده في عمقٍ منعوتٍ ولا يُسمّى ، يسرق حرفاً . . نقطةَ نورٍ سائبة . . ليرى جهةً تستولد جهةً . . ليسرق من الغامض فيه ، ليشبه ما لا يعرفه .
في الشائع من الزمن أو قبله ، حلّتء كلمةٌ فرطت . . وفرط عنها وعودٌ بمعانيها ووعودٌ بالأسماء .
يبدو أنّ رجل القبو ليس مأخوذاً بالرحلة أو بأي شيء ، وانجذابُه ليس ممتلئاً بما نعرفه ، إنه يخوّض بعيداً ، في العمق وحسب .
لسببٍ من جهلنا نقول : إنه يريد أن يمتلك تلك الأسرار ، أن يمسحَ عنها الصدأ والغبار . . أن يحرقَه وهجُها دون "لماذا" و "كيف" ، أنا الراوي أقول ذلك مرتاباً . . الراوي . . . . إنها كذبة ناعمة . . لا يوجد راوٍ . . إنها جملةُ أصواتٍ مُختصرة وغير حاسمة ، ومع هذا لا بد من ذلك .
من على كرسيٍّ ، وأمام احتمال حضور ، أقول : خطورةُ مغامرته الآن أنه يدخل في هذه الأنفاق المتشابكة بكليّته ، وهو يعرف أن الفنون والآداب تلعب لعبَته بوعي أو دون وعي ، لكنها لعبة قديمة وستستمر . . لكنه يعرف أيضاً أنها فقط تلامس تلك المفاتيح ، تقاربها لكنها لا تمتلكها أبداً ، ذلك يقدّم الكثير من المتعة . . . ذلك رائع لكن ليس كافياً .
هو يدخل بكلّيته كما بشرٌ قبله مشوا وقطعوا أشواطاً في هذه الأنفاق ، لكن أحداً لم يصل ولن . . فذلك من طبيعة اللعبة كما نفهم ، نحن المنوجدين بين فكيّ المكان العاقل .
مع هذا ثمة عظماء في التاريخ لأنهم خرجوا منه ، عظماء لا نعرفهم لأنهم لم ينتموا للمقولة الناقصة ، وبدل أن يكفّنوا جسدهم في كتاب ، قذفوا جسدهم مطلقاّ في المطلق .
بالمقابل ليغتني من سادوا : أقصد تلك الأسماء اللامعة ، وهْم الأجسادِ التي تدحرجت في الصياغة ، في فعل ينصّب نفسَه وبعضاً من فتات تلك التواريخ شكلاً للمعرفة وبوَّاباً لحقلٍ لا ينحدّ ، حقل كلُّ جهاتِه أبواب .
فعلٌ نصّب نفسَه لا لشيء سوى لأنه الصياغةُ الفعلُ . . لأنه حركةُ النظام في المُتَّفَقِ عليه وفي الذي سيُتَّفق عليه .
ببرودة أعصابٍ سيسقط رجل القبو في توصيف ما ، في هوية ما ، فالقراءة دائماً جاهزة ، إنه مجنون ، عاشق تراجيدي مريض ولعبته مرهونة بالفشل . . ولا فرق جوهري بينه وبين غيره . . لا بأس أنا وحدي أقول : رجل القبو هو اللذة متحررةً من نقصانها ، وأبعد من الدلالات الذهبية للجسد والروح .
هناك في الوراء ما هو الواسع الضيق ؟ لا شيء سوى قفزتنا . . . مهارتنا في الانعتاق من الخيارات . ظلام مبقّع بفتنةٍ لا نعرف المسافة بيننا وبينها . فنستعير ما ورثناه . نلعب به ونظن بغباء حكيم أننا سادة ، وأننا ضبطنا وراءً ما ، "هناك" ما .
ولو تخيّلنا عقلاء "الآن والهنا" ، تواضعوا وضحوا بوقتهم الثمين للجدل ، طبعاً بعنجهية المتصرين سلفاً ، ساخرين سيسألون أساساً وبالضبط ما هذا المطلق وما هذه الروح ، إنها النتيجة الي بين أيديهم . ثم سيضحكون ملء أشداقهم لأنهم واضحون ويعرفون ما يريدون ويحققون ما يبتغونه . . ذلك من طبيعة المواقع .
ولكن ماذا بخصوص القلّة الحزانى الذاهبين في جنازة العالم ، الذين يبكون لأنّ رجل القبو لن يُفهم ، ولأن القوةَ الغبية تحكم كل شيء . هل سيمضون موشحين بالنسيان دون أدنى قدرة على تغيير شيء .
ربما ليست المسألة هكذا ، فمرةُ حرّك رجل القبو يده ، ففهمت ما لا أستطيع قوله .
كأني اكتشفتُ مدى حكمة رجل القبو ، وأدركت كيف استطاع بمهارة العارف المتمرّس أن ينقذ نفسه من النص / السياق ، من سطوة الدلالات الواضحة الناقصة . . إذ . . قذَف ظلالَ وأطيافَ المعنى في لغة تشبه الظلالَ والأطياف تماماً ، ولا تتحققُ إلا إذا أُنقذتْ من ماهيتها ، إلا إذا تحولت . . إلا إذا وقعت في يدِ الراوي ، في اللغة / الجسد في نسقٍ له وظائفَ ومقاصد . إلا إذا تعرّضَتْ للخيانة . إذاً هي هناك صافية مكتملة متماهية مع شكلها وغايتها ، وهي هنا مغتصبة .
هكذا أكرر ، إن كل الثغرات الواردة واللاحقة تقع على عاتق النص - الراوي ، أتحمّل مسؤوليَتها ، أنا الذي أحببتُ أن أفرحَ بجسدي .
لا أعرف الآن تماماً ماذا أشعر وكيف يجب أن أشعر ، فأنا منذ أن تورَّطتُ وحاولت هذا الخطاب ما زلتُ متأرجحاً بين اللذة ونقيضها ، بين الصدق ونقيضه . . بين نقائضَ لا تنتهي .
هل أنا صدىً مقرّح لصوته ؟ هل إذا ما تنحًّيتُ عن هذه المهمة سيلغى هو ، وحين هو لا يكترث ، كيف يمكن اقتفاءَ القول .
النسيان . . حقائق العودة المزوَّرة . . الصمت ينحلُّ ولا يتحوّل ، رجل القبو يخدّر الحضور ، يضع ميزان الصور نصب عينيَّ ميزاناً بأكثرَ من كفتين .
لا شيء في الخارج . وهنا أيضاً ليس من شيء ليثير الانتباه .
تلك معرفةُ الذاهبين في سعادة لا تُقرأ ولا تقع . شفافيةُ الحدِّ المكانِ ، اختصار القوانين في فقاعة صمت . المكوثُ في هشاشة الغامض لا يَقصدُ سوى نفسه . . متحرر من اللحظة . واقعٌ فيها . . صفقة مجدٍ . . صفقةُ موسيقا ، لون يتشقفُ ليتجمعَ في المتعالي المتطيّر . ثمالةُ يأسٍ ترنُّ في فضاء المتخَّيل لتنقذ الظلَّ على الأقل من مرارات الشائع . . من كائنات المعنى وهي تمر في قاعات ملأى بالوصايا وبهم ، قاعات ستُهدم بخفوتٍ يتجاوزه محتروفو النظر .
القبو ليس في الاستواء ، إنه زخرفات الهامش ممعنةً في العمق . . إنه السقف مقلوباً . . إنه الأساس فائضاً . . إنه جسدُ رجل القبو ومستودعُه حيث أدواتٌ واقعةٌ من أيدٍ نسيت وظائفها ،حيث هذا التواشج مع عتبات لا تؤدي إلى شيء ، ممزوجة مع مخارج صعبة . . منمنمة . . هشة . . مموّهة ، تستر أفكارً إذ تفضحها . . أفكارً مثل هذه الأشياء العاطلة . الهواء الرطب الثقيل . . الروح الممزقة . . الريبة . . الأثاث المهترئ . . الخلق . . الأبواب المخلّعة . . صناديق الوصايا المنهوبة . . الصدق . . تمائم الصفاء . . الدواليب . . كتب النمل . . الأبد . . جثث المرايا .
كيف المعرفةُ تأنف . . تنقطع . . تترك الأبواب مواربة . . كيف تتكدس على نفسها . كيف تستطيع بقدراتها الغريبة أن تخترع أفقاً في اللامكان ، فتصبح هي الجهل كله . . لتحبَلَ من مخلفات الزمن في مطرحٍ أضيق من أن يكون . ؟
القبو أفقٌ رسبَ .
ولأنّ الرجل هنا ، من الصعب أن يقول ما يمكن فهمه تماماً . هكذا ثمة انحيازات طائشة بوعي . . هكذا تفلتُ اللغةُ لتتجمَّع في السائبِ الرمادي ، حيث الكون يرمي قدميه في طشت اللغة مطرطشاً نفسه الكائنة حوله المترامية هكذا .
في القبو ملكاتُ الوحدة . . لهفةُ البدءِ . . ثمرٌ مسفوك . . وأرواحٌ تُفَوّرُ صورَ الموت ، ليس لغايةٍ ما ، ليس لأجل شيء . . لهذا ، القبو صادق كما الأمكنة التي وعدَ بها الله . القبو خارج الليل والنهار . والأشياء ليست راكدة كما يُظن ، إنها تتأمل . . حركةُ التأمل دائماً باتجاه العمق ، مضيٌّ في نفق الفكرة . إذاً الفكرة مكان . . إذاً الكلمةُ "هو" ، ولأنه شقَّ خطوط العتمة ، ورَوَّع شحوباً للتوِّ طَفَقَ ، ولأنه جسدٌ وحيدٌ مكتوب على بياض لا ينتهي ، لا يختار شيئاً ولا يجنّدُ الحبرَ ولا يدفع الكلمة / نفسَهُ للغزو .
ثمة اكتفاء . . اكتمال على هيئة شؤال لا ينقصه سواه تماماً ، هو سليل عبارةِ الخارج والدلالةِ الموّارة للقبو .
ما الذي يُغري الممعنَ في نقطة لا تُفهم ولا تنتهي ، سوى النقطة نفسها .
والذي يطقطق فوقه وحوله ، فوق وَحَوْلَ القبو ، فكرةٌ متروكة لكم . . فتاتُ أشكال تتجاذب . . أجزاءُ أنماطٍ مجبرةٌ على النموّ .
مرةً قالت له جنيّة : زفرة منك أفضل من عشرات كتبهم . فطردها . . مرة قال له إله : خسرانك يعني حضوري فيك . فبكى كثيراً لسوء الفهم . .
مرة قال لنفسه : لا تمدح قبواً . ذلك كأنه يعني أنك تذمّ ما انبسط وارتفع . .
فأغلق على نفسه وذهب بعيداً .
السكنات والحركات تتشرّبها الأشياءُ ، وإذا ما تراءت ، تتراءى على أنها حطام وقت ، هكذا بين الإشارة واللعبة ، بين هشاشة المعنى وكيانات البُطلان ، تبدو الفكرةُ غولاً ، والنأمةُ بحيرةً موسيقا
هكذا
المجرّد
والمجسّد
مذبحةُهباء .
أنا الراوي دون ذاكرة ، وهذا السرد المرتعش المعروق الذي لا يحتمل الحكاية ، عَرَضٌ من أعراض تعب القبو . أنا الراوي أشفق على نفسي الآن ، فلقد ذابت أصابعي من كثرة ما مسحتُ على الصورة .
ها أنا أمضي وحيداً حتى دونما أعداء . خطوتي القادمة ليست مزاراً . خطوة راكدة في الهواء مثل الهواء .
موجودات القبو كاملة ، لأنها غير عابئة بنقصانها ، ولأنها في لحظة عاصية خارجة . لأنها ليست وليدةَ ذاكرةٍ انتقائية ذكية ، بل لأنها فتاتٌ هرَّ من صمتٍ يتوالد من نفسه مطلقَ كائنٍ . حبّةُ رملٍ في صحراء ، معبد غائم في طرف الدنيا . . مقبرةُ أنبياء ما زالت أرواحهم ساهمة في الريح .
ليس للقبو مقابل . . ليس للقبو نقيض .
وإذا ما استدعى الخارج نفسَه ، كما تضطرنا الحاجة ، فذلك لا يدعو للأسف كما تخيّل بعض الذين دخلوا القبو وقتاً قصيراً ، فما عادوا ليصدّقوا شيئاً عدا ما يجب أن يصدّقه من لم يمت .
"الخارج" نظام . . مقدمات . . ونائج . . حركة . . منطق . . رتابة . . وتتابع و . . و . .
القبو رحمٌ ، ليس مكاناً للفرجة . . ليس غرفةً في متحف ، القبو هو خارجٌ ما .
هنا الرأس لا تستحي . جانب من الجمال أيضاً هو ألاّ تستحي . لكن ثمة مأزق يتعلق بالمفردة . لذلك ما عدتُ أعرف شكل اهتمامي بالآخر ، ثقلَ الآخر فيّ .
أعزّي نفسي وأحاول القول بسرعة ، هذا ضروري . القول دون الإصرار على الإجادة ، هم سيتكررون كثيراً أما أنا فلا . . . ليس أمامي الكثير من الوقت .
العمقُ جمال . . والجملة الناقصة الغامضة كذلك . أشكال الجمال التي ورثناها كانت جُملاً مفتوحة . المكتمل بنيانُ كذبة لا يحرّض على المراهنة . . حشرات تنغل في باطن العين ، وسخٌ يشرّشُ على الحواس .
في القبو لا تستطيع أن تقول كل ما تعرفه ، ليس لأنّ اللغة لا تتسع ، بل لأنّ المعرفة واقعة في المعرفة ، ولم تعد لتستطيع أن تُصدّر نفسها ، وكي لا تموت من شدّة اكتمالها ، تقترح آخراً . . ظلاً ليحفرَ . . لينحتَ قليلاً من كثيرِها .
هنا ثمة طفولة كثيرة وزينة مذهولة . . وألوان لا تتميز ، وعلبٌ مكتظة بألعاب لا تُهدى . . وأطلال جهاتٍ . . وعواصف تتلألأ داخل نفسها و"أنا" مكسّرة كالفخار . . وأردية نسيانٍ .
هذا فائضُ جسدٍ ، فائضُ عبارةٍ خطرة وممحوة . في القبو تكبر الوحدة ، تتضخم . . تتكاثر . . تمرض ، تكتشف أن ما يفيض عنها هو هربٌ مما تعرفه . . معرفةٌ ليست من طبيعتها . واضحة لأنها قائمة ، ومع هذا يراودها فرحٌ مقعّر لا يعكسها قدرَ ما يعكس الغامضَ فيها .
الجسدُ / الوحدةُ وحيدٌ خارج السلطات ، والأمر يتعدّى ذلك إذ يبدأ في هجران نفسه بارقاً متعالياً دونما معنى واضح .
بقيت الجملة بديلاً . والبديل هنا رؤية بعيدة . . انقطاعٌ وقلق ، لهذا ، الجملة لا يمكن لها أن تكون هي نفسَها لمرة واحدة فقط . وإزاءَ الوضوح بوصفه سلطة وخطاباً ، ماذا على الجسدِ الجملة أن يفعل ؟ ربما الرقص والهذيان . . لكن أيضاً الوقوع في مصيدة كهذه يبعث على الخوف . فالألم / الطاقة / الفعل ، ليس نتاج الحريةِ وحدها الخفّةِ وحدها .
بعد سنوات قليلة ، إذا لم أمت سأمرض ، سأتعفن في القبو . . فقد انتهيتُ إلى أني أبداً لم أحب أحداً ، أبداً لم أصدّق فكرة . .
الهيئةُ دخيلة
مقلوبة
وخادعة .
الدخيلة هيئة الطفولة في السرّ .
ومع هذا :إني أكثر فقراً من أن أدخل القاعة وأقلب كل شيء رأساً على عقب .
كأنهُ لم يبقَ سوى خروج الكلمة من الكلمة ، الجسدِ من الجسد ، القبوِ من القبو ، كل الأشياء من بعضِها . . رغبةً في الحالة المعْبر ، حالة تهدف ولا تهدف ، وحكماً لا تصل ولا تصيب . أعرف أهمية النقطة بين الواضح والغامض وال هنا وال هناك . . وأكثر أعرف أهمية أن أوسّع هذه النقطة ، أجعلها مكاناً . أعرف أن هذا المكان موجود قبلي ، لكن عندما نُفيَ الأنبياء والمجانين ، وتغيّرت هيئات ومقاصد الرحلة الحلم ، وعبث السفلةُ بالعالم وهيمن المقدس ، ضاق هذا المكان ، ويكاد الجميع يدرك خطورة احتمال الانهيار . لكن القليل . . ولأقلْ فقط سكان القبو وحدهم يدركون لو أُطبقَ تماماً على هذه النقطة سينتهي كل شيء بطريقة تخلو حتى من الشاعرية .
قد يبدو القبو فارغاً من ظلال حركة المدن ، أو هبوب الطبيعة في الطبيعة ، ومن أشكال التبادل والعلاقات . هنا النظر . . بؤس النزعة طائرٌ خسران . ما انعزالُ الجانحين سوى المرئي من الأفق . فالقبو وراء ما يبدو . . ولادةُ ليٍل مرصود . وما انكسرَ منذ قليل من الكوكب المصنوع بعناية خيال مقنّع هو صياغةٌ تطير ، وما تحرّكَ داخل نَفَسِ السكون هو وثبة العطايا في التمثال وحوله .
- تقصد رغبة النسق في احتواء ما هو خارج عنه .
- الهجرة قاعة . . نصف مضاءة وجوابٌ مؤقت . وما يصمدُ في الركن لوعةُ الصانع . أما الوسط . . فهو الإضاءة المؤقتة . بقيَ أن أُفنّدُ الهيامَ . . أن ألهو في صلصال الوقت ، وأن أحتجب ، أنا البالغ ، فيما تشابهَ من الثمر المفاجئ .
- تقصد أن الناظرين للقبو سلالة تاريخ أعمى .
- بؤس النزعة طائرٌ انفرطتْ أرياشه في الحلمِ .
في الحلمِ . . حلمٌ وشرقٌ عارٍ . بمطرقةٍ قُدّتْ من ليلٍ مرتاب حطِّمْ تمثالَ الهاوية . درِّبْ وأقرانكَ الشهقةَ ألاّ تكون الأخيرة .
لا يوجد في رأسي أفكار . يوجد كلمات ، وإذا الكلمات أثمرتْ أفكاراً بآلياتها الخاصة ، فهذه ليست مسؤوليتي .
إنها سلسلة خسارات محتملة وليست نهائية ، وراءها افتراضُ انغلاقٍ . . كينونةٌ احتوت ما احتوته ثم انفصلتْ . . ثم حاولت قولَ ما تحتويه . . يعني ، ثمة افتراق عن دبيب الراهن ، لكن عندما تُقال الحركةُ ، أية حركة ، لا تُقالُ بمعزلٍ عن شروط . وربما هذا تسويغ احترازي ، إذ لا شيء خارج العالم سوى ما هو فالتٌ من قبضة المعرفة ، كما تقول أدبيات العقل .
ولأن هنا كل شيء ممكن ، فباستطاعة رجل القبو جرَّ العالم ، حبْسَه في نظرةٍ ما . لكن لماذا ؟
فالعالم ليس هنا فقط ، وألوان الزمن الثلاثة واحدة ، ورجل القبو لا يخاف خيانة ما يعرفه . القبو نفسه هو خيانةٌ للعالم الذي يمكن أن يُوافَق عليه كما هو ، أيضاً ، هو طموح النقطة الرمادية في أن تصبح قوس قزح . القبو تجريب القاع دون هدف جليّ
ما هو خارج المدرَك عالم غايةٌ في الغنى ، كيف ذلك وما البرهان ؟ رجل القبو الأكثر قدرة على تصديق ذلك ، ليس على أساس الحدس أو الإيمان ، ولا على أساس من تجربة الانقطاع التي تفرض بالضرورة الاتصالَ مع عالم آخر مُفترَض . لا بل لأنّ ثمة تجليات تنبض وتبرق في قلب القبو ، في قلب الرجل .
هذا ليس اعترافاً خَجلاً ، إنها إشارة تلمع على يد رجل القبو ، وهي ترتفع وتشير إلى العمق العالي .
المكان في حوزة رجل القبو محسوسٌ ، منفيٌّ . . فكرة . . معادل جملة حلميّةٍ تنفتح وتنداح في فضاء يتسع دون سبب ، فضاء . . . ليتناغم مع حواس هجرتْ وظائفها ، أو استنفدتها لتصبح هي والمتخيّل الغامض شيئاً واحداً .
قد يخلو تخويض رجل القبو من المتعة ، وربما لأنّ المتعة هي ملامسة الأشياء ، أو هي على الأقل المسافةُ القائمة بين الجسد كقوة ، وبين أشكال قوى أخرى محسوسة ومتباينة ومُركَّبة . . ثم الحركة بوصفها فعاليّة منتجة لتأكيد وتقليص واختبار المسافة المذكورة للوصول إلى تماهٍ يصعِّدُ رغبات الجسد ويهبها ممالكَها التي لا تنفد .
تلك طاقة الحيّ التي تتوالد عنها أحوالُ المتعة .
رجل القبو ينتبه إلى ذلك ، يعي الجسد ، لكنه يحاول أن يلغيه كسلطة تعمل فقط لحسابها ومتطلباتها . لا يتحقق ذلك إلاّ في تنظيف البؤرة الفارقة . . إلاّ في لغة تتجاوز نفسَها وادعاءاتها الإشارية ، إلى كينونة قائمة مُلهِمة وليست ناجزة ، تستعير آلياتٍ ناقصةً وترتبها في سياق رؤيا ، بل تقذفها في غابة من الرموز .
ها أنا أسير رغبة في التوضيح والتوصيل ، أسيرُ لغةٍ هي هويتي ، قوة ضعفي . . حلمي .
إذاً ثمة انتباه حاد إلى كيفية تحويل ظل الكلمة الشاسع إلى مكاتب ، ثم قذف محتويات المكاتب في الشوارع والبيوت ، وشحن البشر بالواضح من كثرة قوته وحضوره .
إنه ترتيب همجي غامض لأذهانهم ، وهم يقلّون وسائل نقلهم إلى حياة فقدتْ ظلَّها إلى الأبد .
ومع هذا لأقل : رجل القبو ليس أكاديمياً ، وما يثير سخريَتهُ الحكامُ والمحكومون وطلابُ الجامعة ، وها أنا أكاد أصدّق أنه مُنتبهٌ إلى العالم إلى الدرجة التي تدفعه إلى التغافل . وليس غريباً ، لو أنه قصدَ وفتلَ مِقْوَدَ اتجاهه قليلاً ، لاستطاع اللعبَ في ميادينهم بمهارة سيُحسَد عليها . . لكنه رجل قبو .
خطرَ لي كثيراً ، أنه ليس أكثر من صوفي احترف الأقاصي ، مختزلاً المعاني المذهلة وثمار الانقطاع الذهبية في لحظةٍ امتدت آخذةً شكل الصمت من أجل مطلقٍ ما . . لكن لا . . الصوفي احتمال روح . . احتمال كونٍ . . نقطةٌ بيضاء تتفشى في ضباب المعنى . . رغبة كاملة ناقصة . . سعادة تتقافز بين المشروط والمفتوح . . سعادة كأنها تحققت وكأنها لم تُحقق . . التباس رائع وغنيّ وخاسرٌ ، موجودٌ بشدّة ومنفيّ بعنف .
وربما فيلسوف ، لكن أيضاً لا . الفلاسفة شغيلة أنساق وسياقات يبنون على أنقاض غيرهم دون قدرة على الإلغاء . يمتحون من التاريخ ، من الموروث والمنجز السابق الناقص حتماً ، ويرتبون رؤاهم وتصوراتهم ، كاشفين وأكثر ، شارحين ومطورين للجملة المصاغة والمعادة صياغتها والتي مهما اختلفت ستقع في حقل المساهمة . ولأنه ليس لها أصلاً أن تكتمل ، ستتحول مجتزأةً إلى نمط يثبت إلى حين في أيدي ورثة أيضاً مستهلكين إلى حين ، قبل أن تنتقل إلى متحف الذاكرة المعرفية الذي سيبقى مفتوحاً .
كل ذلك ليس باطلاً ، لكن رجل القبو ليس له مبتغى ليسمّى ، ولا متحف سوى قبوه .
ورثة وأتباع .. كينونات مشكَّلة . . محاولات وأنماط .
المطلق في تتابع الصور . . المطلق في الفكرة التي وراء تتابع الصور ، المطلق بريء من كل ذلك .
رجل القبو يبتسم ويذهب بعيداً ، يحاور نفسه خارج القوى الممكنة ، حين يحاور ، إذا افترضنا ، ما يمكن أن يُسمّى الظلال الحادة والمتحولة لجوهرٍ يقع في الواسعِ الفسيح ، ويقع الواسعُ الفسيح فيه . والمغامرة التي تحاول إلغاء الحدود والضوابط .
لا تستحضر خطاباً ولا تؤسس لدلالة ولا ترسي نمطاً ولا تستقطب جمهوراً ، إنها ربما موقف عدم . . محض سلبية ، بل إنها لا شيء بصفةٍ عظيمة ، قفزة رجل أعمى وأعرج في عماء لا يقع في مساحة قدرتنا على التخيّل ، قفزة باتجاه الكلمة لبطش كل دلالاتها .
أنا الراوي . . نصف حمّالِ خطابٍ ، كما تفهمون أنتم . ذلك أني لم أدعّم رجلَ القبو في إطار دراميّ ولا في رؤية تثبت بالمقارنة والالتقاء أو عبر علائق الانسجام أو التنافر مع رؤى سابقة ، أقصد أسماءً ومواقفَ أسهمت في تكوين صورةٍ ما ، أو ما يشبه الصورة للعلاقة مع العالم .
ماذا يفيد أن أقول إن رجل القبو أجبرني على إعادة وقراءة الكثير ، أو إنه وضعني هكذا داخل السكون عارفاً لا يغريه شيء . . ساكناً ويساعد النقيضَ على ترتيب نفسه .
أنا حطام راوٍ ، فقد كسرتُ الكرسي منذ البداية وساقتني لغتي الأخرى إلى احتمالٍ آخر .
لا أحد يستطيع محو المأساة ، وقصارى الجهد النظر إليها وهي تتبرج دون طائل . ولأقل : ربما العالم لم يستفد من الفلاسفة قدر ما استفاد من شرّاح هؤلاء الفلاسفة ، وإذ برجل القبو ليس فيلسوفاً وإذ بي لست شارحاً . . فلتكن الثرثرة محاولة لتحجيم الوهم وقوة الكذبة ، ولتبقَ جملتي ترتج داخل نفسها وداخل إحساسها بالامّحاء الحاد الذي يتعالى دون أن ينبثق عن خط . . لأجل منطقة أخرى ستبقى حتى وقت طويل مرادفاً للحلم وقوة المجهول القائمة والقابلة للدرس والمُقتحَمة أبداً و . . المؤجلة .
أنا الراوي . . رأيت أرقاً في المعدن ، وروحاً ساكناً في الخشب . لم أقصد لأحمل الكائنَ لوصفٍ . . ولم أُنشِئ الشيء َ . . لم ألذْ بالرمز . . قلتُ ما يشبه الشيء طافياً على يدي وعلى ماء فاجأني . . لمّا انخلع الجسدُ القبوُ كاملاً ناقصاً بين الكبرياء والتيه .
مجازاً ، أنا الراوي ، حياتي مشوشةٌ وضيّقة إلى حدود المحو المفترس ، أفرّغُها طيورَ صياغةٍ تسقط في جهل المسافة الغائرة بيني وبينهم . . أكثر خسارة من عدمها . . مشققة . . خدرها طائش . . تشبه أشباهي . . تعمى بين يديّ رغبةً في أخذها إلى أصلها عبثاً . . رخوة لأنّ لها أضعاف موتٍ ولأنها نصف موجودة . . أدفعها إلى المرايا ناقصةً . . أنساها بحجّة أني أريدها خارج الصفات . . أسميها لأراها . . أمسكها جافةً مهيأةً للكسر . . مريضة مُعدية دون آخرين . . أضمّها إلى صدري حباً بها ورغبةً في قتلها . . تنقشني رمزاً قيدَ الاحتمال . . تميل بي إلى نهارات الحقد والجنون . . تميل بي إلى الصفاء . . ثم تسكن في حلمها أكثر من ركونها إلى أصدائي . . نرفع إهمال بعضنا . . هي القصيرةُ تتبخر هكذا . . وأنا أتحول إلى قطعة رمادٍ لا تُرى . .
حياتي مشوشة وواسعة إلى حدود سيرسمها حمقى طيبون .
لم أعد بتلك البساطة لأحسّ عصارة الكلام بيدي فأفرح . . وليس لي حكمة من يمدح شيئاً أو يقيس حرارة الصدق .
هكذا كأني خلخلتُ مسامير النطق ، ورفعتني من لزوجة شيء أخشى أن يُقال . . هكذا شعرت بالجوع . . شعرت أنَّ لي جسداً آخر . . لكن هل هذه حقاً مصادفة أن أسكن في قبو ؟
وقفتُ أمام كومات الكتب . . كنت حقيقةً أرغب في الحصول على كتاب مثل قصص الأطفال ، فيه صور لشمس وجبال وأضواء تزهو وأزهار وحيوانات . . . أو على مجلات ملونة تحكي عن البشر كيف يطبخون . . ينامون . . يمرحون . . يذهبون إلى أشغالهم وأحلامهم . . كتب مثلاً عن المدن . . والعواصم . . و . . و . . . بحثت كمجنون ، لم أجد . . أصابين نوع من الهستيريا . . فبدأت أصفع الكتب ، أكسر كلّ ما حولي .
فكرت أن أخرج من القبو . . لكن الساعة متأخرة الآن . . وإلى أين يمكن أن يذهب المرء في مدينة كهذه . . وربما إلى أين يمكن أن يذهب المرء في عالم كهذا ؟
وما استبد بي ملاءة خيالٍ لا تستر شيئاً ولا تقع . . ولا يسوّرني الآن سوى خط من الأيام يكاد لا يكون . . وما عدت "أنا" لأقول : وحيداً . . أشدُّ الجذرَ .
ليس في الكلام كلام . . وما الصوت سوى لحية ندم على وجه دمية .
اعذرني يا رجل القبو . . فأنا كما تعرف شخص متناقض وضعيف ، ولا أملك قوَّتك ومزايا انسجامك . . لكن صدّقني لو أنك نفسك حاولت أن "تقول" ، لربما انتابك ما ينتابني .
كلما أفكر بالتنصّل منك ، حقيقةً ، أكتشف كم هذا مستحيل وكم أنتَ . . أنتَ . . وكم أنا ما زلت أفكر ب كيف . . ومتى . . و . . و. .
أعرف أنك لا تركن إلى شيء ولا تصدّق أحداً . . لكن أرجوك مرة أخرى ، صدّقني وصدّقْ أنّ ما أقوله الآن ربما ألغيه غداً . . فأنا سئم ومتعب ، وليس لي قدرة من يحضّر جسده لفكرة واحدة ، من يرفع اضطرابه شعاراً . . من يزيح الستارة ويُرجع المزهرية إلى مكانها . . من يُلصق وجهه على الواجهة . . ولا من يصرخ ويكسر الأثاث والمشاعرَ . . ليس لي قدرة من يقول الأشياء هكذا ببساطة .
لهذا أرثي جسدي . . أبكي وأفترض دفتراً في حقلٍ . . وعاصفة . . جثةً تنبض على جذع شجرة . . أساير بهاءَ العقدة في الحلم . . وأعِدُ يديَّ بعدمٍ شجاع . . وأفكر بالهطول والتشابيه العاطلة ، بملكة عمياء ترعى أحلامها بجنون نادر . . ليس لي قدرة من يكتب قصيدة . . لا لشيء سوى لأنني أستطيع .
أبيع أشكالي لرهافة مخيلة ليست لأحد . . أحرّكُ بيديكَ الينابيع . . أَضيّقُ الحنين إذ أمررّه بين قائمتين من خشب الحكمة المهترئ . . وأمدح ما هو عكسُ الذاكرة ما هو ليس نسياناً .
مثلاً : هذه زهرة . . وهذا غيهب الضروروة . . دائماً المعنى منسوجاً دونما انتهاء . . دونما براعة . . أنتَ يا قبواً يتجوّل داخلي اهدأ قليلاً . . دعني أفر منك قليلاً ، فأنا أشعر أني أمتلك قدرة هائلة ولكنها ليست بمتناولي .
ربما هي شفافية الضعف التي تكاد تتبخّر ، لتتجمّع هناك في لحظة منشقة عن الزمان ، تعادله ، بل تتفوق عليه . لهذا تدوم وتموت في عراءٍ وصفهُ هو تحديدٌ مضحك لغرابة القدرة .
لم أقل شيئاً سوى إني خسرتُ ، وخسرت . . فقراءتي للعالم فاسدة وشرسة لأنها الدم النازف المرتبك لمخيلة جريحة . . إذاً الخسارة تحققت . . الأفعال تواظب الآن على كينونتها الأخرى المستعارة ، ليس لتحقيق نتائج بل لاستنفاد البقية من طاقاتها الخاطئة .
إنني لا أستطيع أن أعبِّر عن الكائن الراهن ، فأنا لست صدى للماضي إلا بوصفه وهماً ونسياناً . أنا موقعي منطقياً في المستقبل . . وبحدّة منطقية أشد ، المستقبل لن يحتمل صوتي . . فأنا خليط أزمنة أخرى ومشوشة ، إذاً أنا هباء . . ربما ستلتقطني الأرواح القلقة في احتمال ما ! . .
كنت أنصّب تمثالاً لذئبٍ فوق الطاولة . . أشدّ عشباً يابساً إلى النافذة . . أضيّع أصابعي في القصائد وتحت آباط الكتب وفي عتمات نهارات مؤجلة ، ألملم الخرائط . . أرتبها جيداً . . وأمزقها . . كنت أستعير الجهات من بيوتها ومن أدمغة سارية في دروب هوائية . . أستعيرها ثم أمتلكها ثم أعجنها ثم أحلّها ، من أجل التحرر من الوطن والذاكرة والآخر ، من ارتباكات الحياة ومناطق الضعف والقوة ، من الهوية بوصفها أداةً أو موقفاً يجب أن يُحصَّن .
أستدعي التاريخ خيطاً أزرق يعلق على دخان الغرفة . . أتخيّل امرأة تغني لطفلها بلغة لا أفهمها . . وأدمعُ .
ثمة أفكار تخرج من العفن والرطوبة ، من شظف الحركة ، من فقدان الحسّ بالوقت . . قابلة لأن يُقبض عليها . . لكن من ؟ أولئك الذين يرتبون ويرقبون أفكارهم تحت الأضواء وأمام واجهات الكريستال وعلى أثاث تفوح منه رائحة النظافة والجاه .
أولئك نفسهم ما أسهل القبض على أفكارهم . . ما الفرق ؟
ربما الصياغة . . حجمها . . شكلها . . وقوة بريدها .
كنت أنصّب تمثالاً لفكرة فوق روحي . . أمرّر الصورَ من تحت قناطرها الكاذبة ، أرمّم المناخَ حولها إذ أعبث بطينة البدئي ، أستنفد خطاباً ، أعمّر خسرانه بخسران . . أعيد قراءة كل شيء وقد غلبتني القراءة نفسها وترمتني بعيداً عنها . .
أحنّط الفعل أمام الزمن ، إذا أحوش جرحَه بقبضة تشبه المجرّة ، ثم أطرحه في مرايا مهشّمة لأرى دماً ناشفاً بعد حين لقلّة من البشر أصغت إليَّ يوماً .
أغلق باب القبو عليَّ جيداً وأترك جسدي على السرير مسمّراً بكماشات من عشبِ الموت وأمضي باتجاه يودي إلى اتجاهٍ . . مالئاً الفضاء بصراخ يتساقط فتاتُه على رؤوس تتلصص عليّ باسترخاء وغباوة .
وقبالة باب القبو ، أترك جسدي جثةَ فكرةٍ ، وأندب كامرأة ثكلى في قبو . . بابُه المغلق مثل كذبة .
كنت أخبُّ في طمي الصياغة ككلمة عملاقة تطرطش الفراغ بعوالم لا تحد . . كنت أستطيع أن أنفخ على الأدمغة التي تقع أمامي كأنها أرياش .
كنت رأساً عظيمة ومجنونة . . فتىً ملقى على السرير يحتضر دون أن يلقي وصايا . . يقذف خبرات روحٍ شاخت من كثرة ما شدّت على الواسع فيها .
أنصّب نفسي تمثالاً للوهم ، ثم أنكسر وأنهض وأغامر إذ أُغرق المكانَ والزمان . إذ . . أُلقي حواسي في موقد السحر . . إذ أُعيد اكتشاف المطلق على مصطبة ضائعة .
هكذا ، وحدي أمام وحدي ، وتسري أكوان بين يديّ فأسرّح نظري داخل الأنقاض الأولى . . ثم أمحو جسدي وأتهاوى في الكتب القديمة القديمة . ثم أنهض وأتجوّل بين الممالك . . أمرُّ على الألواح ، أصحّح الأخطاء وأبتكر أخطاء أخرى . . أقعد أمام النهر تاركاً للطيور أن تأكل من كتفي لتطير . . ثم أرقّع جسدي بوحلٍ . . وأمشي . . !
تحت سقف ما ، صدّقت أبي حتى نسيته . . تحت سقف ما ، أحببت الموائد العامة بالخمر وطربتُ لغناء يشبه سذاجة الحسناوات . كنت آخذ من الخمر ما يكفي لتتحرك يداي ، ولتنفتح شفتاي عن "آه" تحلُّ في أجساد ترقص دون أن تشير إلى نفسها . . وأمام الفجر أمضي وربما تمضي معي تلك الأجساد ، إلى جبلٍ كنت ، وربما كنّا . . نعطّل الراهن إذ نرمي ما يشبه قطعة معدن بين دواليبه ، ونضحك لأننا نمنا في البريّة دون أن يأكلنا الضبع .
ما يرميني في أسفل لحظةٍ ، يفور عنها ما لا يُرى . . خدرٌ مبعثه ما يخالجني الآن أو ما قد كان يخالجني منذ زمن وربما سيظل . . رغبة بدائية لها هيئة السرّ الذي يبقى سراً ، وقد فاضت عنه كل الأحوال . . رغبة لا تُفشى ، تجعلني بيني وبين "أناي" قدرةً هائلة في كونها مشيّدة أمام الموت أو أمام حبٍّ كأنه لن يكون . . قدرة تمضي وهي لا تريد ، ساكنةً ومجبرة على الإخلاص لسكونها الهائل الزائل .
رجل القبو لا يؤمن بشيء . والذهاب خارج القبو أكثر قسوةً . . كل شيء إلى انقطاع . . فلم يعد ليبقى سوى توسيع دائرة الأسرار ، لترسو فيها الروحُ العظمى وأطيافٌ كثيفة لأنوثةٍ عاليةٍ وأرياحُ أحلامٍ مجنونة .
هكذا يرتفع هيكل المجد على أساس لغة مؤجلة وإحساسات مضطربة ، ليس لها أن تسند ولا أن تستند .
وإذا كان للأشياء الطالعة من وهم الذاكرة أن تتجسد ، فإنها لا تستطيع ذلك إلاّ في الواقع أو قبالة الواقع . لكن ليكن المستحيل مرةً واحدة هو نفسه دون عناية أحد ، دون مساعدة أي شيء .
كما حاول رجل القبو أن يبدّد نفسه في العالم ، وبين هذه الآجساد النابضة ، أن يخلع روحَه ويمضي في حياة رست وهي تحاول أن تنسى ذلك الشرخ بين الجسد وبين القانون ، بين الشهوة وبين الزمن .
ولكني أعود وأؤكد أنه لم يفعل . . لأنه آتٍ من غياب الطفولة ولأنه . . أوه تذكرتُ ذلك المنام .
رأيت . . "كان رجل القبو طفلاً ذا سنة ، ملقى تحت قنطرة وسط المدينة ، مدينة ساحلية ربما في القرن التاسع قبل الميلاد ، أصبعه في فمه ، يتأمل حوله دون أن يبكي .
إلى أن التقطه شيخ أخرس . . برأفةٍ واثقة اصطحبه نحو دارةٍ قرب البحر . . هناك بين الشط وبين بساتين التين والزيتون نما الطفل .
ذات صباح ، استيقظ الشيخ ليرى المدينة انقلبت رأساً على عقب . . مدينة تضجّ بالحركة والأسواق بيع وشراء . . مواشٍ . . سلال ملأى بالسلع . . حاجيات من كل نوع . . نساء يعرضن أجسادهن للشمس والرقص والملذات . . لغط ونقاشات . . كتب تُنسخ على مصاطب واطئة . . خطباء وطلاب في حلقات مثيرة .
عاد الشيخ . . لملمَ بعض الأشياء . . شدّ على قبضة الفتى ومضى به . قطعا تلالاً تنتشر عليها معابد ومزارات . مشيا في دروب مفتوحة على السماء تصطف على أطرافها تماثيل وهياكل غربية وعظيمة . . وعندما تعبا جلسا على تلّة تطل على المدينة ، كان المشهد سحرياً ، أوسع من المخيلة وأفتن من أن يوصف .
/ وأنا في المنام ، فكرتُ أن رجل القبو منذ ذلك الوقت تعلَّمَ كيف ينظر إلى العالم من هناك ، مصدّقاً بنفس الوقت هناك آخر / .
وعلى حدّ الغابة ، قرب النهر ، بنى الشيخ الأخرس بيتاً . فهو يستطيع أن يفعل كل تلك الأشياء بمهارة وسهولة ، أصلح الأرض وزرعها .
وكان الفتى هناك يشبه روح الطبيعة وقوتها ، يشبه ملاكاً بجناحين من غبطة وورد ، الشيخ بعينيه اللامعتين يعاكس الغيم ويرفع يده كما يرفع زهرة ، ويومئ للشمس في الشروق ويساعد النجوم لتنهض من شهقات النهر .
فجأة وجد الفتى نفسه مأخوذاً بغيمة صغيرة منسوجة من طيور ملوّنة ، وربما جنيّة أخذت هذا الشكل ، سحبتهُ هكذا رويداً رويداً باتجاه المدينة .
حتى أصبح كل ليلة يغافل الشيخ زائراً المدينة ، حاشراً جسده الصغير بين الأجساد ، دون أن ينتبه إليه أحد ، سامعاً ما يُقال ، خطباء وفلاسفة ولغة غزيرة كالمطر . تكررت الزيارات ، وبدأ جسد الفتى بالهزال وفي رأسه جُملٌ وأخيلة وأكوان بترق وترهقه .
مرة كان الجدال محتدماً ، شعر الفتى بحرارة تسري في جسده ، ورجفة تخلخل مفاصله ، فقذف نفسَه واحتلَّ الطاولة وطفق يقول حتى تسمّر الجميع في أماكنهم مشدوهين . . فقد قال الأشياءَ كلها دفعة واحدة وبعبقرية نادرة .
وبعد ما انتهى . . استفاد من اللغط والاندهاش ، وانسلَّ عائداً شاعراً بالوهن والمرض . عندما وصل ، وجدَ الشيخ ميتاً ."
المنام رهاب الحكاية . . اهتراءات الذاكرة . . طزاجة الميتات خلفَ الكائنِ دون تحديد ، وأمام المشاغل المتوهَّمة لرجل القبو . . إذاً للضرورة وسائل الوهم . والزمان ليس مكاناً في اللغة .
منذ فترة وأنا مهجوس بفكرة مكوثي أبداً في التاريخ . ترى هل يستطيع ذلك من لا يجيد التحرك في "الآن" ؟
بين "كان" و "الآن" . . فقرةٌ ملأى بالاحتدام ، جسد يتمرأى بالأشكال والأحجام ، جسد أُخذ وأُخذ حد النفي .
كل الأشكال في المستقبل ستكون برّاقة ولامعة ، لكن دون عمق ، ومحروسة بمعادن جديدة ، وسيتوالد حراس كثيرون من سجن مهماتهم . . وسيبقى قلة من القادة يقلّدون غرائزهم وهم يتفرجون على مهرجين بثياب لا لون لها . . قادة يعجزون عن إخصاب زوجاتٍ ، زوجاتٍ سيستحضرن أطفالاً من برقٍ محنّط يزيّن رؤوسهن كالشرائط ويزين أروقةً تودي إلى خزائن ملأى بثروات غير قابلة للاستعمال .
هذا تتابع المكعبات المكتبات . رنينها . . تدحرجها باتجاه ذاكرة صلدة مغلقة .
كل شيء للبديل . . والبديل تمثال يحوطُهُ حراسٌ سيتوالدون من سجن مهماتهم حتى يتأكّلهم الجوع ، ويبقىالتمثال للبرد وعواصف لقيطة .
إذن إلى أين سيتجه رجل القبو ، سيَّما أنه ليس مريصاً للدرجة التي تدفعه للعودة إلى تاريخٍ وضعَ الأبطال هوّةً في طريقه .
ربما بقي اللحظة التي تميل إلى نفسها ماضية في احتمال أفقٍ .
أضع كل الأسئلة على حدة ، لأنّ كل الأسئلة بحثٌ واحتمالُ أجوبة . . وأجوبةٌ مقلوبة . . سعيٌ باتجاه المحاولة والعجز . وإذا وصل التنصّل إلى هذه الدرجة ، فمن السهولة بمكان القفز فوق طروحات وأسماء كرّستْ نفسها كسلطة أكثر عنفاً وعنجهية من السلطات الكيانية القائمة ، التي ترتب البشر ، تصفّهم . . وتسفّهم ، وتربط العلاقات كلها بحبال مشدودة إلى الغرف المضاءة في المبنى الأخير . إذا لم تكن المباني نفسها هي نتاج تلك الطروحات والأسماء .
وأصيخ السمع لوقع الأسرار على جثثي الكثيرة . . المتشابكة على أرضية القبو . . فيأخذني خدرٌ وتلفّني رائحة تبكي .
الندم وذيول القرارات الملتصقة على حائط رطب . . أكوان من الخطايا والدمع . . رسوم عميقة ورديئة وحشائش تتدلى على الحيطان كأشواق عشاق ميتين . . طاولات مهشمة . . وبقايا كرسي تصَّاعد منه حرارة جسد ، أو ربما أحلام ملكة .
فسحات لرعشات متآكلة . . . وخفقان الأنوار . . وظلال منسربة كالسحر إلى تجاعيد الحديقة . . أشياء كالأراجيح والمساند . . كالنسيان مسكوباً على ممر عشبي يصل بخفاءٍ إلى ملحقات وراء القلعة .
نساء أربعينيات يفردن السجاجيد المزخرفة في بهو تفرُّ منه حمائم الغبار وتعدو فيه حيوانات صغيرة ومدماة .
غلمان بأردية ملونة ووجنات حمر ، يحملون المواقد النحاسية وعُدد المائدة وشراشف زهرية ، لأمرّ أنا عريس الرؤيا ، حيث الردهات تتوارى خلف بعضها .
وحيث الحواس حبال تتدلى من عواميدَ رخاميةٍ تشبه شواهد مبالغاً في طولها ، كان احتياجي لشمعة يشبه احتياجي لجسدي . غاردتُ الجمعَ واجداً نفسي في ممر طويل ، كانت الأنوار باهتة ، ولا أعرف لها مصدراً . وفجأة رأيتني أمام غرفة تقف على بابها عرّافة ضخمة تتهدّل خصلات شعرها كشموع مطفأة ، تتنازع فوق نهديها فراشات أملٍ ويأس . قالت بصوتٍ خفيض : لا تدخل . الملكة متعبة قليلاً . . انتظر في الخارج . . رأيتُ بعض النساء الصغيرات يحملن طاسات الماء وسوائل ملونة ، يدخلن . . وقفتُ بضعَ دقائق لا ألوي على شيء . . تفيض على وجهي هالةٌ وربما روح غير مرفوقة بأي إحساس ، فقد كنتُ فارغاً دون مشاعر ولا أفكار لأقولَ . . لأقررَ . . مع هذا مضيت في الممر الطويل دون أن أعرف إلى أين يؤدي .
ولا ثغرة مفتوحة لنسائم تأتي من الحقول القريبة لتداعب الستائر التي مزقتها أظافر أزمنة صفراء ، والتي يهمُّ رجال سمر بتبديلها ، الستائر التي كانت تغطي نوافذَ مرسومة على الجدار . ولأني كدت أختنق ، صرخت "اثقبوا هذا الجدار" . وعدت لأصيخ السمع أكثر لوقع الأسرار على جثثي المتشابكة غلى أرضية القبو ، ليأخذني خدر ، وتلفني رائحة تبكي .
كل القصص العظيمة تستطيع اختصارها بجملة ، تجارب البشر العظماء . الكتب كلها . . الحياة نفسها . لكنّ أحداً لا يرضى ، وجملة واحدة لا تكفي . . فتتوالد التفاصيل ويدور الزمن حول نفسه مطيّراً مؤكِداً أمكنة تبدو مختلفة ، وبشراً يبدون مختلفين . ولا مجد ليبقى سوى مجد الأسرار .
منذ سنوات لا أعرف حجمها تماماً ، أجهزتُ على كل الأشياء . ولكن بغرابة شديدة ما زالت كل الأشياء ماثلة أمامي ، لا تعبأ بي ولا تركن ليديّ إذ تحولان الترتيت . تبّاً لي ولها ولتلك القوة الغاشمة التي تدفعني .
الأشياء . . أرقام تصطف بين جسدي وبين الخواء . . قوانين تحوط الحركةَ . . تساعد الموتى على التنفس وترتّب الهواء في قنوات . كل شيء يستمر . . والدوائر تتدحرج وتتسع . القسوة أن تصيبك حرارة الجماعة أو رغبات الجماعة ، إذا لم يكن الإعدام . ولهذا عندما كنت أشعر بحاجتي للإحساس بكوني لا شيء . . وبحاجتي للحقد . أدسّ جسدي في الاحتفال أو في الجنازة . . بينهم . . ثم أقفل باكياً . . أهبط إلى قبوي كسكران ، أصفّ مفردات كثيرة أُقَلِّبُها على أوجه تكاد لا تُرى ، وأضحك . . ثم أصفّ مفردات أخرى . . أعيد النظر إليها وأضحك من جديد ، ثم أحلم بأزمنة متوّجة بالضياع .
لكتابة قصيدة ، يمكن لك أن تستحضر روحَ الأبد ويمكن أيضاً أن تستحضر بعض الكلماتِ ، لكتابة تاريخ يمكن استدعاء أي رجل يظن نفسه مصيباً ، لكتابة فلسفة أحبسْ نصف عقل في مكتبة .
لا شيء حقيقي حتى هذه اللغة ليست أكثر من انصعاق ندم كوني ، يفتح ثغرات الأنا ويفشلها ليكون ما هو كائن . ولتكون خديعة سيالة ، تساقط عنها ببطء غبي هيئات وأجسام بقدر ما هي معنى هي فراغ يقدس نفسه حين يقدس وعيه للعمل وللعبث وسخريات التشكل .
أقسى أنواع العبودية أن الذاكرة ملأى بالأشكال والألوان والأسماء التي لم اخترها . وما أحلم به حقيقة رؤية نفسي هكذا دون "قبل" دون "بعد" .
لكن هذا الحلم ، وأي حلم صورة . والكائن الأول الذي كانها . . أورثني كل هذه الأزمنة الممتلئة الممكنة ، كل ما أحقد عليه ، أورثني حنيناً ما زال يدمرني ويصعقني .
ليس للوهم بيت ، وكل قصور الحقيقة آيلة للسقوط . هكذا ينبسط العراء واسعاً مفسحاً لرجل القبو أن يمضي وحيداً دون ذاكرة ولا لغة .
والرحلة ، كما اكتشفت أنا الراوي الفاشل ، عناء ومجاهدة بين الوحدة وقوانين الصورة ، بين غبار الحب وسقوفٍ مقلوبة .
فالغامض ليس غامضاً . . إنه الحيرة . . والحيرة مادة تشبه الرمل في عراء يشبه الصحراء . فقد كان كل شيء نقيضَ رجل القبو . . ورجل القبو خلاصة كل شيء . لكن الآن يجب تأكيد ملاحظة . . إنه ليس من الحكمة جلاء الخلاصة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في


.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد




.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين