الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابو صليعة

احمد هيبي

2005 / 4 / 30
الادب والفن


أبو صليعة
(قصة للصغار والكبار)
بقلم: د. احمد هيبي
مرة واحدة جرى لي ما يجري لأولاد "عمّي" أبو النمر، كل شهر. حلقت شعري على الصفر. وبما أن الأولاد كانوا ينادون من صارت النملة تتزحلق على قرعته ب- "أبو صلّيعة" و- "أبو قرعة"، فقد عشت فترة عصيبة أيامها. أيام المدرسة الابتدائية. وهذه هي الحكاية:
في الطابور المدرسي الصباحي, حيث كان الاولاد يصطفون في في صفوف طويلة عوجاء، كان يجري التفتيش على نظافة الأولاد بقوانين صارمة. معلمونا الأفاضل تحوّلوا الى مفتشي صحة، بل الى رجال بوليس. كانت الاوامر تقضي بأن يمد الأولاد المساكين أيديهم الى أمام وقد غطّوها بمحرمة او منديل. وبما أن المناديل الورقية كانت لا تزال مجرد فكرة, ومناديل القماش التي تُلف وتوضع في الجيب كانت ترفا، بل شرفا عظيما لا يقدر عليه أمثالنا, فقد كنا نحاول تغطية أظافرنا الطويلة، التي تجمع تحتها وسخ سنين، بأي خرقة قماش. أضف الى ذلك أن هذه الاظافر يجب أن تكون نظيفة ومقصوصة كأظافر ولد ابن يومين.
سياسة المدرسة الغاشمة، كانت تجبر حوالي مائتي ولد من أولاد الفلاحين، الذين تعوّدوا وآباؤهم أن "يمخّطوا" بأيديهم وأكمامهم، على الانتقال سريعا الى حضارة القرن العشرين. وفي مؤسسة تعتبر النظافة قيمة عليا، كانت تتحول حياة الاولاد الى جحيم.
ويا لسوء حظي. اذ كانت هذه القوانين تطال الشعر الطويل أيضا. الشعر الأشعث الذي ينمو فوق رؤوس الاولاد بحيوية تفوق حيوية الأعشاب الضارة فوق أرض "النجيل". واذ كنت أستطيع تدبر أمري مع خرقة من القماش، فان نماء شعري كان لعنة علي وعذاب مقيم.
ولم يكن حلاقو القرية، أو من يمتهنون هذه المهنة، قاصرين أن يحوّلوا رؤوس "التيوس" هذه، الى رؤوس ناعمة حليقة. ولكن ليس بهذه التواتر الذي تصرّ عليه ادارة المدرسة. ولو اكتفى هؤلاء بأن يحلق الولد رأسه مرة في السنة عند الحلاق، في مناسبة ما، أو قبل العيد، مثلا، لكان الجميع راضين, بما فيهم الآباء، الذين تعودوا أن يقصّوا شعور أبنائهم، بنفس المقص الذي يقصون فيه شعر الماعز أو صوف الغنم.
ولم أكن أسلم أنا أيضا من مقص أبي. ولا كنت أتضايق من حلاقته، الا بعض التضايق. حلاقة هي من البشاعة بحيث نسمّيها غالبا حلاقة "كرار". أما الحلاقة عند الحلاق فأجدى وانفع، وهي تضعك في صف الناس المتحضرين.
ولكن حدث مرة ان تأخّر أبي عليّ في الحلاقة. وطال شعري واسترسل. فبدأت تنهال على رأسي التنبيهات من الاساتذة المتيقظين. تنبيهات لسرعان ما تتحول الى تهديدات بالعقاب. وبالفعل طال شعري بحيث غطى أذنيّ. والتف حول عيني اللتين بدتا الآن كبنورتين صغيرتين، خلف كوم من الحشيش.
ولما طالت المسألة، ولم يعد التهديد ينفع معي، أخرجني المعلم من الطابور الصباحي، كما يخرج غيري من طويلي الشعور، أو من المشاغبين أصحاب السوابق المعروفين. ولم يشفع لي أني ألقيت هنا، وفي نفس المكان، كلمة الصباح، قبل أيام، ونلت استحسان الجميع.
وكان الخجل الذي يعقد لساني عادة، قد أغلق أذنيّ هذه المرة، فلم أسمع ما تفضّل به المدير من بلاغات وبهدلات. فذهبت حانقا لى البيت عند أول فرصة، لأصبّ جام غضبي على أ ّمي المسكينة. فأبي لم يكن في البيت.
طريقتي المعهودة في الاحتجاج لم تحل المشكلة هذه المرة. فجمعت ما بقي من شجاعتي وطلبت من أبي – في المساء - أن يعطيني نصف ليرة أحلق بها شعري عند الحلاق. أبي صرف هذه الفكرة بطريقته المعهودة في التأجيل، وقال: "بعدين .. بعدين".
صباحا عمدت الى حيلة قديمة، وهي أن أغسل شعري وأدعكه بصابونة الزيت، ثم أتركه لكي يجف، دون تنظيف ما علق به من مادة الصابون. كان حجم رأسي يتقلص عندها الى النصف. ومؤمّلا أن "مفتش الصحة" المناوب، لن ينتبه الى خدعتي، أخذت حقيبقتي المدرسية وذهبت الى الطابور.
ولكن حضرته كان لي بالمرصاد. غرز قضيبه الخيزران في كومة القش فوق رأسي، وأخذ ينبش هناك، حتى بان الجُرم وظهر المستور. ومرة أخرى ظهور لي ثان في العرض الصباحي، مع "المشبوهين".
عودة الى البيت تظهر ان لا جديد. فلأجرب طريقتي في الاضراب عن الطعام. لحقت أمي بي برغيف خبز طابون مدهون بزيت الزيتون. ولكن عنادي دفعني للخروج من الدار. أما اضرابي عن الطعام فقد فكّه الجوع. أرسلت أخي الصغير خلسة ليأتيني برغيف خبز جديد. فلما عدت الى البيت، كانت أمي ترجوني أن اتناول الطعام، فلا أستجب.
ثم بدأت اضرابا عن الكلام، لم أوقفه، الا لأعيّر أمي بجارتنا ام النمر. كان نمر ابن صفي يأتي حليقا نظيفا كل صباح الى الطابور. صحيح انه لا يعرف "الطمسة من اللمسة" في الدروس. الا أنه متفوق في كل ما يخص نظافة الرؤوس. ولا يتعرض لما أتعرض له من عذاب. أتدرون ما السبب؟ كانت أم النمر هي التي تقص شعور اولادها. ولا تنتظر مقص "أبو النمر" نفسه. لماذا اذن لا تفعلي ما تفعل أم النمر؟ قلت لأمي. وهذه انفجرت بالضحك. وصارت تردد ما قلت وكانه نكتة العيد.
الفكرة الجنونية جاءتني في الصباح. عندما وقفت امام المرآة أعاين شعري الذي لا بد طال بعض سنتيمترات. استبدت بي فكرة هائلة: لماذا لا أحلق لنفسي بيدي؟ بدا لي الأمر جد بسيط. لم يطل وقت بحثي عن المقص، فقد كانت جميع أغراض أبي على الرف أو في المخزن القديم. أمام المرآة أجريت المقص فوق رأسي على سبيل التجريب. ولما رأت أمّي ما أنوي القيام به، جاءت تتوسل الي ان أترك ما بيدي، وأن لا أفسد شعري. لقد كانت نصائح أمامي عادة ما تصيبني بالاحباط. اذ سرعان ما يتبين انها صحيحة وأنا المخطيء الازلي، الذي لا يستجيب للنصح وللرأي السديد.
لم أسمع كلامها. بل أن الغضب استبدّ بي أكثر، حتى جعلني أهوي بالمقص على أكبر ثلة من الشعر في منطقة ما فوق أذني. كانت خصل الشعر تتدحرج فوق صدري وتنزلق من هناك بصمت مريع. ولكن عندما توقفت يدي المرتجفة، تبين أن فجوة كبيرة ظهرت هناك. حاولت تصليح الوضع، ولكن الأمر ازداد سوءا عند كل محاولة. وتحولت الفجوة الى فجوات. وشيئا فشيئا، ظهرت أبعاد المأساة التي حلت برأسي، من جميع الجهات.
ورأت امي ما جرى، فرثت لحالي. واقترحت أن اغطي رأسي بحطّة قديمة لأبي، ريثما أعود من المدرسة وأذهب – أخيرا – الى الحلاق.
ولكن في المدرسة، وكنت لحسن الحظ قد فوتّ الطابور الصباحي، سرعان ما سرى الخبر كما تسري النار في الهشيم: اني حلقت لنفسي "حلقة كرار" . وجاء الذين ارادوا السخرية مني في هيئة الراثين لحالي. وحاول بعضهم فك الحطة عن رأسي، لكي يعاينوا شكل رأسي المضبوط، لتقديم الحلول، قبل ان ينفجروا ضاحكين.
وأخيرا أحس أبي بحالي. وعرف ما حلّ بي. وربما أشفق علي. فلم يكن آباء تلك الايام يصرحون لأبنائهم بما يجول في خواطرهم. فأخذني من يدي وأقعدني قعدته المشهورة عنه. وقرفص هو فوقي بثلاث درجات هي الدرجات التي تفصل بين "قاع الدار" ومصطبة الدار. كان قد اعد أدوات الحلاقة بنفسه. أما أمي فقد جاءت بطشت من المياه الساخنة.
فجأة، أحسست بموس الحلاقة يتجوّل باردا وحادا فوق رأسي، ذهابا وايابا. وأصابني الهلع. فان أبي لن يصلح ما أفسدته يداي، الا بحلاقة شعري "على الصفر". والكيّ هو آخر الحلول – كما كان يقول.
في النهاية قال: "قوم". فقمت من تحته، وأنا أصلع تماما. تأكدت من ذلك حين امررت يدا واجفة فوق رأسي الحليق. نهضت أسعى الى مرآة خزانتنا القديمة، فرأيت عفريتا يحدق بي من هناك. ثم عكس زجاج المرآة لمعان صلعتي من بعيد. وأجريت يدي فوق صلعتي مرات ومرات، فبدا لي رأسي صغيرا ناعما، وقد اختفت فيه المعالم القديمة، وتقاربت المسافات التي بدت مرة بعيدة.
في المدرسة، وان كنت قد أفلتّ من الطابور الصباحي، الا أني لم افلت من سخرية الساخرين. ويا لتفاهة القوم الذين جاءوا اليّ هاشين وباشين، يرغبون في لمس صليعتي أو مواساتي، وكانوا مستعدين للوقوف بالدور من أجل هذا الهدف "النبيل". وقبل ذلك لم يكونوا ليكلموني، أو يلقوا عليّ التحية. وكان الواحد اذا تمّ له ذلك، يصرخ قائلا " أبو صليعة" .. ويتراجع وكانه قتل عشرة من الكافرين. مانعت في البدء في زحزحة قبعتي، وتمسكت بها قدر ما أستطيع. حتى اذا وجدت ان لا فائدة من ذلك، أزحتها نهائيا، ووقفت مكشوف الرأس، مبتسما ابتسامتي البلهاء التي تكشف عن مدى تعاستي.. واقعة لن انساها مهما حييت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأهلي هياخد 4 ملايين دولار.. الناقد الرياضي محمد أبو علي: م


.. كلمة أخيرة -الناقد الرياضي محمد أبو علي:جمهور الأهلي فضل 9سا




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 34.5 مليون جنيه إيرادات


.. … • مونت كارلو الدولية / MCD جوائز مهرجان كان السينمائي 2024




.. … • مونت كارلو الدولية / MCD الفيلم السعودي -نورة- يفوز بتنو