الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية جميلة

وليد الحلبي

2013 / 6 / 16
الادب والفن


تكرَعُ آخر قطرة من الكأس ، وتأخذ أعمق وآخر نفس من السيجارة ، ثم تطفئها وتلقي بها عبر قضبان النافذة ، ، تغرز أصابعها في عمق شعرها الغزير ، وتجوس فيه من فوق الجبهة إلى مؤخرة الرأس ، وتنظر باتجاه الشوارع البعيدة : هل تلك هي سيارة محمود ؟ . . هل سيأتي عبود غداً كما وعدها آخر مرة التقته ؟
- كم غلة هذا اليوم يا بنت الكلب ؟ لا تحاولي خداعي ، فأنا أعدّهم جرذاً جرذاً ، كلما دخل منهم واحدٌ وضعت خطاً على الورقة ، وعندما يصبحون خمسة أشطب عليهم بخط عرضي لتكوِّن كل مجموعة خمسة سفلة ، فحاذري أن تلعبي بذيلك يا غشاشة .
- لحظة يا ست جميلة ، لم أفرغ من العد بعد .
هي قوادتها التي تعمل معها منذ جاءت إلى هذا المبغى العام ، عجوز أتلفت شبابها وكهولتها بالعمل في هذا الماخور ، وعندما أحالت نفسها – أو أحالها الزمن بالأحرى – على التقاعد ، لم تجد فرصة تكمل بها مشوارها ( الفني ) سوى الوقوف على باب ( جميلة ) ، تدلل على جسدها أمام العيون الجوعى ، ثم تقبض خمس ليرات من كل زبون قبل أن يتخطى عتبة الغرفة .
- وهل تُحصين نقود البنك المركزي يا . . .
- صبرك يا ست جميلة ، الصبر طيب .
كل يوم ، ومنذ خمس سنوات ، وبعد غروب الشمس بقليل ، تستحم جميلة ، وتطلي وجهها بالمساحيق من جميع الألوان ، وتتعطر بأرخص أنواع العطور ، ثم ترتدي أشياء هي أقرب إلى العري منها إلى الملابس ، وتقف على باب غرفتها معتمدة على ساق ، بينما الساق الثانية مرتكزة على كرسي لكي تشف وقفتها هذه عن جزء أكبر من فخذيها ، ، تركز بين شفتيها سيجارة تنفث دخانها في جميع الاتجاهات ، وصفوف الزبائن تروح وتجيء أمام أجساد العاهرات - اللاتي يقفن بنفس طريقة جميلة - يأكلونهم بأعينهم قبل أن يفترسوهم على الأسرة ، ، جنود وطلبة وعمال وفلاحون ، ، يعمي دخان سجائرهم الأبصار ، وتفسد روائح أجسادهم النتنة هواء الممر الضيق ، بينما تتعالى أصوات أغنيات هابطة قادمة من غرف البنات لا تصل إلى أسماع الجمهور، الذي يستخدم حاسة النظر فقط ، وصرخات القوادات تنادي على اللحم المعروض بأبخس الأسعار ، وشتائم مقذعة وألفاظ نابية تتعالى من جنبات الممر معلنة بأن هذا المكان هو أحط بقعة في المدينة .
كل يوم ، ومنذ خمس سنوات ، وبعد أن تنتهي من آخر زبون ، تأخذ جميلة حماماً ساخناً وتجلس على النافذة المطلة على الشارع العام ، مستعيدة حبل الأحداث التي أوصلتها إلى هذا المكان . عاشت يتيمة في بيت عمها الأرمل الذي تزوج للمرة الثانية ، ولمّا لم يُرزق بذرية من الثانية طلقها ، وعاش وحيداً في المنزل مع جميلة ، ثم أعلن خطبتها على ابنه من زوجته الأولى : محمود ، ، شاب في بداية العشرينيات ، يعمل سائق سيارة أجرة في المدينة ، حلمت معه بزواجٍ سعيدٍ وأبناءٍ رائعين ، ، كان يمنّيها بالانتقال من القرية للعيش في المدينة بعد الزواج ، وهناك سوف يأخذها كل مساء ، بعد أن ينتهي من ساعات عمله الرسمي ، لكي يطوفا معاً في أرجاء المدينة ، ، تلمح سيارة أجرة ، هل محمود هو السائق ؟ ، ، هل زوجته إلى جانبه ؟ ، ، ، نفس الأوهام تتلبسها كلما لمحت سيارة أجرة عابرة .
- إذا لم تخبريني كم غلة اليوم فسوف أطردك عن بابي يا عاهرة .
- بلا عصبية يا ست جميلة ، شارفت على الانتهاء ، أولاد السفلة أكثروا اليوم من دفع النقود المعدنية ، ثواني فقط وأنتهي .
أسوأ ليلة في حياتها كانت تلك التي اشتد فيها البرد والمطر ، ، أحست بجسد يندس معها في الفراش ، جفلت ، ، هدَّأ من روعها قائلاً إنه يود تدفئة نفسه وتدفئتها ، ، كان ذلك عمها النذل ، والذي لم تستطع الفكاك منه إلا بعد أن أخذ منها ما كانت تخبئه لولده لمحمود لكي تمنحه إياه في ليلة الزفاف . . في الصباح الباكر كانت تجمع صرة ملابسها وتستقل الحافلة متجهة إلى ابنة خال لها تعمل خادمة في منزل أحد أثرياء المدينة . . تقاذفت سفينتها أمواج الحياة إلى أن استقرت بها هنا ، في هذا الماخور الحقير ، ، تعذبت كثيراً حتى تعتاد على جوّه القذر ، لكنها وبعد أن أتقنت مهنتها لمدة خمس سنوات كاملة ، فقد أصبحت على يقين بأنها ستبقى هنا إلى أن تحال إلى التقاعد ، ثم تقوم بنفس العمل الذي تقوم به هذه السافلة التي لم تستطع حتى الآن عدَّ غلة هذا اليوم .
- ها ، ، أين أصبحت يا لصَّة ، تحاولين ترتيب سرقة ما ، أليس كذلك ؟ ، قلت لك أنني أعدّ هؤلاء الأوغاد بدقة ، اليوم وصل العدد إلى خمسة عشر ، اضربي ذلك الرقم بخمس ليرات ، تلك هي الغلة ، هل هي عملية حسابية صعبة أم أن غباءك يعجزك عن إنجازها ؟.
- ما شاء الله عليك ، مخك نظيف والله يا ست جميلة ، وحرام أن تكوني في هذا المكان .
هكذا قال لها عبود بعد أن توطدت علاقتهما على مر الأيام ( ما شاء الله عليك ، مخك نظيف والله يا ست جميلة ، وحرام أن تكوني في هذا المكان ) ، ، تعود للنظر عبر النافذة . الآن لا تبحث عن سيارات الأجرة التي علّ في إحداها محمود ، بل تبحث عن الآخَر : عبّود . عبود شاب لطيف في منتصف الثلاثينيات ، زبون ولا كل الزبائن ، ذوقه مميز في اختيار ملابسه والعناية بذقنه ونظافة جسده ، أدمن على زيارتها والنوم معها منذ سنتين ، سائق شاحنة يعمل ما بين دمشق وبغداد ، توفيت زوجته دون أن تخلف له أولاداً ، لو فتشتَ عنه فلن تجده سوى في واحد من ثلاثة أمكنة : يسوق شاحنته ، يسكر في خمارة الخواجا إلياس ، أو يزور جميلة ، ، عندما يكون في المدينة ، يأتي إلى جميلة عند منتصف الليل بعد أن تكون قد انتهت من خدمة زبائنها ، ، يجلس معها في غرفتها ساعة واحدة لكي يغادرها قبل الساعة الواحدة صباحاً ، موعد إغلاق الماخور ، هذه الساعة من الزمن بدأت جميلة تدمن عليها ، بل وتترقبها بشوق جارف ، ، هل تحبه ، ، ارتعشت ، فهل تستطيع من هي مثلها أن تحب ؟ ، أَوَ ليس الحب ممنوعاً لمن يمتهنون هذه الصنعة ؟ ، وإن هي أحبت بصدق فمن ذا الذي يصدِّقها ؟ ، ، كلا ، كلا ، هو نزوة فقط ولا يختلف عن غيره من الزبائن سوى أنه أكثر لطفاً معها من جميع تلك الحيوانات التي تمر عليها بالغريزة فقط . كان مما رسخ من مكانة عبود في نفس جميلة أنه كثيراً ما كان يزورها محملاً بالهدايا من ذهب وملابس دون أن يطلب منها النوم معها ، ، كان ينادمها ويأنس لوجودها معه ، ويشعر في قرارة نفسه ، بعد أن عرف قصتها ، أن الزمن قد ظلمها ، وأنه – وليس أحد غيره – قادر على أن يرفع عنها هذا الظلم ، بل ويعوضها عن العذاب الذي عانت منه طيلة حياتها خاصة في السنوات الخمس الأخيرة ، وأخيراً فاتحها برغبته في الزواج بها ، ، جفلت لهذا العرض ، وشعرت في أعماقها بأنها أجبن من أن تقبل به .
- أين أصبحت يا عجوزة النحس ؟ وهل أعيِّن لي مديراً مالياً مكانك ؟
- ست جميلة ، الغلة اليوم ما شاء الله سبعون ليرة بالتمام والكمال .
- يعني تسرقين عشر ليرات علاوة على العشرين بالمئة التي ستأخذينها حار ونار على جسدك ؟ ، ياحيوانة : خمسة ضرب خمسة عشر تعطينا ثمانين ، احسمي منها حصتك واعطني الباقي ، يعني سبعين ليرة، هذه طريقتي الخاصة في الحساب، ما رأيك؟
- ست جميلة أنا آسفة ، الحسبة الصحيحة هي 15×5=75 ليرة ، حصتي منها 20 % يعني ، ، يعني 15 ليرة ، الباقي لك عندي ، الباقي لك عندي ، ، آه ، نعم الباقي لك هو ستون ليرة ، هاهي ، عدّيها لو سمحت .
- والله وتعلمت الحساب ياحمارة ، تماماً كالذي يتعلم البيطرة بحمير الغجر .
- محشوم مقامك يا ست جميلة .
وانسحبت العجوز تاركة جميلة مع سيجارتها وكأسها تنظر بسَرَحانٍ عبر قضبان النافذة .
بين يديها الآن ستون ليرة لقاء عمل يوم واحد ، بل نصف يوم ، بل نصف ليلة ، وهو مبلغ ليس بالقليل ، ، المسكين عبّود يكدح الشهر بحاله، وروحه على كفه، لكي يحصل على خمسمائة ليرة ، بينما يزيد دخلها الشهري عن دخله بأكثر من ثلاثة أضعاف ، فهل اختل عقلها لكي تخرج من هذا النعيم لتسكن في غرفة ضيقة ، تنتظر عودة عبود نصف عمرها الذي تبقى لها ؟ ، علاوة على أنها تشعر بأن نصفها الأسفل لم يعد قادراً على الحمل والإنجاب ، فمن أين ستأتي لعبّود بالأولاد وهو يحلم بأن تملأ له بهم البيت ؟ . بدت لها فكرة القبول بالزواج من عبود انتحاراً اقتصادياً واجتماعياً ليس له ما يبرره ، فبهذا الزواج يضيع ذاك الدخل المرتفع ، وبه كذلك تخسر صحبة عائلتها الكبيرة : نساء الماخور ، فقررت رفض الفكرة من أساسها ، لذا عندما أخبرت عبود بقرارها ، نزل عليه القرار نزول الصاعقة ، فقد شعر بأن هذه المرأة التي ظلمتها عائلتها وظلمها مجتمعها ، ما تزال تصر على ظلم نفسها ، بل والاستمرار في قبول الظلم إلى نهاية حياتها وكأنها تستمتع به . أعطاها رقم هاتف خمارة الخواجا إلياس لكي تتصل به إن هي غيرت رأيها ، قال لها إنه سينتظرها طويلاً ، ولن يمل الانتظار لأنه يعلم بحاسته السادسة حقيقة مشاعرها نحوه ، ثم غادرها بعد وداع حميم . شربت آخر رشفة من كأسها ، وأطفأت سيجارتها ثم أوت إلى الفراش .
اليوم هو الخميس ، استيقظت مبكرة ، ، اغتسلت ، ارتدت ملابسها وركضت لتلحق بالحافلة التي تنتظرها لكي تذهب مع الأخريات إلى المستشفى لإجراء الكشف الطبي الدوري ، فكما تهتم الحكومة بترخيص مثل هذا الماخور لتأمين الترفيه الاجتماعي عن مواطنيها ، فهي تهتم كذلك بصحتهم ، حيث تُلْزَمُ العاهرات بفحص دوري يثبت خلوهن من الأمراض الجنسية ، لا حفاظاً على صحتهن ، بل حرصاً على صحة دافعي الضرائب . هذا المسمى ( الدكتور ) رذيل بذيء يغتنم فرصة الفحص لكي يلعب بالفتيات بطريقة مستفزة حقيرة ، إلا أن موقفه القوي يجعل أية فتاة أجبن من أن تشتكيه إلى رؤسائه ، حيث على تقريره يتوقف استمرارهن بالعمل . اعتادت على هذا الفحص الدوري أسبوعياً لمدة خمس سنوات حتى بدا لها أنه عمل روتيني بحت ، حيث لم توقَفْ أية واحدة من البنات عن العمل ، غير أنه لا يمكن لأي منهن التخلف عنه ، ببساطة لأنه أصبح روتيناً له صفة القداسة .
وقع صوت العجوز على رأس جميلة وقع الصاعقة ، ماذا ؟ : التقرير يقول أنها لم تعد تصلح للعمل ، وعليها مغادرة المبنى على الفور لأنها بحاجة إلى علاج طويل الأمد ، ، أمسكت برأس العجوز وسحبتها إلى داخل الغرفة :
- والله يا ست جميلة هذا هو تقرير الدكتور وليس تقريري أنا ، لا تقسي عليَّ بهذا الشكل ، بعد كل هذا العمر والصحبة ؟ ، ( تسيل دموعها بغزارة ) اعتبريني بمنزلة أمك . . . يا ابنتي.
- ( تحضنها بقوة وهي تبكي ) أنا آسفة ، اعذري لي تهوري ، هل تعلمين ماذا يعني هذا يا ، ، يا أمي ؟.
- لك الله يا ابنتي ، الله الذي في السماء لا ينسى عبيده الذين في الأرض ، لا عليك يا ابنتي سنبقى على اتصال .
الهاتف يرن في خمارة الخواجا إلياس :
- حظُّكِ قوي ، نعم هو هنا ، لقد دخل منذ لحظات ، تعال يا عبود .
- حبيبي عبود، هل ما زلت راغباً في الزواج بي ؟
في الصباح الباكر ، وعندما كانت جميلة وعبّود يبتعدان بالسيارة عن باب المبنى ، كانت العجوز تحاول اللحاق بهما لتخبرها بأن التقرير الطبي الذي أعطتها إياه كان يخص الفتاة التي تقيم في الغرفة المجاورة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24


.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع




.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح




.. عوام في بحر الكلام - إلهام أحمد رامي: أم كلثوم غنت في فرح با