الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الجسد بين الحلم والواقع في الفضاء التشكيلي: قراءة في تجربة -كمال بن عبد لله-

طلال قسومي

2013 / 6 / 19
الادب والفن


صراع الجسد بين الحلم والواقع في الفضاء التشكيلي: قراءة في تجربة "كمال بن عبد لله"

سأصير يوما طائرا، وأسل من عدمي
وجودي. كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من
الرمادِ. أنا حوار الحالمين، عزفت
عن جسدي وعن نفسي لأكمل
رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني
وغاب. أنا الغياب. أنا السماوي
الطريد.
هكذا اختار درويش أن يعلن انسلاخه من كل ما هو موجود ويتعارض مع روحه الحالمة بواقع أفضل فرسم بالكلمات أبجديات أحلامه المتوارية عن الممكن والمستطاع البشري لتتوه في الزمان وتغادر المكان، إنها أحلام جانست المكان والزمان فصارت هي الانبثاق الجديد والتوحد الكلي مع الوجود.
اخترت هذه الكلمات التي نطق بها شاعر القضية وشاعر الالتزام درويش لأني ودون مغالاة وجدت فيها نوعا من التلاقي مع تلك الرسومات التي لقيتها في أعمال التشكيلي التونسي "كمال بن عبد لله". فهي رسومات تبطن أفكار وأحلام وتحكي رواية الذات وتترجم واقع الجموح نحو الخيال التي تتبنها ذات الفنان.
رسومات تحولت فيها كينونة الجسد البيولوجية إلى نظم جسمانية موازية للواقع وباعثة للتساؤل والبحث، فأعمال التشكيلي التونسي لم تذهب لرسم الجسد بعريه المغري والمثير للغرائز بل أنه توخى منحى أخر في التعبير وفقا لمنظومة شكلية ولونية تعري المستور الباطني التي تحويها أجساد العالم المادي، ذاك الجسد الذي تغلغلت فيه النظم الليبرالية الاستهلاكية وجعلته منتهكا ومباحا.
وهكذا حادت رسومات وحفريات "بن عبد لله" عن الشكل المستهلك وعملت على طرح أجسادها الفنية الخاصة في لحظة عزوف كلي عن أبعاد الجسد الشهوانية، وهي في ذلك ليست عملية تشويه للجسد بقدر ما هي بحث في الجسد.
فعن أي جسد يبحث كمال عبد لله؟ ولماذا الجسد بالذات؟
تدعونا تجربة الفنان " كمال عبد لله" لتأمل الجسد كصورة حاملة لطاقات تعبيرية، جامحة بمدركات النفس وتهيم بالمتلقي للبحث في أصول هذه الرسومات وجذور المرجعية التي ارتكز عليها الفنان. ليرمي بذلك عرض الحائط تلك النظرات التي كانت دوما تتأمل الجسد كغنيمة بمعناها الشهواني. وهكذا يجبر المتلقي على إعمال العقل بدل الاكتفاء ببساطة النظر. وفي مثل هذه الخصوصية في مستوى طرح الجسد، يجد المتلقي نفسه أمام جملة من التساؤلات. فالفنان ينشد إتمام عمل فني يحاور من خلاله المتلقي ويدفعه للبحث ويذهب بمخيلته بعيدا عن رتابة اللّذة البصرية.
ومن هنا فقد أصبح الجسد مع "كمال بن عبد لله" حامل لإشكال وباعث لجدليات فكرية تساؤل الانتماء وتبحث في المرجعية وتنشد إدراك الخطاب المخفي، فليس جسدا ككل الأجساد بل هو جسد يخص الفنان نفسه فكأننا به يساير درويش في قوله:
" سأصير يوما طائرا، وأسل من عدمي"
حيث أن الفنان رسم أجسادا حالمة تعانق السحاب، تسأل المستطاع البشري. فالفنان التونسي يطرح الجسد كمادة خام للإنشاء و الفعل الإبداعي، و في ذات الحين يمثل جسد هذا الفنان مادة قابلة للإضافة و المعالجة لغاية تتجاوز بناء المفهوم التشكيلي، بل إنه وصل من خلال تجاربه الحفرية إلى حدّ التنظير لمشروع الإنسان المفارق. ذاك الإنسان الذي لا يؤمن بالحدود ويتجاوز كل العراقيل الزمنية و المكانية، أنه ذاك الجسد الحالم، ذاك الجسد الطائر الذي أبرز "بن عبد لله" طاقاته وقدرته على الحلم والإنعتاق من الواقع بسلبياته والمتملص من الوجود المادي.
فالجسد ها هنا في هذه التجربة التشكيلية أضحى قدرة ماثلة بكينونتها الباحثة عن موطن آخر ومكان مغاير للفعل، إنه الجسد القادر على التفكير والإبداع، فكأننا بالفنان يلغي المنطق القائل بأن التفكير والبحث من مشمولات العقل دون غيره. وأخرجه من عالمه الأرضي ليزرعه حلم في الفضاء معتمدا في ذلك مفهوم التهجين كمبدأ للعمل والبناء التشكيلي، فقد جمع الفنان بين ما هو حيواني (الأجنحة) وما هو إنساني ( الجسد).
فيكون بذلك جسد مهجن ذا قدرات و إمكانات عالية الدقة في الأداء و محاورة زمن الفعل و الإنشاء و تمثل رغبات العقل بمستوييه المادي و الحسي، فها أننا نراه يبحث عن إيجاد صيغ تفاعلية جديدة للجسد تزيد من مقدوري التمثل و الفعل و الاستجابة فيه، فيقدم على إضفاء الأجنحة وهو ما تبرزه صورة العمل الموالية.

Métamorphose II ( Eau forte Aquateinte)




وبهذا قدم التونسي الجسد ليكون سجنا للفعل ومسرحا للتجاوز في لحظة تنكشف فيها البواطن و تقدّم من خلالها صور تعكس جموح الذات الفنية و تطرح الغايات و ترتحل من خلالها الأفكار على جغرافية أعضاء الجسم لتبرز القدرة على المماطلة، مماطلة الزمن و تفعيل أدائنا فيه. أداء في لحظة تمثل قصوى لفكر المثولوجيا الإغريقية. فهي أجساد عجائبيّة غرائبيّة هلامية التكوين. جاعلا من الجسد موطن للغموض ومسكن لأسرار الممارس، ومترجما لأذواقه وحالما بأحلامه وهائما بهيامه.

فالفنان "بن عبد لله" منح الجسد حرية مطلقة ليتشكل في فضاء لوحاته مانحا إياه كل الأشرعة ليبحر به نحو جزر غير مكتشفة أو كواكب سرية وعوالم أخرى غير تلك التي أنشأ فيها الفنان أعماله . فكأننا "بكمال بن عبد لله" يدعونا من خلال رسوماته لنتملص من العقل الرياضي ومنطقه الحسابي الواعي لنشاركه لحظات الهاذيان الإبداعية التي ولّدت بدورها هذه الرسومات الهجينة.
فالفنان يدعونا لإعادة تأمل وقراءة الجسد بمنطق مغاير، فهو يشرك المتلقي في اكتشافاته لسريالية الجسد الجامح، الجسد المفارق. ويدعوه لكشف أسراره، ومحاولة استبيان ماضيه وتاريخه ومعرفة رغباته الحقيقية غير تلك التي تكتنزها الذاكرة الإنسانية والمختزلة في البعد الشهواني.
وفي هذه القراءة وقفنا على كون هذه التجربة الفنية ترتكز على شيء من الغرابة والتناقض ولاّ شعوري، وتهدف إلى البعد عن الحقيقة البيولوجية للجسد، لتقدم حقيقة جمالية قائمة علي مرجعيات مختلفة. فأحيانا نجد "بن عبد لله" سرياليا بامتياز، ومرة أخرى نجد رسوماته تذكرنا بتلك الرسومات البدائية التي حفرتها ذاكرة الإنسان على الجدران. وفي هذا التوجه وذاك، أطلق الفنان العناق للأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام.

معتمدا على تلقائية الأداء والقيم التعبيرية التي رآها في الجسد، لتتكفل الأشكال الهلامية بترجمة تلك الأفكار اللاشعورية، فالنّاظر لأعمال "بن عبد لله" يجد نفسه أمام ممارسة يختلط فيها الواقع بالحلم. تجربة تخلص فيها الفنان من كل مبادئ الرسم الكلاسيكية، عبر إنشاءه لتركيبات غريبة من خلال أجسام وأشكال غير مرتبطة ببعضها البعض لخلق إحساس بعدم الواقعية، إذ إنها ممارسة تعتمد على اللاّشعور.
حيث أولى الفنان اهتمامه بالمضمون وليس بالشكل، لهذا تبدو لوحاته غامضة ومعقدة، وهو لا ينفي عنها ثراءها البصري الذي يحمل جملة من الإيحاءات الفكرية والانفعالية، وهي ذاتها التي تشكل موطن التواصل بين الفنان والمتلقي.

فمن خلال تلك الرمزية والضبابية التي رسم بها "بن عبد لله" أجساده يدعو المتلقي للبحث والتدقيق وإعادة التأمل ومحاورة هذه الأشكال والبحث في مضمونها. فهي أشكال تحمل إلغازا كبير وتبعث على الدهشة، فرسوماته وحفرياته ترسم الواقع المر، ذاك الواقع الذي لخّصته أبيات الشاعر العراقي "مظفر النواب" ومنها نختم قراءتنا لهذه التجربة بالرغم من كونها لزالت حاملة لأفكار وإشكاليات أخرى غير الجسد، فهي أغنية بصرية وألوانها متعددة.
يقول أحمد مطر في قصيدته، سيرة ذاتية:
كي اسيغَ الواقعَ المُر
أحليه بشيء
من عصير العلقم !


ملحق أعمال الفنان "كمال بن عبد لله"

الأعمال الحفرية.
(1) (2)
Méta- électron :Eau forte Aquatinte Métamorphose : Eau forte Aquatinte
Métamorphose : Eau forte Aquatinte
Héliotrope Eau forte et Aquatinte
الرسوم الخطية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي


.. الأسطى عزيز عجينة المخرج العبقري????




.. الفنانة الجميلة رانيا يوسف في لقاء حصري مع #ON_Set وأسرار لأ