الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل سورية بلد اصطناعي؟

علاء الدين الخطيب

2013 / 6 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


في بداية شهر نيسان أذاعت NBC news الأمريكية في برنامج صباحي "صباحو جو" نقاشا حول عدة أزمات عالمية في كوريا الشمالية وإيران وبالإضافة لسورية. ضم النقاش أنتوني بلير وزبيك بريجنسكي كبير مسؤولي الأمن القومي بعد كارتر وما زال أحد أهم منظري السياسة الأمريكية. طبعا كسوري شعرت بالغضب وأنا أرى النقاش الهاديء الذي تناول عدة مواضيع منحوا فيها الموضوع السوري 5 دقائق والنكات والضحك يتخلل النقاش. يصرخ الغضب بداخلك "هل تحسبون أنفسكم تتكلمون عن عطلة الربيع وكيف سقط كاس البيرة من يدك، بينما ينسكب الدم السوري أنهارا!". ثم وجدت أن لا حق لي هنا بالغضب، فكإنسان لو أني أردت أن أبكي لكل ضحية ظلم على الأرض وأنا أسمع الأخبار كل يوم بمئات الضحايا فسأقضي عمري أبكي وأنتحب. حتى على المستوى الشخصي، الناس تتضامن مع من فقد عزيزا لكنهم وبعد العودة لبيوتهم يعودون ليضحكوا مع أولادهم وأصدقائهم فأيام البكاء على أعزائهم زارتهم وستزورهم وسينالون حصتهم من البكاء.
لكن ما أثار غضبي واستهجاني جملة قالها بريجنسكي في معرض تحليله لأسباب الأزمة وفق عقلية الرجل الكاوبوي الأمريكي الأبيض "سورية بالواقع بلد اصطناعي منذ سايكس بيكو" وهنا ضحك بلير مع المذيع واطلقوا نكاتا على جرائم أسوء استعمار شهده التاريخ البشري وهو البريطاني. ما يثير الغضب أن هذا التفسير والصورة المتداولة عن سورية وعن المنطقة بسياسة إعلامية ونخبوية بشعة وصلت حتى لبعض العقول والنخبة السورية. أولا بريجنسكي المسكون بعقل الكاوبوي يتكلم من بلد ليس فقط اصطناعي بل مؤسس على بحر دماء من عشرات ملايين سكان أمريكا الأصليين وبالعصر الحديث هذا البلد قائم على سرقة كل إنسان وطفل على هذه الأرض مهما بلغ خواء معدته. فكل إنسان بالعالم يساهم دون علمه بربع مصروف المواطن الأمريكي الذي أيضا لا يعلم أنه يقتات على جوع فقراء العالم.
مع ذلك فأنا أفهم أن هذا الكاوبوي هو بالمحصلة ابن ذاك البلد ولربما كان جاهلا بسورية وتاريخها. لكن المثير للألم أن كثيرا من الأقلام السورية تنطلق من نفس الجهالة حول سورية أو من عواطف غير عقلانية تحجز الروءيا ضمن مجال ضيق. لذا لا بد أن نكرر ونذكر ما هي سورية.
سورية قائمة كأول حضارة بشرية منذ 12 ألف سنة. ولأنها أم الحضارة الإنسانية فقد أقام ومرّ واستوطن وغادر وغزا وتاجر وعاد وزار وساح وعاش ومات على أرضها وتحت سمائها غالبية عروق البشر وأفكارهم وأديانهم وطوئفهم وقبائلهم، سورية باختصار أهم تجمع فيزيولوجي وفكري وعاطفي للبشر على هذه الأرض وبهذه الأصالة. هذا التاريخ فرض على سورية وأهلها أن يرحبوا بالزائر والسائح والتاجر وعابر السبيل ويمتصوا الغازي والمحارب. فلم يشهد تاريخ سورية كله أي مجزرة أو تطهير عرقي أو ديني على يد أهلها يمكن أن نقارنه بما حدث في كل العالم، ذكرنا دماء سكان أمريكا ونعلم عن عشرات ملايين البروتستانت ثم الكاثوليك في أوروبا، بل حتى بالمنطقة العربية، بعد أن كان شمال إفريقيا مسيحيا بشكل كامل اختفت المسيحية منه وكذلك اختفت من الجزيرة، ولو عدنا لتاريخ شرق آسيا أو أمريكا القديم لفجعنا بالمجازر الأهلية. أما بسورية بالذات التي تضم معها لبنان وفلسطين فلن نجد ما يمكن مقارنته بكل هذه المآسي الإنسانية. حسب معلوماتي يتشابه هذا التاريخ من هذه الناحية مع مصر كذلك ولربما هذا هو سر التقارب الغريب بين المصري والسوري.
وبعصرنا الحالي يتواجد ما يقارب الخمسين طائفة دينية وأكثر من عشر قوميات. لو قمنا بعملية حسابية بسيطة وقارنا سورية حجما وغنى مع دول العالم الأخرى فلن نجد بلدا يحمل بشكل أصيل هذا التنوع المنجسم مع نفسه مثل سورية. بفرنسا ربما يوجد ألف طائفة لكن هذا التنوع حصل لأن فرنسا كانت امبراطورية ولأنها غنية ومن هاجر أتى للمال والأمان، وربما تحوي الهند ألف دين أيضا لكن الهند قارة قائمة بحد ذاتها بمليارها والنصف من البشر. نقبوا تراب كل هذه الأرض ولن تجدوا مثل هذه الأرواح البشرية كالتي في سورية.
بل حتى سياسيا، ولو عدنا 10 آلاف سنة للوراء. سواء حكم سورية أهلها أو حكمها أباطرة الجوار من أكاديّي العراق لفراعنة مصر لإغريق اليونان للرومان للعرب المسلمين وصولا للعثمانيين والفرنسيين، كانت سورية دائما كما هي الآن تقريبا تشمل هذا الفردوس الممتد من قامات طوروس لنهود البحر المتوسط لأنامل البحر الأحمر إلى خواصر الفرات. ربما تقاسم أطرافها بعض المتحاربين من سلاطين لكنها كانت دائما نفس البلاد والولاية و الإمارة. وبهذا ربما تتشابه أيضا مع مصر والعراق.
سورية تبقى متفردة في العالم كله بأصالة تاريخية تمتد 12 ألف عاما على الأقل بتنوع ألوان الدماء التي سقت أرضها وعدد الآلهة التي رسمت سماءها وألوان العيون التي صبغت مياهها. وطن البشر الأبدي الذي لم تفرقه يوما قومية ولا دين ولا طائفة ولا قبيلة يستحق أن يعيش ويحمي أصالة الإنسان ومستقبله. يستحق ألا تقتله القيَم الاصطناعية للنفط والدولار بغطاء دم الحسين وبراءة سيف معاوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سلمت يداك أيها الوطني الغيور علاء
جريس الهامس ( 2013 / 6 / 24 - 23:16 )
هؤلاء المستعمرين ودهاقنة وحشية الرأسمال المهيمن على عقولهم العنصرية تاريخ الشعوب ,إذا قرأوها يفسرونها حسب أهوائهم فاليهود يشكلوا أمة حسب رأيهم الشاذ - ولو كانوا من قوميات وبلدان متباعدة ولهم الحق بإغتصاب فلسطين وطرد سكانها الأصليين منذ اّلاف السنين ..فلا عجب إذا رأيت أحدهم يعتبر سورية دولة مصطنعة واّخر يعتبر العراق أومصر كذلك لتبرير مخططاتهم القذرة للهيمنة على هذا القطر أو ذاك ..بينما في الواقع والتحليل العلمي الولايات المتحدة دولة مصطنعة وكذلك بريطانيا اسكوتلاندا وويلز تطالبان بالإنفصال عن لندن منذ عشرات السنين ...؟.
سورية ياعز ي أم الحضارة الإنسانية كلها وقد سبق لي ونشرت عشرات المقالات على هذا المنبر منذ إنسان الغابة إلى إكتشاف الزراعة على العاصي والفرات وبردى الذي كان إسمه - أبانا -إلى الدولة الاّرامية التي أوجدت اللغة الأبجدية لاأول مرة في تاريخ البشرية ومنهاتطورت إلى السريانية الأم الشرعية للغة العربية ودمشق عاصمتها وقلت مرة ,كما أن أثينا قال عنها هوميروس قاهرة غزاتها فإن دمشق والدولة الاّرامية قاهرة غزاتها الذين إنصهروا بحضارتها وأريحية ونبل أهلها عبر التاريخ الذي يجب أن يفهم


2 - أبانا
علاء الدين الخطيب ( 2013 / 6 / 26 - 22:42 )
شكرا للاضافة القيمة اخي جريس... أصبت تماما بكلامك وبمحبة سورية نتعلم

اخر الافلام

.. بعد إقراره بالذنب.. القضاء الأمريكي يطلق سراح جوليان أسانج و


.. طفلان فلسطينيان يخرجان من بين نيران مدرسة قصفت من قبل الاحتل




.. غانتس: حماس فكرة لا يمكن تدميرها ولكن بإمكاننا القضاء على قد


.. أول مناظرة في فرنسا بين الكتل الانتخابية الرئيسية في خضم حمل




.. وساطة إماراتية تنجح بتبادل 180 أسيرا بين موسكو وكييف