الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدفاتر القديمة

وليد الحلبي

2013 / 6 / 24
الادب والفن


في سنوات حياتنا المبكرة، تفتح وعينا على أهلنا وهم يستشهدون بالمثل القائل:(عندما يفلس التاجر، يبدأ التفتيش في دفاتره القديمة)، والمقصود بالدفاتر القديمة هنا، دفاتر الديون التي يسجل فيها التاجر المستحقات التي له على زبائنه، فقبل عصر البطاقات البلاستيكية، كانت الاستدانة من البائع، أياً كانت بضاعته، عادة معروفة، بل ومتبعة من قبل الجميع، بمن فيهم أسرتي، ومع نهاية كل شهر، وعندما كان والدي يستلم راتبه، كان يعطيني بعض المال، طالباً مني أن أذهب إلى أحد التجار لكي أسدد له جزءاً من الدين. واليوم أنا ذاهب إلى بائع القماش.
دكانه ضيقة، تنتشر على أرففها لفافات من أقمشة ملونة،،، يجلس صاحبها على دكة خشبية مرتفعة، يصعد عليها صباحاً، ولا ينزل عنها إلا عند ذهابه لتأدية الصلاة في المسجد القريب،،، أمامه (ذراع) من المعدن يقيس بها القماش، ومقص معدني، كاد حدّاه - لقِدمِه – أن يتثلما، وعلى مقربة منه سخان صغير يعمل بالكهرباء يستخدمه لصنع الشاي، وبضع كاسات استلقت على الدكة، لا يبدو من منظرها أنها قد غسلت منذ أشهر، ولضيق مساحة المكان، لم يكن صاحبه بحاجة إلى أن يتحرك على الدكة سوى بضعة سنتيمترات لكي يصل إلى أبعد لفة قماش،،، خلفه على رف متهالك، كدس مجموعة دفاتر قديمة علا الغبار بعضها، كنت أحسبها مصاحف. وفور وصولي إلى الدكان، كنت أدس نفسي بين جمع من السيدات اللائي وقفن بانتظار أن يشترين ما يلزمهن من قماش، وعندما كان يلمحني، كانت عيناه تلمعان ببريق لم يكن يخفى علي، فهو لا يراني سوى مع بداية كل شهر، أحمل إليه قسطاً من الدَّيْن المتراكم على أبي نتيجة مشتروات والدتي من الأقمشة، لذا كان يرجيء التعامل مع زبوناته، ويأمرهن أن يفسحن لي الطريق، وكان يضطر هو أن ينحني بجسده، وأتطاول أنا على رؤوس أصابعي، كي يستطيع أن يتناول مني ما أحضرت له من نقود،،، يستدير إلى الخلف، يتناول أحد الدفاتر القديمة،،، ينفض عنه الغبار المتراكم، ومن خلف زجاجتي نظارته، كانت عيناه تفتشان عن اسم والدي، وعندما كان يجد صفحته بعد لأْيٍ، كان يحسم المبلغ الذي أحضرته له - بعد أن يعده مرات عدة - من إجمالي الدين، ثم يكتب لي باقي المستحق على قصاصة من ورق، مؤكداً عليّ أن أخبر والدي بأن "الحساب قد بلغ الزبى"، وأن عليه أن يسارع إلى "سداد الباقي قبل أن يغرق في الدين". ولصغر سني حينذاك، كنت أصغي إلى التاجر وأنا أرتعش، ومع أنه كان قد بلغ من الكبر عِتيا، فما زال صوته جهورياً، وهو يعلم- كونه الدائن – أن له ملء الحق في تأنيب مدينه، أو من ينوب عنه، أي أنا. لم تكن مشكلتي أن أرى التاجر منفعلاً، غضبان أسفاً على تراكم ديونه في أيدي زبائنه، أتلقى بجلد ألفاظه الفظة وعصبيته المقيتة، فقد اعتدتُ عليها، لكن مشكلتي كانت أولاً: أنني لم أكن أفهم حينها لماذا تشتري أمي، ويستدين أبي، بينما أنا الذي يصفعه التأنيب، ويجلده لسان التاجر،وثانياً: أن أفهم عبارة (أن يغرق في الدين)، فالغرق في عرفي آنذاك، يمكن أن يحدث في الماء فقط، لكن أن يحدث في الدين، فالأمر لا يمكن فهمه بسهولة لطفل في مثل سني، أما (الزبى) فقد تجاهلتها لأن فهم معناها كان خارجاً عن التفكير فيه. لعدة مرات كنت أود إجابة التاجر بأن أبي يعرف السباحة، لذا لا يمكن أن يغرق في الدين، لكنني كنت أخشى أن أفتح فمي أمامه، ولأن تدفق الكلام من بين شدقيه، مع الزبد الذي يتطاير منه، لم يكونا ليسمحا لي بالتلفظ بأية كلمة، بل جُلَّ ما كنت أحلم به بعد كل حفلة تأنيب وتهزيء، هو أن يفتش ذلك التاجر عن دفاتره القديمة في يوم من الأيام، فلا يجدها، فتقلع والدتي عن الشراء، ويستريح أبي من الدفع، فأعفى أنا من تلك المهمة البائسة، بل وصل الأمر بي أنني حولت هذه الأحلام إلى دعوات صرت أرددها في أعقاب كل الصلوات التي كان والدي يرغمنا على تأديتها في مسجد الحي.
كنت أعود إلى المنزل محبط الهمة، بادي الاكتئاب، مما كان يجعل والدتي تشك بأنني قد تشاجرت مع أحد أبناء الحي، فتعنفني، فيزيدني ذلك اكتئاباً. حاولت مراراً - ولكي أنجو من سلاطة لسان التاجر - إقناع والدي أن يرسل أخي الأكبر في تلك المهمة، فهو أرشق مني وأسرع، ولمتانة في عوده، كان لا يُخشى على المال أن يسرقه منه أحد، لكن في كل مرة، كان أخي – بخبث ومكر - يتظاهر بأنه منهمك في الدراسة، فيتذرع أبي بذلك، لكي تعود الدائرة لتدور علي من جديد.
ذات أول شهر، وعندما لاحظت أن أخي الأكبر بعيد عن كتبه، اغتنمت الفرصة فرجوت أبي أن يرسله عوضاً عني، ففعل، وخرج أخي بعد أن رمقني بنظرة فيها غيظ وانفعال، لكن ليس في يده حيلة، فقد ضبطه والده متلبساً بعدم فتح الكتاب، فذهب. طالت غيبة الصبي، فوضعت والدتي يدها على خدها بانتظاره، أما أبي فقد طيب خاطرها بقوله أن ابنه رجل لا يخشى عليه من العطب، واستمر يرشف فنجان قهوته ويدخن لفافته. بعد الفنجان الرابع واللفافة الثالثة، وبعد مرور ساعة دون أن يظهر، استبد القلق بوالدي أيضاً، فبدأت هي بتهدئته بقولها أن ابنها رجل لا تخشى عليه من العطب، أما بعد مرور ساعتين وستة فناجين قهوة وخمس لفافات، فقد كان لا بد لوالدي أن يذهب لتفقد ابنه، وما كاد يتهيأ للخروج، حتى ظهر الصبي على باب الدار وقد علت وجهه ابتسامة فاترة. "ماذا حدث"؟ صرخت العائلة جميعها في وقت واحد.
وصل أخي يحمل النقود إلى باب التاجر، فوجده مقفلاً،،، سأل بعض أبناء الحي، فأخبروه القصة التي جعلتني للمرة الأولى في حياتي اقتنع بأن الله يستجيب لدعاء الداعي إذا دعاه. قالوا: فتح صاحب الدكان دكانه في الصباح الباكر، فوجد أن الفئران قد التهمت دفاتر الدين القديمة عن آخرها، ولما أدرك المسكين أنه قد فقد جميع مستندات دينه الذي يمثل معظم رأس ماله، ولما أيقن أنه عاجز عن تسديد قيمة البضائع لتجار الجملة، ولما كان يستشعر خطر مصادرة منزله الذي يؤويه وعائلته سداداً لديونه، فقد جن المسكين، فخلع ملابسه جميعها، وبدأ يرقص في الشارع ويصرخ بهستيرية عجيبة، ثم شرع في مهاجمة المارة بالمقص وذراع الحديد، لذا كان لا بد من استدعاء الجهات المختصة لكي تأخذه إلى مستشفى المجانين.
بينما كان والدي يسترجع ويضرب كفاً بكف، ووالدتي تحوقل وتكاد تجهش بالبكاء، كنت أخفي وجهي بين كفيّ الصغيرتين كي لا يرى أحد ابتسامة الشماتة وقد ارتسمت عليه بوضوح.
15 يونيو 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب


.. كلمة أخيرة - صدقي صخر: أول مرة وقفت قدام كاميرا سنة 2002 مع




.. كلمة أخيرة - مسلسل ريفو كان نقلة كبيرة في حياة صدقي صخر.. ال


.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية




.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!