الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلامات سبينوزا العرب -العفيف الأخضر-

الناصر لعماري

2013 / 6 / 30
سيرة ذاتية



"الفلسفة فن يعلمنا كيف نحيا جيداً وكيف نموت جيداً "
مونتنيه

"العلم في أفضل حالات تطوره عندما تكون ملاحظاتنا باعثا لنا على تغيير تصوراتنا المسبقة" — فيرا روبين

بيدي, لا بيد عمرو كانت هذه هيّ آخر عبارة تلفظها الكاتب والمثقّف الأسطورة العفيف الأخضر.
من منا لا يعرف سبينوزا العرب المفكر القدير "العفيف الأخضر"، الذي تم إطلاق صفة "الخارجي" عليه، فهو كان دائماً من "خوارج" المثقّفين العرب، وكان دائماً يضع أقدامه في "صحن" الثقافة العربية السائدة التي تتغذّى من "معلّبات" الأفكار التقدمية . لم ينتحر العفيف الأخضر، بل وضع حدا لموته.كان مريضا ومشلولا ولم يعد يقوى على الكتابة، فقتل موته.
مثل العفيف الأخضر لا ينتحرون. لم يقو فحسب على رؤية الموت كل يوم، فتخلص منه.
إنه درس في حب الحياة وفي الأمل وفي دفع خطر الموت ومنظريه والتحذير منهم، لذلك لا تقولوا إنه انتحر.هذا ليس صحيحا.

عرف العفيف الأخضر في تونس والجزائر ولبنان وباريس كأحد أشرس الأصوات اليساريّة التي لا تُهادن, وبدأت رحلته في وقت مبكّر بعد الإستقلال, وتحديدًا منذ سنة 1958, حيث فُرضت عليه الإقامة الجبريّة بتونس, ولكنّه تمكّن بمساعدة مجموعة ثورية من الجزائر من الهرب إلى باريس, أوّلا ثمّ عاد إلى الجزائر فور إستقلالها حيث بدأ في كتابة مقالات ناريّة بجريدة الثورة والعمل, واشتهر بمقولاته التي تحوّل أغلبها غلى شعارات متداولة حتي اليوم, وقد شاعت في ذلك الوقت عبارة الثالوث المُرعب, او الثالوث المُخيف, (الطاهران والعفيف) فأمّا الطاهران, فهما الطاهر وطّار والطّاهر بن عيشة, وأمّا العفيف فهو العفيف الأخضر. وكلا الصفتين المنحوتتين من أسمائهم, لا علاقة لها بالتصنيف الديني المتعارف عليه, بقدر ما كان يشير إلى نقائهم وشراستهم في الدفاع عن مبادئهم بدون مهادنة أو تنازل, بأيّ ثمن من الاثمان.

ولم تعرف تونس كاتبًا, عاش حياته بشكل أسطوريّ طولاً وعرضًا مثل العفيف الاخضر. فقد تعرّف إلى أبي جهاد منذ بداية الستينات, وكان هوّ من يترجم له بياناته الشهيرة إلى الفرنسيّة, وكان اقرب أصدقاء القائد ياسر عرفات وهوّ من رتّب لقاء أبا جهاد بالعظيم تشي جيفارا حين جاء هذا الاخير مسبوقًا بشهرته الأسطورية إلى الجزائر سنة 1965.

ولد العفيف الأخضر في قرية “مكثر” التونسية في سنة 1934 لعائلة من الفلاحين الشديدي الفقر. وتمكن من الالتحاق بالمدرسة بمصادفة بحتة, فقد كان يرافق ابن صاحب الأرض التي يعمل بها والده إلى المدرسة ليحرسه ويعينه على حمل كتبه وكرّاساته ثمّ كان ينتظره كامل اليوم في عزّ البرد وصقيع مكثر ليعيده إلى البيت بعد نهاية الدروس. وانتبه إليه مدير المدرسة, فأشفق عليه وأدخله مع التلاميذ إلى أحد الأقسام المتقدّمة، فإذا به يحفظ كلّ الدروس بسرعة غريبة, وكان يردّد الدرس بحذافره حين يطلب منه المعلّم ذلك…وأثار الأمر انتباه الجميع, فتولى أحد المدرسين تعليمه الحروف والأسس الأولى للحساب وما فاته من المعلومات الضرورية في مقرر القسم الأول والثاني.. فإذا به يلتهمها التهامًا. ويتفوّق في السنة نفسها على كلّ تلامذة الفصل المتقدّم عليه.
ولأني كنت أسعى باندفاع المراهقة لأصبح ماركسيا محترما وغير مزور، فقد قدرت منذ ذلك الحين اسم العفيف الأخضر، وأصبحت له رنة خاصة في أذني، وبفضله أصبحت أشك في كتب موسكو وفي العراق ولبنان وجورج طرابيشي، وصرت شبه مقتنع أن الشرق تأتي منه الأخطاء والمصائب ويأتي منه أيضا الأدب الجميل في نفس الوقت.

انتمى العفيف الأخضر إلى الجيل الأول من الماركسيين العرب، وقد كان أشجعهم وأكثرهم نقدا لممارسات الأنظمة والأحزاب التي تتبنى هذه الإيديولوجية، كما كان أول من تراجع ومن أخذ مسافة من الديكتاتوريات اليسارية المنتشرة في العالم.

هرب ذات يوم من البورقيببية ونزعتها السلطوية والأبوية لاجئا إلى الماركسية، لكنه عاد إلى بورقيبة مترحما عليه وعلى نموذجه الذي قدم للتونسيين والعرب ما لم يقدمه أي زعيم عربي كان يرفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات.

كان العفيف أول من رأى وأول من فهم واستوعب عن حق هول تلك الأنظمة، وحينما ذهب إلى ألمانيا الشرقية اكتشف أنها هي التعريف الدنيوي لجهنم، وأن الحرية توجد خلف الجدار، واكتشف أن الاتحاد السوفياتي هو ديكتاتورية بشعة ودولة إمبريالية وأن جمهورية الصين لا تختلف عنه كثيرا.
في ذلك الحين تأكد العفيف أن أمريكا ليست وحدها عدوة الشعوب بل الاتحاد السوفياتي أيضا.
من الصعب في ذلك الحين ألا تكون ماركسيا، وأن تعلن عن ذلك ثم تتراجع وتنتقد قناعاتك، فهذا يعني أنك عميل وتتخابر مع الأعداء، وفعلا اتهم اليسار العفيف الأخضر بما لا يخطر على بال، وظل فقيرا فوضويا يعيش على الترجمة ويقرأ ويصدم الإيمان الماركسي الأصولي.
وقد قالها العفيف بعظمة لسانه: كان اليسار يراني يمينيا واليمين يراني يساريا.

في السنوات الأخيرة وقبل أن يبعده المرض وتختفي مقالاته التي كانت موجهة لانتقاد الإسلام السياسي وتدافع عن الحداثة والعلمانية وروح العصر التي لا تقبل في ما يشبه الحتمية أن تستمر التقاليد البالية ومناهضة حقوق المرأة في الوجود، كان العفيف الأخضر في هذه السنوات خصما لليسار وللمحافظين على حد سواء، وكان اليسار يرى فيه ليبراليا والمحافظون يرون فيه علمانيا، وكان هو مستمرا في رحلة بحثه عن الحرية والتقدم ومراجعة الأفكار وعدم الوقوف على يقين ثابت.

وبالفعل انتهى المطاف بالعفيف ليبراليا متحمسا لليبرالية ومفاهيمها هو ومجموعة من الأسماء اليسارية التي غيرت قناعاتها، والتي كانت تنشر مقالاتها في موقع إيلاف وفي جرائد أخرى، واتهمت بالنيوليبرالية وبالعمالة للغرب، وكانت تشترك في مهاجمة الجماعات والأحزاب الإسلامية، وتنتقد النزعات المحافظة في المجتمعات أكثر من انتقادها لأنظمة حكم مثل نظام حسني مبارك في مصر أو زين العابدين بنعلي.

لم يركب العفيف الأخضر على الربيع العربي، ولم ينخدع بشعاراته واندفاع شبابه، بل كان صادما وحرا وليبراليا، بين نخب وشعوب تعتبر الليبرالية تهمة وسبة وشتيمة، وخائفا من المصير الذي ينتظر تونس ومن الفاشية المتربصة، ولم يسع كما فعل الكثيرون لنيل رضى الجماهير والمتحمسين، ونادى بكتلة يكون قائدها الباجي قائد السبسي، ولم يستمع إليه أحد للأسف، وشكوا فيه وانتقدوه.

سيقول اليسار اليوم إنه كان معنا، والحال أن العفيف الأخضر انتهى ليبراليا، ولأول مرة تصبح للعرب أيقونة ليبرالية يمكن للليبراليين أن يسيروا على خطاها، بعد أن قضت القومية والسلطوية والأحزاب اليسارية على تجربة حزب مثل الوفد في مصر وهمشت مفكرين وأقلاما حرة ومنفتحة.إنه فكرة الليبراليين التي عليهم أن يفتخروا بها ويرفعوها عاليا ويطوروها.

قد أتجرأ وأدعي أن ما حلم به العفيف الأخضر هو أن يخترع العرب بورقيبة جديد، بورقيبة خال من نزعة عبادة الفرد ومن استبداد بورقيبة التاريخي واحتكاره للسلطة، لكنه غادر للأسف وهو يرى المجتمعات العربية تختار طواعية كل هؤلاء الذين كان يحذر منهم.
ومنذ سنة 2003, اعتزل الناس والكتابة, وابتعد عنه الأصدقاء لحّدته أحيانًا وصراحته التي لا يتحمّلها أنصاف وأربعاع الكتبة المحليين بعد ذلك, داهمه مرض غريب ونادر, عطّل حركة أصابعه, ومنعه من الكتابة بنفسه, وإضافة للحملات المنظّمة الشيخ اللّئيم راشد الغنوشي, حين نشر في كلّ الأوساط, بأنّ العفيف الاخضر هوّ مؤلف كتاب “المجهول في سيرة الرسول” الذي صدر بتوقيع مستعار هو “الدكتور المقريزي”.
سيدّي وأستاذي الجليل.. العظيم الأسطورة: العفيف الأخضر.
أقف إجلالاً وإكبارًا لقامتكم الشامخة. وأسجّل إنبهاري بروعة حياتك الأسطوريّة…
سيّدي. أيّها المُعلّم الأكبر:
هذه يديي, وفيها أصابعي وقلمي, ولو طلبتها منيّ قبل أن تيأس منّا لكنت خصصتها حُبس لك وعليك… وأنت تعرف أنني لا أبالغ. ولكن مادمت اخترت… ومثلك يختار ويعزم ويفعل… فاسمح لي أن أبوس رأسك وأن أقف مرتبكًا لساعة أمام جلال رسمك وأسطورة اسمك.

لم ينتحر العفيف الأخضر، وتكريمنا لروحه أن نتذكر أفكاره وليبراليته وبراغماتيته وإيمانه بالنخب التي يعتمد عليها في أي تغيير ممكن.
كانت الكلمة النقدية الحرة سلاحه الدائم ،كان المعلم للكثير منا ،كان يسعى من أجل ذاك اليوم الذي يجد فيه العرب كرامتهم وحريتهم ومسؤوليتهم الإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا للكاتب
نور الحرية ( 2013 / 6 / 30 - 10:56 )
شكرا جزيلا للكاتب استاذ الناصر على هالكلمات الصادقة والتي تسري فيها روح المحبة والحرارة الصادقة


2 - المجد و الخلود و الشموخ لمن لم يخن مبادئه .
د/سالم محمد ( 2013 / 6 / 30 - 13:59 )
تقابلت و العفيف فى بوليفار سان مشيل فى الجادة الباريسية السادسة . . فى المطعم التونسى المتواضع . فى بدايات ثمانينيات القرن الماضى ، و فى خضم احداث بولاندا و حركة تضامن حيث تنبأ استاذنا بقرب انهيار الزب البولاندى و السلطة البيروقراطية السوفيتية . و كان اليساريون و المتمركسون يسخرون من هذه التوقعات العبثية .
و اكدت الايام صحة توقعاته بان اى فكرة او نظرية او حتى دين يعادى التقدم و الحرية والاخاء و المساواة فإن مآله هو السقوط فى مزبلة التاريخ .


3 - شكر لكم اصدقائي
الناصر لعماري ( 2013 / 6 / 30 - 21:35 )
شكر لكم أعزائي المتابعون و دعمكم لسبينوزا العرب ، ليت أكون أكون معكم صديق حتى نتبادل الأفكار ، هذا حسابي ، [email protected]

اخر الافلام

.. إمام وحاخام في مواجهة الإنقسام والتوترات في برلين | الأخبار


.. صناع الشهرة - كيف تجعل يوتيوب مصدر دخلك الأساسي؟ | حلقة 9




.. فيضانات البرازيل تشرد آلاف السكان وتعزل العديد من البلدات عن


.. تواصل فرز الأصوات بعد انتهاء التصويت في انتخابات تشاد




.. مدير CIA يصل القاهرة لإجراء مزيد من المحادثات بشأن غزة