الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطرات الزمن المهتريء (شتتت النكبة الفلسطينية الأسرة الواحدة حتى لم يعد الأخ يعرف أخاه )

وليد الحلبي

2013 / 7 / 1
الادب والفن


أصبح صوت قطرات الماء الرا شح من سقف زنزانته الانفرادية رفيقه الوحيد في عزلته، يقضي ساعات طويلة يتسلى بسماعها تعزف لحناً متسقاً عندما تسقط في حفرة صغيرة أحدثتها في أرض الزنزانة ثم ملأتها. هذه القطرات المُنشِدَةُ أصبحت وسيلته الوحيدة لإدراك حركة الزمن، فلقد تعلم مع مرور الأيام كيف يستخدمها عداداً للوقت بديلاً عن الساعة في هذا السجن الذي توقف فيه الزمن منذ زمن بعيد .
السجن قلعة أثرية نائية في صحراء عربية، تبعد مئات الكيلومترات عن أقرب مدينة مأهولة، تصلها بالعمران طريق ضيقة تسلكها سيارات الأمن ناقلة إلى السجن المعتقلين الجدد، ترافقها دوريات الحراسة الأمنية، وعندما زاد عدد المساجين عن القدرة الاستيعابية للزنزانات البائسة، حفرت إدارة السجن مغارات في التلة المجاورة، زودتها بفتحات ذات شباك معدنية في أعلاها تسمح بدخول شعاع ضوء ضئيل، واستخدمتها كملحق تزج فيه بالمساجين الجدد، وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد من أسوار السجن خُصِّصَت قطعة من الأرض لتكون مقبرة لدفن جثث الذين يموتون تحت التعذيب، حيث كان هؤلاء يُنقلون إليها تحت جنح الظلام في توابيت خشبية، تُدفن على عمق بسيط تحت سطح الأرض، وعشية دفن أحدهم، كان السجناء يسمعون في جوف الليل أصوات ذئاب وضباع جائعة، تنبش الأرض وهي تعوي عند المقبرة.
في كل يوم، وبعد تسلل أول شعاع للشمس من شق صغير في سقف المغارة الزنزانة ، يبدأ بعدّ القطرات،،، يتأملها بشغف طفولي، ويستمتع بأصواتها المختلفة التي تتنوع حسب أحجامها، مما ينسيه مؤقتاً ما هو فيه، وما أن يصل إلى العدد 1800 حتى يقذف له الحارس قطعة الخبز الصباحية من فتحة أسفل باب الزنزانة، فيبللها في ماء الحفرة ويزدردها بنهم شديد. بعد حوالي 18000 قطرة كان الحارس يقذف له قطعة خبز يابسة مع صحن صغير فيه مرق اختلط طعمه برائحة البترول كوجبة غداء، وما أن تسقط 900 قطرة أخرى حتى تُفتح أبواب الزنزانات مؤذنة بخروج السجناء إلى ( الفورة *)، وحتى عندما كان( كامل) يتمشى مع زملائه في ساحة السجن، لم يكن ينسى صديقاته القطرات، بل كان يستمر في عدها، وما أن يصل إلى القطرة رقم 1500 حتى تنطلق الصافرة معلنة انتهاء فترة الراحة، فيسرع السجناء إلى زنزاناتهم قبل أن يبدأ الحراس ضربهم بأعقاب البنادق مطلقين عليهم كلاباً متوحشة .
لم يعد ( كامل) يخشى جلاديه بعد أن أكلت سياطهم من لحم ظهره ، وكسرت قبضاتهم معظم أسنانه. لم يعد ( كامل ) يخشى الموت بعد أن مات معظم زملائه إن إعداماً أو تحت التعذيب. لم تعد هناك أية قيمة لأي خطر في نظر( كامل) بعد أن تشرد عن أسرته منذ النكبة الثانية. والده مازال يُقيم في إحدى قرى ( القدس) يعيل عشرة من الأبناء والبنات،،، بعض إخوته عمل مع حكومات أو حركات وطنية أخرى مخالفة لخط الحركة التي ينتمي إليها، فوصل الخلاف بين الإخوة حد القطيعة.
لم يعد ( كامل) يخشى أي شيء سوى توقف صديقاته القطرات عن السقوط من سقف زنزانته، والتي أصبحت الآن رفيقة عمره الوحيدة ، يدعو الله دائماً أن يديمها له طيلة وجوده في السجن حتى لا يضيع زمنه من يديه بعد أن ضاع كل شيء ولم يتبق في قلبه سوى الحلم، وهو إن قُدِّرَ له أن يخرج حياً من هذه المغارة، فلسوف يوصي الزائر الذي سيحل محله أن يصادق هذه القطرات، وأن يستمر في عدها وأن يدعو لها بطول العمر، ببساطة، لأن استمرار سقوطها يعني استمرار الحياة رغم ما هي عليه من مرارة.
إنه الآن يعد القطرات انتظاراً لخبز الإفطار ، بينما تتحسس أصابعه جروحه العميقة التي تنز دماً وقيحاً بعد أن شبعت منها سياط المحققين بأمر من مدير السجن .
في التحقيق الذي فقد فيه بعضاً من أسنانه ونُتَفاً من لحم ظهره، كان المطلوب من ( كامل) الاعتراف بمسؤوليته عن عمل ( تخريبي!) لم يقم به، ومع أنه كان يعرف اسم منفذه، إلاّ أن القِيَم التي تربى عليها كانت تأبى عليه أن يَشِيَ بغيره. مدير السجن اشترك شخصياً في التحقيق معه، وأوصى الجلادين بانتزاع الاعتراف منه مهما كلف الأمر. مدير السجن هذا طويل القامة ، أسمر البشرة، ذو شارب كث وسحنة تقطر لؤماً،،، يبدو وجهه وكأنه قد نسي الضحك منذ عقود من السنين،،، عيناه مختبئتان خلف نظارة سوداء خشية اكتشاف الحقد الذي يقطر منهما مع كل نظرة، وقبضتان أكلتا من وجوه السجناء، وأكلت وجوه السجناء منهما، فبدتا متورمتين محمرتين كيدَيْ خباز، رضي بأن يعمل كلباً برتبة عقيد لدى سلطة غاشمة.
لن ينسى ( كامل) كيف استقبله مدير السجن هذا في اليوم الأول لوصوله. مع اللكمة الأولى صرخ اللئيم في وجهه: ومازلت تصرّ على عبور النهر إذن؟... شرد بذهنه بعيداً وكأن السؤال لا يعنيه: ( عَبْرَ النهر، وإلى الغرب، تقبع أحلام الأحياء والشهداء، أما الأصدقاء الأعداء شرق النهر فإنهم يحاولون مصادرة الحلم، وأما أصحاب الحلم فيعضون عليه بالنواجذ، ويعيشون من أجله ويموتون في سبيله). مع اللكمة الثانية صرخ الأسمر ذو الشارب الكث في وجهه: لن تخرج حياً من هنا إن لم تعترف. قال في نفسه:( وماذا في ذلك، سوف أنتقل من حالة الحلم إلى حالة الشهادة، عندها سأكسب الشهادة، أما الحلم فإنه، وإن خسر واحداً في سبيله، فسيبقى له كثيرون يعيشون من أجله). مع اللكمة الثالثة غاب عن الوعي ونقل إلى زنزانته .
يده مازالت تتحسس جروحه، والألم الممض يعتصر جسده حتى النخاع، بينما قطرات الماء ما زالت تتابع سيمفونيتها الرائعة، وهو – رغم ألمه - مازال يَعدُّها بفرح غامر، وعندما وصل في عده إلى الرقم المناسب، تدحرجت أمامه قطعة الخبز اليابسة، فغمسها في ماء الحفرة وازدردها، بينما تراقصت على ظاهر كفه بضع قطرات مدغدغة جلده الرقيق، فأحس بنشوة عارمة، وحمد الله أنه مازال يلامس زمنه.
تعددت جلسات التحقيق، وتكررت اللكمات من صاحب الشنب الكث . لعلعت سياط الجلادين، وتناثر لحم الكتفين والظهر والصدر، والموقف ما يزال على حاله، ونتائج التحقيق تراوح في مكانها. موقف مدير السجن أصبح حَرِجاً للغاية أمام إلحاح رؤسائه بأن يقفل التحقيق مع (كامل) بنتيجة إيجابية: {توقيع ( كامل) على اعتراف صريح بارتكاب فعل نضالي يحرمه القانون}، و( كامل ) لم يعد همه سوى عد القطرات الساقطة من سقف زنزانته، والعض على حلمه بالنواجذ.
استمر في عد القطرات، وها هي ذي قطعة الخبز مع صحن المرق تحضر لنجدة معدته الضامرة، ويستمر في عد القطرات، وهاهي ذي الأبواب تفتح للخروج إلى(الفورة )، وبدل أن يمضي مع زملائه إلى ساحة السجن، اقتاده حارسان إلى مكتب المدير .
وراء مكتبه كان يجلس كتلة من حقد، والشرر يتطاير من عينيه ، ورذاذ لعابه يتناثر وهو يتهدد ويتوعد، وتعبر كلماته البذيئة من بين أصابع يديه اللتين تلوحان في جميع الاتجاهات، وبين الجملة والأخرى ضربة بالقبضة على المنضدة الخشبية ، فتتطاير الأشياء المبعثرة على سطحها بفوضى لا تقل عن فوضى تفكير هذا المغرور.أقفل (كامل) أذنيه ولم يعد يسمع شيئاً مما يتفوه به هذا الكلب العقيد صاحب الشنب الكث، فقد حفظه عن ظهر قلب. ما يهمه الآن أنه مازال يعد القطرات ، فبعد 1100 قطرة سيدخل السجناء زنزاناتهم، وبعد 6500 قطرة ستغيب الشمس، وتظلم زنزانته تماماً ويدخل في سبات عميق، ورذاذ لعاب العقيد مازال يتساقط على وجهه، وكلمات السوء تهطل على أذنيه، ثم لكمة قوية تلقيه أرضاً فيغيب عن الوعي.
الآن يرى والده العجوز يبحث في حقله عن نعجة أضاعها، وهو يلهث من شدة الجري في جميع الاتجاهات. أخيراً، وبعد طول لهاث، يعثر على عصفور ميت له قرنان وذيل نعجة، أما النعجة فهاهو يراها معلقة على كلاّب لحام القرية الذي يبدأ بتقطيع لحمها وإطعامه لكلاب متوحشة مسعورة. جردل من الماء البارد يُسفَح على وجهه فيصحو من غيبوبته:
" غداً سيحضر والدك لزيارتك، عليك أن تتظاهر بأنك في أحسن حال، وإلا كانت نهايتك مع انتهاء الزيارة، أقسم لك على ذلك، يكفي أنك ما زلت حياً حتى الآن رغم عدم تعاونك معنا " .
تجاهل( كامل) صوت محدثه، واستمر في عد القطرات حتى وصل إلى 900 فأمره مدير السجن بالعودة إلى الزنزانة، فهرع من فوره للاطمئنان على حبيباته القطرات، وحمد الله على أن زمنه مازال يتراقص بين يديه. لم يكن يدري من أين تأتيه القوة حين يجلس مع قطرات زمنه.
أسعده أنه سيرى والده غداً، وخمن أنه لن ينام هذه الليلة من الفرح، بل سيقضيها في عد القطرات طيلة الليل، ولأول مرة منذ صادقها، غير أنه، ولشدة تعبه، وبسبب الآلام التي كانت تأكل جسده، دخل في سبات عميق بعد سقوط القطرة الألف.
في الصباح، وبعد أن ازدرد قطعة الخبز اليابسة، فتح الحارس باب الزنزانة واقتاده إلى مكتب مدير السجن. نعم، لقد حضر والده ، وسوف يراه بعد غياب سنين، ولكن ما هي الطريقة التي تمكن بها والده من الحصول على إذن بزيارته؟ وكيف استطاع والده الوصول إلى هذه البقعة النائية في هذه الصحراء الموحشة ؟ . . . لا تهم كل هذه الأسئلة ولا إجاباتها طالما أنه سوف يرى والده بعد لحظات، ومادام والده سيعثر أخيراً على نعجته الضالة. ولكن ماذا سيحل بالكلاب المتوحشة؟ لتذهب هذه الكلاب مع صاحب الشنب الكث إلى الجحيم، ولن تأكل بعد اليوم سوى من لحمها هي، فبعد مقابلته والده، سوف يعود إلى زنزانته ليعد قطرات زمنه الفضية، ثم سيدخل في حلم سيرى فيه قطيع الكلاب المتوحشة وهي تنهش لحم أحد أفرادها، أما لحام القرية فيجب أن يراه في الحلم وهو بنفسه يبقر بطنه بسكينه ويولي هارباً، وأما العصفور ذو الأرجل الأربع والذيل، فسوف يستيقظ من الحلم على صوت تغريده. أَوَ ليس الحلم حلمه، وهو حر في تشكيله؟.
فتح الحارس باب غرفة المدير ودلف مستأذناً بإدخال السجين. بقي الباب نصف مفتوح، وهاهو يرى والده واقفاً وسط الغرفة معتمراً عقاله، هذا العقال الذي سوف يسقط عن رأس العجوز لشدة العناق وتعلق الابن برقبة أبيه، فهو لن يتركها ولن يكف عن عناقه لمدة يوم بحاله، ولماذا يوم واحد فقط بعد كل هذا الفراق الطويل؟، ، ليكن أسبوعاً على الأقل. الآن الدنيا تدور بـ( كامل) وهو يرى مدير السجن يعانق الرجل العجوز مندهشاً وهو يقول له: مرحباً بك يا والدي، ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا؟.
جحظت عينا( كامل)،،، فغر فاه،،، اكتسحت جسده النحيل قطرات عرق باردة، أبرد من قطرات زمنه، أحس وكأن الدم قد تجمد في عروقه، وأيقن أن قطرات زمنه المهتريء قد توقفت الآن عن التساقط . . . وإلى الأبد.

*( الفورة : خروج السجناء إلى ساحة السجن لاستنشاق الهواء )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب


.. كلمة أخيرة - صدقي صخر: أول مرة وقفت قدام كاميرا سنة 2002 مع




.. كلمة أخيرة - مسلسل ريفو كان نقلة كبيرة في حياة صدقي صخر.. ال


.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية




.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!