الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في عيادة الأمعري

ناجح شاهين

2005 / 5 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


الكثرة في كل الأحوال، خصوصاً كثرة العرض وزيادته على الطلب تضعف قيمة السلعة، كل سلعة، بما في ذلك الإنسان. أو ليس الإنسان سلعة في نهاية المطاف باعتبار أن كل شيء له قيمة تداولية تجعله مطروحاً في السوق ليقوم الأخير بتثمينه كما يستحق لا أكثر ولا أقل؟ على الأقل ذلك هو ما ذهب إليه ماركس في تعقيبه الطويل على نمط الإنتاج الرأسمالي.
دلفت البوابة الرئيسة لعيادة الأمعري التابعة لوكالة الغوث. وعلى الفور لمع في ذهني ما يتميز به المواطن في بلادنا: أعني الموظف والطالب والطبيب والمهندس والممرض والمعلم إلى آخر القائمة. إنه يمتاز أولاً بعدم الفاعلية، وثانياً بعدم الاكتراث. ومن هنا فإن وجود " واسطة " أمر ضروري لتنشيط الاهتمام. من المهم تسجيل الأمور بوضوح مهما كانت قاسية: نحن نسجل رقما قياسياً في النقص العام في الدافعية وفي انخفاض مستوى الأداء والكفاءة بسبب عدم التدريب والتعليم الكافيين. في مثل هذه الحالة لم يعرف " جهاز التسجيل " الفحوص الواجب إجراؤها على الرغم من الإشارة الوضاحة إلى أرقامها، وبدأت عملية تحضير أرواح للتعرف عليها. لم أستطع قول أي شيء حتى لا أتهم بأنني " فهلوي " أو " متعالم " وما إليهما من تهم بالحق أو بالطل.
عندما جئت بعينة " البول " استوقفتني ممرضة يبدو أنها مسئولة، وسألتني: " إلى أين أنت ذاهب؟" فداهمني الضحك. إذ أين يمكن أن أكون مسافراً بتلك العلبة التي تنبئ عن نفسها خصوصاً لمن كان بها خبيرا كتلك الممرضة المخضرمة. فقلت متضاحكا: " أحضرت لهم هدية بمناسبة عيد العمال العالمي." لكن كيف يمكن أن آتي بتلك العلبة دون سبب ظاهر. أفلتت مني عدة ضحكات صغيرة فنظرت إلي بغضب مكتوم كأنها تريد القول: يا قليل الأدب." تجاوزت السيدة المهمة ودخلت غرفة الفحص التي هي غرفة تلقي العينات، وهي غرفة سمر بين زملاء العمل..الخ وضعت العينة في المكان المخصص لها – أم تراني مخطئا؟ لعله لا يوجد مكان لوضع العينات أصلاً؟- فنهرني شاب وقال: خليها في إيدك،" ثم أضاف دون سبب واضح " زيك زي غيرك " ترى هل كان في ملامحي ما يؤكد أنني من صنف آخر مختلف؟ أسمن من المعتاد قليلا؟ ألبس لباساً نظيفاً أكثر مما ينبغي؟ أحمل حقيبة؟ ربما كل ذلك، لكنه جميعاً لم يشفع لي. وحسب خبرتي الواسعة في تلقي الإهانات بسبب أو بدون سبب فإن القطاع الخاص على سن ورمح غير جاهز للتعامل باحترام مع المواطن. تلك طموحات مشروعة لكنها ما تزال بعيدة المنال، أبعد منالا من قيام جمهورية الفلاسفة المثالية.
قالت لي ممرضة نصف جميلة: " لكنك زميل في المؤسسة كيف تجرؤ على وصفها بما وصفتها به، الله أكبر يا رجل، مكان مثالي لنشر الأمراض، حتى لو قال ذلك كل جماعات أطباء بلا حدود لا يجوز أن نعيد ما يقولون" طوابير الناس وأفراد عديدون يغطون المساحات الضيقة والدهاليز وأبوابها سرقوا الكلام من فمي. كان المشهد بحسب طريقة الأنجلوساكسون في التعبير، واضحاً بذاته، أو دليلاً على نفسه.
عندما ذهبت في بداية وصولي إلى الحمام لأحضر لهم عينة " البول " المطلوبة، راعني أن الباب لا يغلق بإحكام، تذكرت على الفور الحمامات في زنازين " عمارة " سجن الخليل. كان منها زوج يتسم بالوساخة الظاهرة، وتبقى مفتوحة طوال الوقت، لكن الأمر لم يكن مهماً فقد كنا "نفعلها" في حضور جميع زملاء الزنزانة. لذلك لم أكترث لرفض باب حمام العيادة أن ينغلق فخدي " معود عاللطيم ".
اتضح لاحقاً أن هناك حماماً آخر أقل سوء بكثير، لكنه ليس " للزبائن " وإنما للموظفين. تذكرت سجن الخليل مرة أخرى، هناك أيضاً حمام الضباط ورجال المخابرات انظف وأجمل.
طوابير المستطبين تملأ المكان، وأصواتهم تعبر الهواء والأثير الربيعي الزاهي بضوضاء لا ملامح لها. نعمة "النقال" تسهم بدورها في ُطرق إزجاء الوقت بغرض حشره في الزاوية تمهيداً لقتله، تماماً كما يحدث للمواطن بالذات. يسعى الناس للدخول باستعمال الواسطة. الأصوات والهمهمات وابتسامات النساء..الخ السوق في وقت الذروة. كنت منهمكاً في كتابة بعض الملاحظات حول أوضاع البورصة وكيف أن النساء تبيع حليها من أجل شراء الأسهم في بعض الشركات الصاعدة كالصاروخ، عندما جاءني صوت طبيب أعرفه جيداً: "أنت هنا يا رجل، أنا متأسف تفضل لنرى ماذا بوسعنا أن نقدم لك." نظرت إلي امرأة تتأبط طفلين ويتبعها ثالث بحسد وتساؤل غاضب ومكتوم، لكنني تبعت الطبيب دون أن ألوي على شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب الجمعية الوطنية الفرنسية.. مفاوضات مرحلة ما بعد الانتخا


.. ما ردود الفعل في أوروبا على نتائج الانتخابات التشريعية في فر




.. حماس تتخلى عن مطلب وقف إطلاق نار دائم كشرط مسبق للتفاوض للإف


.. صور حصرية لحرق مستوطنين شاحنات بضائع ومساعدات في طريقها إلى




.. بسبب القصف الروسي.. دمار كبير في مستشفى الأطفال ومبان سكنية