الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الكاهن الكوباني في كنيس الغبار - تمارين ما قبل الرحيل

مصطفى اسماعيل
(Mustafa Ismail)

2005 / 5 / 5
الادب والفن


إلى الكائن الجميل محمد توبه والذين معه .. الاستماع إلى نفير الحبر ضرورة وطنية .
1- ليلُ المدينة الخائفْ لا يطاق . هدوءٌ قتّال . عبثاً تطعن الوسادة برأسك المثخن غضباً . تريد لهم الخلاص . وتريد لهم ثم أن يموتوا جميعاً وألا تبقى نملةٌ على قدميها ولا طائر ينثر وجعه على السماوات الجريحة .
غيم كئيب يرابط على تخوم المدينة وأصوات أرض يتمزق داخلها بعنف . رغمها تمارس الحياة دورتها المعتادة . سكون مريب وصمت . لا إشارات تصدر عن الناس . لا تأويلات . لا شروح . فقط استرسال في الترقب واستنزاف السجائر وتمتع بالنساء في المخادع الزوجية وخارجها . انهيارات . انهيارات . انهيارات .
تمشي في شرايين المدينة الذاهلة . تحمل فانوساً بلغ نهايات زمنه . تهدي ذبالة الضوء فيه إلى الناس الذين يحتشدون حولك وتحتشد أنت بالوجع ومرارة الأسئلة . فمن يليق بالغيم والضباب الهائم على شفتيك الغليظتين القرميديتين المبللتين أخيرا بصهيل الكائنات المنكسرة ؟.
2- المدينة خاويةٌ على عروشها وأنت تبتعد محلقاً مع الريح . لن تصطحب منها غير أوجاعك المزمنة وأوراقك الصفراء وغابات الحبر . لكأنها مدينتك الأصل المجبولة بقليلٍ من حبرك وملحك . حزين لأنك لا تجيد الوداع . تذرف روحك لكنك لا تجيد الوداع . وهكذا تخرج دونما سابق إخطار تماماً مثل أنبياءٍ قدماء تركوا للناس حيرتهم . تماماً مثل سكان الأساطير الشرقية القديمة أو في إرث الديانات الهائل . تترك أمك مع الصور المعدودة ومناديلها . يوماً ما ستصلك المناديل وعليها تضاريس وجهها الكريم وإرثها العظيم من الفقدان الطاعن في الذاكرة العجوز . يوماً ستصلك المناديل في غربتك السامقة لتقتلك بطيئاً .. بطيئاً كما لم يتوقع بشر .
3- ذات حزنٍ قرر أن يطلق النار على كل شيء . على قامته الأخرى في المرآة . على ذاكرته المثخنة بالصور والأحداث . على بلدة حدودية من غبار وتراب وطين كانت تنمو رويداً .. رويداً في شرايين هذه الجغرافية المنسية من الله . يحب سكانها الذين يحبون الشائعات حتى قياماتهم ولكنه لا يطيق طباعهم الجلفة . إن فراق بلد يسكن القلب ليس بالأمر اليسير لكنها شؤونه الصغيرة وعليه أن يديرها بجنون مرهف إذا أمكن ذلك . أو أن يدير لها ظهره وينساها ويجعلها تنساه بدورها . هذه البلدة المومس تطعن أبنائها وتحجز لهم مقاعد في الريح أو في غبارها العميم . هذه البلدة تجز أعناق الرغبات ولا تجعل أبنائها يرتقون عالياً . إنها شاهدٌ على ميتاتهم الهادئة . دونما ضجة . دونما لغط .
قتل بلد في الذاكرة ليس باليسير . لكن بلد يعيش خارج التاريخ يستحق النيل منه آلاف المرات . هكذا بلد لا يطاق ما دام كل رصيده من الحياة الانصراف المطلق إلى الشائعات ومحاولة العيش على المكائد والفضائح .
4- أسلاك الحدود التي لا تفقه العشق هناك في سفر بلوغها . حيث بعد سعال مسن قليل سيفطم على الصناديق الأولى وخوف رجال يخلفون أرواحهم بعيداً خلف ظهورهم .
ستعبر قطارات سوداء كثيرة دهشة هؤلاء القرويين البسطاء . لكنات غريبة لعسكر غريب . صداقات عمياء ستنشأ بين سهل البرازيين الشاسع وهذه القطارات العابرة .
بيوت مطرزة من مرمر تهندس المكان وخلفهم مشته نور صقار الغيب يرتل هذا البرزخ الذي من غبار . لكن المكان ليس هذا فقط . المكان لا ينشأ من عدة تعاويذ دقيقة . يلزم لصناعة مكان مبهر شخوص . وثوريون . ومغامرون . وقطاع طريق . وفتوات . وآخرون بلا ملامح . ونساء يسطون على مجالس السمر المتأخرة . وحكايا يضيع في صورها الباذخة أشواق الرجال الذين يلفون مع التبغ التركي الفاره آهاتهم الممتدة من الله وإلى الله .
5- تماماً كما يجدف فطر مبتعداً عن طفولته . كذلك البلدة الغبارية الصغيرة ستتقدم في السن وتعلن على السهل العجوز بيوتها الطينية والبشر الذين أصبحت الإقامة فيها تحلو لهم . وأنا لا أطيق الحياة في هذه البلدة التي تبعث على القيء . إنها تكبر وتتسع وتفقد رويداً .. رويداً بيوتها الطينية وبساطتها وعاداتها الدقيقة كالتطاريز الجميلة على الوسائد البيضاء .
لم أستطع طيلة السنين المديدة التي خلت أن أكون ابناً باراً بها . كنت متخماً بالشكوك ولا أتقن تبادل الأنخاب مع كل ذبولها المقرف . هذه البلدة سأعلن عليها فيما بعد قصائدي الحزينة ولعناتي الصغيرة كحكمتي الصغيرة . لن يقترب أحدنا من الآخر إلا ليبتعد أكثر فأكثر .
هذه البلدة الباردة . ستحيل أسلاك الحدود العمياء الجليدية ضوضائها ولغطها إلى سكون مجرد حيث يتكفل الحرس التركي برصاصه الطائش في تنسيق السهل على مشيئته .
أصعد إلى سماء النشيج الغائر في فوضى هذه الجهة الميتة مثل أحصنة تبعثر صهيلها كيفما أتفق وهي تنتحر على قارعة حروب هاذية . فلا صباحات لغد هؤلاء البشر المبعثرين بين الأسماء المملة للجرائد والأحزاب . لا نهارات في الغد الذي لن يعرفه هؤلاء بعد أن أتخموا جداً من تراتيل الموت العلني . فقدت الحياة الحقة روائحها الفتاكة فما كان منهم سوى اتخاذ الوجع كتاباً مقدساً ومحاولة تسطير تاريخهم بمزيج من الموت السحيق والرماد والدمع .
6- فقدنا أشياءنا . وأشياءنا فقدتنا بدورها . فما الذي يبقي هذا الخلق العرمرم مسكونا بالتعاويذ والجرائد السرية والأحزاب السرية . فصول القنوط تهذي بأجنحتها وتهوم فوق رؤوسنا التي ركنت إلى دورة العبث الجنوني . كان الرحيل محبذاً . كان الرحيل غاية . المدينة تغوص في غياهب الغبار . تضيع ملامحها . آياتها . ويعربد السكر والمجون والعهر في أزقتها المهملة كأرواحنا المصلوبة في قصائد لم يعد الناس يقرأونها . ماتت الإشارات . ماتت المعاني ومشانق كثيرة نصبت للكتب لتبقى الجهة المغالية في تدبيج التمائم محتفية بخساراتها وقبائلها التي تفتح أبواب الماضي وتغلقه على إتقانها الملفت للقتل . مدينة عارية بلا هيكل عظمي تعبر الصمت وتستسلم لتفاسير الظلام . ليس هنالك ما أفتقده . الأبجدية منكسرة على أفقها والروح تتساقط مثل امرأة من خريف . الهذيانات شاسعة . الفقدان حيازة الفراغ وأنا ملكٌ لهذا الفراغ الأثير . أنا هو . هو أنا . كلانا هشٌ وخالٍ من الكلمات والقصد . كلانا صارت الطحالب تنمو على جثته وذاكرته المنزوية . ذاكرته الحزينة كمواعيد عابرة وأماكن عابرة وأزمنة عابرة وأنثى عابرة .
7- ذات شتاء حار وكانت غيوم المواجع تستنزف سمائي الرمادية وروحي مرهقة بالشجن الكثيف كغابة من حجر قررت كتابة رواية . وحدها تليق بالدم الذي كان يشرع بالرحيل . كان لا بد لرواية ما أن تكتبني . أن تتحول قميصاً أو معطفاً لتستر جثتي التي تهترىء وتتحول إلى مستنقع مقيت . لكن أنى لي بترتيب فوضاي على الورق الذي لم يفقد بكارته بعد . كيف أنسق تفاصيلاً هائمة في رقعة تبجل الملالي مثل تلميذ مهذب أخير . لا بدّ لكائن حزين ومتمرد ما يوماً أن ينبثق من رحم الغبار هذا ويكتب هذه المدينة الهائمة على وجهها في جغرافية داعر . حيث يرقب الناس أسلاك الجليد شمالهم بعيون يصهل فيها الدمع إلى أعالي هبوبه . كوباني عذراء . يليق بها نص مفتوح يقترب قليلاً من ذاكرتها المواربة يمسح على سهلها الهرم وجبلها الوطني بامتياز . هنالك نصوص لكل المدن . لأوجاع كل مدن الأرض . لأفراحها . وحدها كوباني لم تسكن كتابة جديرة بالاحترام . يجب أن نكتب ونتلتل هذا السبات الملحمي المديد . يجب أن نصطحب القارىء إلى ملكوت الغبار واللعنة الحدودية العمياء . لن نجد غير القبور والحزن وملاحم شعرية تبعث على البكاء المرير وسنتوه معاً هناك . حيث لا أحد غير الحبر يتكلم ويوزع أرغفته مجاناً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال