الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : متاهة الخلود في الهور

بديع الآلوسي

2013 / 7 / 10
الادب والفن


في السماء السابعة، كانت تردد الآلهة ( إنانا )* : مَن خان روحه ولم يحقق حلمه تحل عليه اللعنة .
هكذا منذ آلاف السنين ، تناثرت الزقورات ، التي شيدت بالعرق والدم ، في تلك الأزمنة العامرة بالشهوة والقسوة ، كان كل البشر يتوقون الصعود الى السماء .
في تلك السماوات النقية التي تخلو من الأمراض والشرور والذي لا يموت فيه كائن حي ، هنالك في الجنة المزدهرة ، لم يعرف الملاك المهمش (سيكو ) كيف يتدبر الأمر ، بعد أن تراءى له في الأحلام انه سيموت ما لم يتعلم الموسيقى .
أستدعته آلهة السماء إنانا وقالت له :أسمعني يا سيكو
ـ أجل يا أمنا العظيمة ، أني مصغ لك .
ـ في الجنة لا تتعلم فن الموسيقى ، التي لو امتلكتها ستنسى الأحزان والهموم .
وقال له فيما بعد إله الحكمة ( إنكي ) ** :
ـ يجب أن ترى شطآنا ً محملة بمياه اللذة ، وصيادين بغنائهم يدخلون الخصب في أرحام النساء والسرور في قلوب السمك .
ـ أين هذه البلاد التي يكثر فيها الجاموس والنقوط ؟ ، أين هذه المساحات المائية التي يغني فيها القصب ليل نهار ؟ ، أين هذه الجنة التي تتغنى فيها النساء الناضجات بعهرهن المقدس؟.
ـ كُل الخبز المقدس وأشرب ماء الحياة كي لا تجوع أو تعطش ، وادهن جلدك بالسمن الملكي .. سنهبط بك في بلاد سومر ، حيث النغمات الخالدة ، حيث الريح تغني بشجن ، حيث الموسيقى التي ستعمد حلمك ، وترتقي بك من ملاك مهمش إلى إله يقف قريبا ً من الآلهة إنانا .
لم يكن أمام سيكو سوى أن يخضع ، ويتجنب غضب الآلهة التي تصرخ ليل نهار : اللعنة لمن لا يحقق حلمه ، وأهم من ذلك كله ، أن النغمات الحريرية بدأت ترن في مخيلته وتدخله في دوامات الأرق .
ذات مساء تم إعداد كل مستلزمات الرحلة ، وأنزل بسيكو بتلك العربة الملكية التي يقودها الإله إنكي ، ما إن وصلوا إلى الهور حتى هيأ له قاربا ً طلي بالقار .
قال له إنكي : كي لا تهلك ستكون صورة ًمن بني البشر ، لكن إياك أن تنسى الوصايا .
في ذلك المساء الربيعي ، تملكه العجب ، حيث السماء توزع الخير والمطر ، طاله السرور وهو يرى للمرة الأولى القطرات ترسم دوائر على مرآة الهور ، قطرات تشكل دوائر تتكرر وتختفي ، قال في خلده : حتما ً ، الأم العظيمة تبكي .
وظلت تبكي ثلاثة أيام برغم شروق الشمس .
بعد أن توقف المطر ، اختفت أجنحته الملائكية ، أكثر ما أعجبه هو تلك العطور التي تتأرجح في فضاء الهور ، تساءل كطفل بريء : لماذا الجنة المزدهرة بلا عطور ؟ .حينها بدأ يسمع اصواتا ً لم يألفها ، فأندهش لتغريد الشحارير السوداء ، كان تغريدها يشبه أجراس العرس ، اعتلت الحيرة وجهه حينما سمع القصب يئن بصفير يشبه البكاء ، ويوشوش بأذنه : سأهبك سحر النغمات . أشرق وجهه وهو يصغي إلى صقر السمك والكراكي ، مندهشا ً من نشيدها ، الذي يمجد الماء والحياة ، التي على الرغم من قسوتها تكتنز الخير الوفير ، نعم ، أدهشه الرعد السماوي أيضا ً، لكن لم يبث في قلبه الرعب ، قال ضاحكا ً : الآلهة إنانا تزمجر غضبا ً لأن الأحياء فقدوا قدرة التعجب .
ذات ليل حالك ، هبت الرياح الأربعة ، انطلق القارب يمخر ، ومع شروق نهار طاهر ، بذرت الآلهة العظيمة في قلبه روح الكلمات والمعاني ، التي بموجبها سيتمكن من التواصل مع بني البشر ، قال في خلده : ستحل علي اللعنة كما حلت على بني البشر أذا ما تجاهلت الوصايا المقدسة .
في أول أيام لقائهما ، عرف في بيت الصياد (دوكو ) ان الهور محفوف بالأرواح الشريرة ، وأن الوعد والوعيد يسيطران على قلوب كل البشر ، حينها خاف هو الآخر واستولى عليه الفزع وداهم قلبه الوسواس الناتج عن الخطر .
ذات يوم تحرسه النواميس الإلهية ، تذكر الوصايا ، وأنشد بمرارة ترتيلته الأولى ، كان يصفق بيديه وهو يردد : يا صاحبة الإرادة الكلية / يا واهبة الأوجاع والمسرات / يا طاهرة كالنور / يا من يحتاجك الغريب / يا من يمجدك الصياد الذي بلا رزق / أجل أتضرع إليك يا ذات النواميس / يا محبوبة ً أنظري إلى قاربي / هل تسمعين تراتيلي / لا تتركيني للفال المخيف / لا تتركيني أنوح كالغريق / لا تتركيني كعبد مشدود الوثاق / لا / لا / لا تتركيني .
هذه الكلمات التي خرجت من شغاف قلبه ، ستبقى تبث الأمل في روحة ، روحه التي تحتاج كثيراً من الصبر ، لتتجاوز دورات السأم والقنوط .
وحيدا ً ، وحيدا ً وقاربه في هذا العماء المائي ، كان يسلي نفسه باصطياد أنغام الطيور ، قال ضاحكا ً : حتما ً ، إن عقولها الصغيرة محملة بالأسرار والأحلام .
لكن سمك الخشني والشلك كان يضحك هو الآخر ، تلذذ بسماع صراخ البط حين يغضب او ينتشي ، كأن الكائنات هاهنا تعرف ان شريعة الهور طلسم غامض .
ما أن انتهت المائة يوم الأولى ، حتى حل القيظ ، حينها حزن سيكو لان الوقت يمضي بسرعة ، وهو يلهو مقلدا ً أصوات الطيور، لكنه يوما ً بعد آخر يتيقن أن تأمل الطيور والتحدث معها لا يثمر نغمات سماوية ، نعم ، الجزع جعله يطلق صرخته التي أراد ان تسمعها إنانا ، صرخته التي تنم عن وجع لا يهدأ : متى يا إنانا ، أجمع كل تلك النغمات في لحن واحد ، لحن يمجد الخلود ويقهر الهلاك ، متى تأخذين بيدي ، متى ترحمينني ؟
وتبددت الأيام كما تُبَعثر الريح القش ، وذات يوم قائظ ، صفرت الرياح لخمسة ايام متتالية، صار القارب يدور معها وهي تلهو معه ، كادت أن تقلب قاربه ، كادت أن تثلم الوصايا ، استسلم سيكو لليأس والخيبة ، نعم ، كاد أن يطال الهلاك حلمة أيضا ً .
الهور قديم ، والأحلام كذلك . فوق جزر القصب الصغيرة شيد أهالي الهور الشتان ، رويدا ً رويدا ً تحولت إلى بيوت وممالك . في هذا الهور المترامي كاد سيكو أن يموت ، لولا أن الريح أشفقت عليه ، ودفعت بقاربه إلى أشتان تعود للحسناء ( أنيلا ) ذات الملامح الصارمة ، والتي تبدو امرأة رقيقة وصريحة .
بالرغم من حرارة الشمس التي تنهك حتى القصب ، كانت أنيلا منشغلة بتحضير خبز لكهان المعبد ، خبزها المنذور للآلهة . ما أن رآها حتى دبت فيه الحياة من جديد ، دفعها فضولها أن تتأمله . تلفت في كل الاتجاهات متعقبا ً أصوات الطيور التي تحتفل معه بهذا الحظ الطيب ، لم يجرؤ أن يقول لها أي كلمة ، لكنها وبوحي الهام مفاجئ حدست أن قلبه يكابد ألما ً شيطانيا ً ، لذلك لم تتردد ان تسأله :
ـ هل أنت بخير ؟
ابتسم وقال بثقة :
ـ يتوجب أن أكون بخير .
ـ من أين أتيت ؟
ـ من الجنة المزدهرة .
ـ من الجنة !؟
وبما أن أنيلا تحترم كل البشر وتؤمن أن على الأرض ملائكة طيبين ،هنا قالت بصوت عذب :
ـ لماذا عزمت على المجيء الى هنا ، حيث الموت والشقاء ؟
حدق سيكو بجمال عينيها التي تشبه عيون الجاموس ، تأمل شعرها الذي لونته الشمس ، في تلك الساعة كان قلبه مفعما َ بالفرح ، أخيرا ً أجابها :
ـ إنها نواميس الآلهة إنانا .
ـ ما السبب ؟
أجاب سيكو بكل فخر :
ـ طردت بسبب حلم ، تلك هي المسألة .
ـ حلم ! ؟
ـ نعم ، ولكل حلم ثمن ولكل حلم زمن .
ـ زمن !؟
ـ نعم ، منحتني إنانا خمس سنوات فقط .
ـ بعدها ، ستعود ؟
ـ إذا حققت حلمي .
اعتقدت أنه ليس بوسعها أن ترشده إلى ما يصبو إليه ، لكنها ظنت بأنه سوف لا يرفض خبزا ً قد نذر إلى الآلهة ، بادرت وقدمت له رغيفا ً ساخنا ً ، متمنية أن تحل البركة بكوخها ويتطهر من الدنس الأسود .
في هذه اللحظة تناهى صوته مشوبا ً بالوجل :
ـ لا ، شكرا ً لك سيدتي ، إن إنكي قد حذرني من فعل ذلك .
ـ هل لي أن اعرف ماذا قال لك ؟
ـ أوصاني بلهجة صريحة ، إياك أن تأكل خبزهم ، ستحل عليك لعنة الجوع / إياك أن تشرب ماءهم وخمرهم ، ستحل عليك لعنة العطش / إياك أن تواقع أو تقبل نساءهم ، ستحل عليك لعنة الوهن والشيخوخة .
أحست أنيلا بألم يعتصر أحشاءها ، على الرغم من ذلك ضحكت ، كونها لم تسمع طيلة حياتها بتلك الوصايا التي بلغت ذروة القسوة .
صفنت بوجهه ، وتبسمت ، قبل أن تمد له يديها قائلة ً :
ـ تفضل ، بوسعك أن تستريح في كوخي ، فمن يدري ربما تفيدني بحكمة ما .
رفع عينيه غير مكترث ، وهز كتفيه ، وبحرج باح لها بالوصية الرابعة دون أن يبرح مكانه ، قال بمرارة :
ـ إنكي قال لي : إذهب ولكن ... .
وصمت خجلا ً ، فهو لا يريد أن يلحق بقلبها ألما ً إضافيا ً ، نعم ، خاف أن يكشف عن الوصية الرابعة ، الوصية التي تودي به إلى الهلاك أيضا ً .
قالت أنيلا متسائلة :
ـ ماذا أخبرك إنكي بحق سيدة السماء إنانا ؟
ـ قال أمرا ً لم أفهمه ، كرره على مسمعي ثلاث مرات ، تدبر أمرك ، لكن إياك أن تنزل من القارب ، ستحل عليك لعنة الطاعون .
تطلعت الحسناء أنيلا إلى السماء ، وسجدت متضرعة للأم العظيمة إنانا ، وبعينين على وشك ان تنفجرا بالبكاء قالت :
ـ يا أعز سيدة ، يا من تباركين الهور بالنور ليل نهار ، لماذا سلمتِ هذا الملاك لفصول من العبودية ، لعذاب يفسد الدماء في الروح ....؟
طأطأ سيكو رأسه إجلالا ً لهذا النشيد الذي سافر مع الريح ، رفع يديه وهمس للأم إنانا ترتيلته الأولى ، التي ما أن سمعتها أنيلا حتى أجهشت بالبكاء ، نعم ، أصابها الهلع ، وبدأت تطلق عويلا ً كأم خطفوا منها طفلها الذي لم تفطمه بعد .
ولم تمطر السماء ، خمن الملاك سيكو أن الآلهة إنانا ربما هي نائمة ، ولم يبلغ مسامعها ما يحدث الآن ، أو أن قلبها لم يتعاطف مع هذا النحيب .
ولم تبك أو تحزن إنانا العظيمة .
لم ينتظرا طويلا ً ، واصلا صلاتهم البدائية حتى خيم الليل ، ومع انتشار ضوء مغسول بالبركة ، رأيا غيمة كأنها أتت من ارض مقدسة ، يا له من نهار مفتون بالألوان ، ومن فرط فرحهم بالغيمة أنشدوا التراتيل ، وهما يرقبان النوارس وهي تحلق عاليا ً ، لكن الغيمة تبددت مع أول هبة ريح ، فخلدا إلى صمت موحش . في هذه الفوضى قالت الحسناء بجزع : لم تبك ِ السماء ولم تذرف دمعة واحدة .
بيد ان سيكو أراد أن يكون لطيفا ً معها ، يده المرتجفة لامست الماء والطين ، استحوذت على باله هواجس الخوف من المجهول ، لكنه همس لها ضاحكا ً :
ـ للآلهة حكمتها التي لا ندركها .
عقب عشرة أيام ، أستسلم كل منهما لقدره ، الذي لا يعوض ولا يتكرر . على الرغم من ذلك ، فأن هذه الزيارة لم تنسها أنيلا ، وكانت تردد في خلدها : مسكين أيها الملاك .
هكذا ، وذات قمر فضي ، سحبت نايها الذي علقته بجدائلها ، وبلهفة جامحة قالت له :
ـ هل تسمح لي أن أسمعك لحن الأسماك التي تصلي للقمر ؟
يا له من ناي ساحر ، أغمض عينيه ، صار الهور كله يغني ، شعر للمرة الأولى أن كل شيء جميل ، اضطربت روحه ، تراقص القارب ، لم يعرف كيف يشكر أنيلا ، الهادئة الوديعة ، وانسابت الكلمات من فمه : ( إصغ لي يا أسماك المياه الأزلية / هنا الحب كالحليب / هنا الحب يصيبنا سرا ً ، هنا في الغربة موعد مع المستحيل / حلم أخضر يهرب ويطير / أنيلا في خيالي فكرة / حمدا ً للحب / حمدا ً للنغمة ) .
بكت أنيلا ، وارتجف قلب سيكو ، كانا سعيدين و محظوظين ، كما بدا الهور أكثر رحمة بأضواء الغروب ، لقد أحس سيكو أن أنغام الناي تعزف له وحده .
قال : هل بوسعي أن أجرب ؟
ـ الناي قصبة ميتة ، ما لم تُمَرن أصابعك للرقص على ثقوبه الأربعة .
نعم ، سرعان ما حل الربيع ، وتمنى سيكو أن لا يأتي الفجر الذي سينفصلان فيه ، في نومه صار يحلم بأنيلا وعيونها السوداء . لكن الحسناء التي لا تعرف سوى لحن الأسماك التي تصلي للقمر ، استيقظت ذات صباح ، وخاطبته :
ـ هنالك في هور المسرات كاهن ضرير ، ما إن أسمع نغمات نايه حتى أبكي .
ـ موسيقى تبكي !؟
ـ نعم هنالك ، هنالك ستجد حتى الطيور تصغي له .
ـ ولكن ربما الألحان السماوية ستهبط هنا في هذا المكان ؟
ـ كلا ، إني اعرف انك لا تتعلم العزف إلا هناك .
ـ لكن كيف سأتحمل الفراق ؟
ـ هي الرياح يا سيكو ، هو القدر ، وأرجو أن تسلم لي على الراهب إن رأيته .
وهبت الريح ، عندما استيقظ في يوم ذات برق ، وجد أن قاربه يتراقص بعيدا ً عن أشتان أنيلا ، فتمتم كأنه في كابوس مزعج : أين ، ومتى ، سألتقي بالراهب ؟
مضت بضع أسابيع ، والقارب ينساب تحت شمسٍ لاهبة تثير القنوط . فجأة ً ، مر القارب بذلك الأشتان العائم وسط هور المسرات ، لم يعرف حينها أنه وصل الهدف ، حتى لفت انتباهه ذلك العدد الكبير من الطيور ، وهي تحوم برقصة غريبة حول الكوخ .
وما أن صرخ : هل من أحد ها هنا ؟ ، حتى فزعت الطيور ، التي ما إن رأته حتى ولت هاربة ، ما عدا النوارس ، فقد صارت تخفق بأجنحتها وتطلق صرخات محذرة .
وهنا ظهر الضرير الذي سأله بوقار قائلا ً :
ـ لماذا أتيت ؟
ـ نصحتني أنيلا أن أراك ، إني أريد تعلم الموسيقى التي تطرب لها الطيور .
ـ هل تملك ناياً ؟ .
ـ نعم ، الحسناء أهدتني نايها .
ـ هل جربت أن تترك لنايك العنان ليحكي ما في روحك ؟
ـ لا
ـ هل تعرف لحن الصيادين الحالمين الذين ركبوا البحر ولم يعودوا ؟
ـ لا
ـ هل تعرف أن تعزف رقصة الزرارير التي تحلم برقصة الفراشات ؟
ـ لا

صمت الكاهن طويلا ً ، وتشبث سيكو بالأمل
وبدا الليل مكفهرا ً بظلمته الحالكة ، مثيرا ً الهلع في هور المسرات . لم يخلد سيكو في تلك الليلة للنوم الطيب ، وجد عزاءه بتذكر وجه أنيلا ذات الثمانية جدائل ، متذكرا ً صوتها المشبع بالأمل ، مفكرا ً بكلماتها : إن السنين تجري ، وان ما سيواجهك أعظم .
تطلع إلى النجمة التي تزداد سطوعا ً كلما ضحكت الحسناء .
قال في خلده : يبدو أن القدر لا يؤمن بالحب .
في بعض الأحيان تتخلى الآلهة عن الهور ، فيلف المكان ضباب كثيف يقبض الروح ، في منتصف اليوم الرابع بدأ الضباب الطباشيري ينسحب إلى هور الهلاك ، وفي اليوم الخامس صحا سيكو على أنغام تشبه صلاة قديمة ، قديمة جدا ً ، غمره فرح لا يوصف ، إرتجف قلبه حينما رأى الكاهن وقد تدلت في الماء أرجله التي تشبه القصب ، وهو يعزف بنايه الأسود نغمات تحرك الريح وتطرد الضباب والضجر . قال سيكو مندهشا ً :
ـ ما أسم هذه المعزوفة الغامضة ؟
ـ عقولنا الخضراء ابتكرت مع الزمن هذه الألحان ، عقولنا الحالمة هي التي أطلقت عليها ولادة العالم بعد الهلاك .
بعد أشهر ، أخذ الكاهن لقاءهما المبارك على محمل الجد ، كانت عيناه جامدتين لكن قلبه يرى كل شيء .
أهي الموسيقى التي وحدت روحيهما بقلب واحد ؟ ، أم نبوءة الضرير الذي أكد له :
ـ في قلبك جذوة الحلم ، وأرى أنك ستصل مبتغاك لا محالة .
هكذا بدأ سيكو يلهو بنغمات رقيقة لتطرد عنه السأم ، أما الكاهن فكان يسمع كل ذلك ويضحك ، وفي بعض الأحيان يوبخه بعصبية وهو يبتسم : أيها الملاك ، اعتقد أنك تدندن ، ولكن لا تبحث عّما هو جديد .
منذ ذلك الوقت ترك سيكو الألحان الساذجة ، وأذعن للنصائح السبع ، التي تركز كل أهتمامها بروح الموسيقى فقط . قال له الشيخ الضرير : يوما ً ما سنفترق ، عليك أن تخط طريقك الفردي .
قال الملاك بارتباك :
ـ ماذا تعني يا معلمي ؟
ـ اعني ، عليك أن تكتشف ما يميز روحك ، حينها ستجد جوهر الموسيقى ؟
ـ لكن ما هي الموسيقى ؟
ـ هي الحرية ، يا سكيو .
من بعد ذلك ، حدث تغيير ملحوظ في قلب سيكو إذ تغلب على اليأس بالتفاني ، وفي الأشهر الأخيرة من السنة الثالثة ، تعلم كل أسرار الألحان التي يعرفها الكاهن ، الذي خاطبه بود ، في يوم شتائي :
ـ هل تعرف لماذا لا ترقص الطيور لمعزوفاتك ؟
أجاب بخجل : لماذا !
ـ لأن الطيور لا ترقص سوى للنغمات الذاتية النابعة من القلب ، منذ زمن ، بذلت قصار جهدي لكي لا تكون شبيها ً بي .
وروى له ، كيف أضاع عمرهُ كمعتوه دون أن يفلح بعزف لحن الأرملة الكئيبة ، وذرف دمعتين وأردف :
ـ لا تضيع وقتك معي ، إذا نذرت نفسك لحلم سماوي بحق .
سرعان ما تذكر سيكو ، ليس أمامه سوى زمن قصير ، مهما سيطول لكنه سينتهي ، زمن ربما لا يكفي للعثور على الألحان السماوية ، التي تبدو لحد الآن مستحيلة ، لذلك سأله بحيرة :
ـ العناية الإلهية ،أعطتني الفرصة ، أليس كذلك ؟.
ـ نعم ، لكن فرصتي ضاعت ، تنبه ، أن لا تضيع فرصتك ؟
بكى الاثنان من أعماقهما ، حينها فهم سيكو أن حلم الموسيقى أودى بالكاهن لذلك المصير المفجع ، بعدم رؤية العالم والى الأبد .
سأله سيكو حين أحس أن القارب يهتز مع الريح :
ـ بسم الآلهة إنانا ، من علمك العزف ؟
ـ الجني .
ـ أي جني ؟
ـ نعم ، الموسيقى السماوية لا تتقن بسهولة ، فهو الذي علمني تحويل الهموم الى فن ترقص له الطيور .
أندفع هواء ساخن ، صار القارب يهتز ، استعدادا ً لتكملة الرحلة . لم يتركه الكاهن بل ودعه بصوت حزين :
ـ وداعا ً ، خذ نايي ، سيسليك بحكايات قديمة وخرافية .
أندفع القارب منطلقا ً على صفحة الماء الملساء ، لكن صرخات الضرير المحذرة ظلت ترن في ذهنه حتى رأى الجني القابع في هور الهلاك :
ـ أنتبه إلى نفسك ، حين يداهمك الجني الذي يشبه الخنزير ، لا تتداع َ وتسقط في الماء ، إحذر سهامه التي تشبه زعانف الأسماك ، لأنها لو طالتك ستفقأ عينيك .
لم يكن في قلب سيكو سوى الإصرار العنيد ، صار يردد تعويذته الأولى التي آمن بقوتها السحرية ، تعويذته التي ستجنبه الضرر من الشر المتقلب الأهواء .
لتحرف الريح رحلته غربا ً ، اجتاز ثلاثة أهوار ، ليجد نفسه في هور مليء بالطحالب ، عندها أضطرب قلبه من السكون الذي يحف بالمكان ، تذكر قول الكاهن : الأشنة القرمزية لا يصلها سوى المجانين الحالمين . غير أن سيكو تهيأ للمواجهة ، قال لنفسه :
ـ هنا ، ربما يسكن الجني .
ما أن توقفت الريح ، حتى وجد نفسه كأبله في هذا السديم المرعب .
مكث ثلاثة شهور وهو يصرخ :
ـ أينك أيها الجني الطيب ؟ ، من أجلك أتيت .
في الليل بنجومه المتلألئة ، كان يعزف للآلهة إنانا ألحانا ً لا ترتقى لما هو سماوي ، لكنها مزيج من طاقة مكبوتة تبحث عن خلاص ما .
وذات ليلة أسره وهو يرى القمر يراقص نجمة تضحك ما إن تتكلم أنيلا ، حتى صار نايه يعزف بشجن نغمات خفيفة وطاهرة ، وتساءل : هل من فرصة للنجاة من هذه المتاهة ؟.
كان سيكو يقضا ً، حذرا ً من أن يواجه حتفه مبكرا ً وبلا رحمة ، لذلك ناجى إنانا التي تعطر الكون بالانسجام الكلي :
ـ لماذا دفعت بقاربي الى هور الهلاك يا أماه ، إذا كان من المتعذر اللقاء بالجني ؟

نعم ، أراد أن يثبت لأهالي سومر أنه ليس مجنونا ً ، تشبث بالنغمات الضوئية ، لأول مرة شعر بمسؤولية خطوته ، التي على الرغم من خطورتها لكنها كانت حافلة بالعاطفة الملونة .
كم كان عميقا ًذلك الإحساس بالفرح عندما أشرقت الشمس ، كان القارب يحمل آمالا ً غريبة تحتاج للقاء الجني لينضج عطرها وتتحول إلى حلمٍ ٍ سماوي .
ظل الحال هكذا لمدة أسبوع آخر، بعدها ناجى إنانا حين رأى الطيور تملأ السماء : هل تستطيع موهبتي تدبر أمرها دون اللقاء بالجني ؟
سمع هاتفا ً يشبه صوت الكاهن يجيب على سؤاله : كلا ، الموهبة تحتاج إلى الإرادة أيضا ً ، هذا إذا لم يفترسك الجني .
ذات نهار كالعرس ، رأى حورية ذهبية ، أخرجت رأسها متفرسة ً في وجهه . فجأة ً سمعها تسأله :
ـ هل أنت سيكو ؟
فأجاب بضحكة خفيفة :
ـ نعم ، أيتها الحورية .
ـ إحترس ، وأعلم أن الجني سيظهر لملاقاتك .ً
أغمض عينيه وما إن فتحهما حتى لم يعد أي أثر للسمكة ، صرخ : هذا الهور لا يبعث على السعادة أو الأمل .
جاءه صوت من بعيد ، انه صوت أنيلا يقول له : إن السعادة ضربة حظ كصيد السمك .

عند غسق جديد ، غمرته فرحة هائلة ، لرؤيته خط الأفق يتلون بغيمة وردية ، وهي تقترب كتنين يلفظ نارا ً ، قال مخاطبا ً السماء : يا له من جني مرعب يا أنكي .
ظل سيكو ينتظر ، لكن السراب يظل سرابا ً ، ورويدا ً رويدا ً تبددت الغيمة فساوره الألم والندم .
وهنا زادت عيناه احمرارا ً من شدة البكاء ، صار يصرخ أحيانا ً ، بدأ ينفذ ُ صبره .
قال للطيور التي صارت تحط على قاربه كمكان آمن :
ـ من المستحيل أن يرقد في هذا الهور جني الموسيقى .

أحتاج الى الراحة ، فنام يومين بعد أن طاله اليأس ، منتظرا ً رحمة الرياح الأربعة .
لكن ما أن فتح عينيه حتى رآه ، نعم رأى الجني بصولجانه الذهبي ، أصابه الفزع لمرأى هذا العملاق المهيب ، الذي لم يكن بوجه خنزير .
فزعه جعله يمسك بحافة قاربه جيدا ، حينها أتاه صوت رخيم يهمس بدعابه : آه ، يا لك من ملاك طائش ! . وصار يلهو معه ويضحك ، حتى بدا للملاك أن ما يحدث مجرد حلم .
لكن الجني ، بعينيه اللتين تشبهان نجمتين صافيتين ،اقترب منه وقال : لا تنس َ الحلم ؟
ـ الحلم ّ !؟
ـ نعم ، من ينسى الحلم ينسى الآلهة .
ـ لكن جريمتي تتعلق بحلم بريء
ـ اعرف ، ولكن حين نتمسك بأحلامنا ننسى الواقع ، ننسى الآلهة والزمن .
ـ أستساعدني أم ستعاقبني ؟
أجابه الجني وعيناه تتسعان :
ـ في الحقيقة لا أرغب الانتظار طويلا ً ، أسمعني ما عندك .
كانت صراحته مؤلمة ، فأرتجف لها قلب الملاك فقال :
ـ كيف لي أن أقبض على روح الألحان والموسيقى ؟
ضحك الجني وكأنه استمع لكلام صبي معتوه ، وما أن هدأت كركراته حتى قال بغضب :
ـ ما زلت طفلا ً بريئا ً ، تردد الحان الراهب الفاشل .
كاد سيكو ان يبكي لما سمعه ، هل يعقل ان كل ما تعلمه لا يتعدى إلا ألحانا فارغة ً بعيدة ًعن جوهر الموسيقى المزدهرة ، شعر ان كابوساً يطبق على أنفاسه ، مع ذلك تنفس الصعداء وقال :
ـ إذن ، كيف بوسعي أن أنتشل نفسي ؟
ـ عليك منذ اليوم أن لا تنتصر إلا لتجربتك فقط .
وهبت ريح عاصفة ، وغرق الجني وطرطش الماء كبركان ، ولم يظهر إلا بعد عشرة أشهر .
لم تكن الشمس قد طلعت بعد ، عندما رأى سيكو أن قاربه قد خرج بسلام من هور الهلاك ، صار بحزن يعد أيامه المعدودات . خوفه من الفناء فطر قلبه . فأنثال يعزف هواجسه الفزعة ، ووسط تلك الوحشة سقطت منه دمعة وهو يرى هجرة البط البري الذي سيعود دون ان يجده .

ذات نهار راقص ، قرر التخلي عن ناي أنيلا وناي الكاهن أيضا . نعم ، شعر بألم حارق وهو يعطي طفلين عاريين أعز ما يملك ، بعد ذلك أخذ قصبتين طويلتين ، ما إن حركهما بغضب عكس اتجاه الريح حتى أحدثتا صفيرا ً ، استحسن ذلك الصوت ، وكان سعيدا ً حين التقى احد الصيادين . قائلاً له : ستنقذني إذا ثقبت لي ثمانية ثقوب في كل قصبة .
هكذا هام بنايه الجديد ، نايه المزدوج الذي أضحى يصدح بالحان غريبة .
لكنه ما أن سمع هتافا بعيدا يشبه صوت الكاهن يقول له : أنت بالاتجاه الصحيح نحو الهدف يا سيكو . حتى قَبَل َ نايه المزدوج وقال له بمودة :
ـ خليلي ، جهزتك ليوم عظيم ، أفعلُ كل ذلك من أجل إنانا التي تحب أنيلا .
كانت الريح تردد زئيرا موحشا يحرك القصب ويبث في قلبه خوفا موروثا ، حينها أصيب بمس غريب ، فهو ما إن يسترخي حتى يتذكر غنج أنيلا ، التي ما ان تغرق صورتها ، حتى يتحول فرحه الى شرود ، ليعود كمن يستيقظ من حلم ، يتفحص أعماقه التي تشبعت بعفن الهور ، فقط النجوم من كانت تشعره ببهاء إنانا ، وتذكره بالحكيم أنكي الذي أتى به الى هذا القفر المائي .
توقف عن العزف ، حين أحس انه ملاك خائب ، وان إنانا ستهلكه لا محالة ، قال مستاء ً :
ـ تبا ً للأحلام إنها تفقدنا راحة البال .
بعد منتصف الليل بقليل ، تحرك قاربه ، الذي صار يحوي ، أسرار الصيادين ، والطيور الميتة ، وقصص الغرام ، والقواقع الخضراء ، وكذلك حلم الأرملة الكئيبة .
الغريب في الأمر ، ومع حلول آخر ربيع ، أصبح الصيادون يهتمون بألحانه ويترنمون بها في رحلاتهم ، ويحملونها في قلوبهم كتعويذة مخادعة ، لكنها ساحرة كحقيقة وحيدة قابلة للتصديق ، نعم ، صدقوها .
ظل سيكو مسترسلا ً في معزوفاته الغامضة ، التي تبشر أهل الهور بأنهم جميعا سوف ينالون الخلود الموعود .
وذات غروب معطر بعرس ، عزف لهم لحن الجنيات المراهقات ، حبه الأول هو من أوحى له بذلك ، حب أنيلا ذات ثماني الجدائل ، والذي ما عاد يهدأ أبداً ,

وفي يوم ٍ بارد ٍ مقرون ٍ بموت ملك أور ( أور نمو )*** ، كان سيكو مبهورا ً بتغريد الطيور وهي تطهر أرواحها بدفء الضوء . أغمض عينيه مطولا ً ، فجأة ً ، توقف الشدو ، فتح عينيه ، في خصم هذه الإثارة ، وجد الجني يجلس القرفصاء على صفحة الماء .
جثم الصمت على المكان لساعتين ، استجمع ما تبقى له من قوة ، ثم نطق كلمتين لا غير :
ـ متى تعلمني ؟
ـ ماذا تريد أن أعلمك ؟
ـ هل بعد ألحان البشر من ألحان سماوية ؟
ـ كل شيء ممكن يا سيكو ، لكن أخشى عليك .
ـ أريد أن أتعلمها بأي ثمن ؟
ـ لكنك ستحترق يا سيكو .

مكث معه الجني الصيف كله والخريف كله ، ثقفه بتأن ٍ ، علمه فنون الصنعة تباعا ً ، كان الزمن يمضي وهما يعزفان ألحانا دافئة ، كأنها كانت تلامس جرحا قديما ،وتيقظ حكايات موءودة تصف : أحاسيس عروس تتنهد ، خيبة صياد يفكر لماذا السعادة ليست لكل البشر ، السهر تحت النجوم اللامعات ، كوخ صياد يلتهمه الحريق ، قمر يتثاءب بفرح ، اللقلق الذي تساقط ريشه ، صياح البط البري المفزوع ، ألوزة التي تدير رأسها وتضعه تحت جناحيها .

لكن الملاك سرعان ما بدأ يتذمر مخافة أن تنتهي السنوات الخمس دون أن يقبض على حلمه

ذات غروب دام ٍ ، قال سيكو بغضب : متى تعلمني الدروس الكبرى .
ـ ضحك الجني ونهض منزعجا ً وتساءل : الكبرى !
ـ نعم ، الألحان السماوية ، التي سترقص إنانا لسماعها .
ـ إذا تركت قلبك يعزف لا عقلك ، سيرقص الكون حد الثمالة .
لم يستوعب سيكو هذه الحقيقة التي تشبه الأحجية . لذلك تساءل بحيرة وجزع :
ـ لكن متى أصل إلى ذلك ؟
عاود الجني الجلوس على صفحة الماء ، ليهمس في أذنه :
ـ يا سيكو ، الآلهة تحب الموضوعات البسيطة والأزلية .
وأنتابه الحزن لأن الملاك لم يفهم كل أبعاد اللعبة لحد الآن ، صمت ثم أردف هامسا ً :
ـ إنانا كالطفلة ، يروق لها أن تسمع الألحان الأزلية بثوب جديد في كل مرة .

ذات رذاذ يُعمد الهور ، صحا فزعا ً على إثر صراخ لسيدة مجنونه ، إنتبه وإذا بالجني قد اختفى ، نادى عليه ، ونادى ، فأجابت كل كائنات الهور إلا هو فقد غاب والى الأبد .
تملكه الأسى لأيام عدة ، بعدها عادت السكينة إلى روحه ، عندها أحس أن ثمة هاجسا ً ما بداخله صار يشتغل ويشير له أن وراء الألحان الأرضية أنغاما ً سماوية .
عاد وحيدا ً من جديد ، متذكرا ً بتعجب كلمات الجني : سينتظرك يوم عظيم .

بعد انقضاء عشرين يوما ً ، وبينما هو على وشك النوم ، خفق قلبه وهو يحاول العزف من جديد ، شعر أن نايه بدأ يطلق ألحانا ً حالمة تلامس ما هو سماوي ، ولاحظ أنها زادته يقظة وتوتراً ، بريق الأمل هذا جعله يدرك أن مفعول الزمن والحب قد أسهما في العثور على ما يبغي ، مكث يعزف طوال الليل ، جاعلا ً من اللحظة الحاضرة لحظة مقدسة .
لم يكد يمضي شهر آخر حتى تأكد أن أعماق قلبه هي التي تعزف ، حيث صارت كل كائنات الهور تصغي له . في البدء طالت ألحانه قلوب الفتيات اللواتي يمارسن البغاء المقدس وصارت وجوههن تمتلئ بالحبور وتتورد خدودهن ما أن يسمعن ذبذبات نايه الشجي ، وفي بعض الأحيان يحسدن ذلك الملاك ، لأن السماء وهبته جلال الموسيقى ، التي أعادت للهور اللامتناهي بهجته المفقودة .

ذات يوم مثمر بالمسرات ، عادت الريح بقاربه إلى أشتان أنيلا ، التي سألته بخجل :
ـ من علمك كل هذا ؟
تنهد وقال مبتسما :
ـ الجني . آه ، يا له من رجل صعب السريرة ، لكنه نبيل ومبجل .
ـ ماذا تعني بذلك ؟، إني لم أره أبدا ً.
ـ أعني ، يكفي يا أنيلا أن يكون لنا حلم حتى نراه .

في السنة الخامسة ، وذات مساء ربيعي ممطر ، وبينما هو يعزف لحن الطائر الخرافي الجريح الذي أخاف كل البشر ، انتهت آخر ساعة لتحقيق الحلم . نعم ، صار يسمع ناقوسا ً كونياً يقرع في كبد السماء ، حيث أتته الرياح الأربعة بصوت الإله إنكي ، الذي هبط كالصاعقة على رأسه :
ـ قرر الآن ، أما أن تعود ، أو تبقى إلى الأبد .
كانت الشمس تتأهب للغياب وقوارب الصيادين قد رجعت ، في تلك اللحظات أحس برعشة تجري في أوصاله وتحجرت الدموع في عينيه ، وقد تشوش ذهنه ولم يعد قادرا ًعلى التفوه بأي كلمة . تطلع بعيني أنيلا وتساءل بخاطره :
ـ إلى أي وطن أنتمي ؟
فكر بمنعطفات رحلته ، بهذه الطبيعة النابضة بالحياة والتي لا تكشف عن سحرها وغموضها بسهولة ، حينها تراءت له أنها مبنية على كلمة واحدة هي : التناقض .

عندها غرق آخر جزء من الشمس في هور الهلاك ، فبدأ يبكى لهول كل ما رأى .
ثم حلت اللحظة التي ردد فيها على مسامعه الإله إنكي بصوت ودود :
ـ أنت حر ، والقرار لك وحدك .
قام متذمرا ً مأخوذا ً بقلق ميتافيزيقي ، من دون أن يعرف ما يتوجب عليه فعله ، حينها ضحك وترك لنايه الطويل ذي ثمانية الثقوب أن يعزف بحرية ، مطلقا ً العنان لبصره مداعبا ً الأفق النحاسي .

في الثامنة مساء ً ، جلس على حافة القارب ، ودلّى رجليه في الماء ، رافعا ًرأسه الى السماء ، متسائلا ً :
ـ يا صاحبة الإرادة الكلية ، ماذا أجيب إنكي ، ماذا افعل ؟
ولم تجب إنانا ، كأنها قد ماتت ...
أطبق الصمت وتحركت الريح لينطلق قاربه ببطء صوب آفاق مختلفة تماما ً ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إنانا : إلهة الحب وهي ربة السماء في أوروك ، تشير الى كوكب الزهرة ،وفي النصوص الأكدية حملت إنانا أسم عشتار
**إنكي : آله المعرفة والخلق ومهارة الصنعة
***أورنمو : هم مؤسس أسرة أور الثالثة ( 2112 ــ 2095 ق .م )
5 /1 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال