الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهمية و مضمون النضال النظري

طريق الثورة

2013 / 7 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


إن من لا"يقبل" ثورة البروليتاريا"إلا "شرط إن تجري بسهولة وبلا صدمات .و إن يتأمن فورا عمل البروليتاريا المشترك من مختلف البلدان. وأن يستبعد سلفا احتمال الهزائم . وأن تسير الثورة في طريق رحبة ،حرة ،مستقيمة .وأن لا تكون تم ضرورة ، أثناء السير إلى النصر ، لبدل أكبر التضحيات أحيانا ، إلى القبوع في :قلعة محاصرة " أو إلى شق ممر عبر دروب جبلية ضيقة وعرة ، متعرجة . محفوفة بالمخاطر ، إن هذا الإنسان ليس بثوري ، إن هذا الإنسان لم يتحرر من حذلقة المثقف البرجوازي ، إن هذا الإنسان سينزلق دائما بالفعل إلى معسكر البرجوازية المعادية للثورة ." من رسالة وجهها لينين إلى العمال الأمريكيين .


لقد كانت إحدى المهمات الأساسية إن لم نقل الجوهرية لدى الماركسيين الروس منذ بداية تشكلهم ، تكمن في إسقاط الحكم المطلق ، غير أن عددا كبيرا من الاشتراكيين آنذاك لم يبرحوا يتصوروا هذا النضال كنوع من المواطأة بالقوة ، من النصر المؤقت "للعملي" على " النظري " ، من مشاكسة الحياة لفكرة عاجزة . وأن " أنصار السياسة "أنفسهم حين كانوا يسعون إلى رد اللوم المنصب على رؤوسهم فقد تفادوا أي استنجاد بالفرضيات الأساسية للاشتراكية ولم يستنجدوا ألا بما تفرضه الحياة الواقعية من متطلبات لا محيد عنها " .
وها نحن اليوم أمام نفس تلك المهمة ، نجد أصحاب النصر المؤقت "للعملي " على "النظري" عندنا لا يزالون يراوحون مهدهم ، ولم يسقطوا النضال النظري من جدول أعمالهم فحسب ، بل أصبحوا يشنون الحرب على كل من يحاول الاقتراب من ساحة تلك المعركة الضرورية التي بدونها لا يمكن أن نحتفظ من الثورة سوى بالاسم . أما "ّأنصار السياسة" عندنا فهم امقت حال من الأمس ، فلكي يتفادوا اتهامهم بالابتعاد عن الفرضيات الأساسية للاشتراكية ، أصبحوا أكثر الناس استنجادا بها لكن مع تغيير مضامينها وإفراغها من محتواها الثوري والاحتفاظ بما أسموه "جوهرها الحي " . ومع تطور الأحداث أصبحت الحياة تكشف يوما بعد آخر بطلان تلك الادعاءات ، مما حدا بالكثيرين إلى رفض الاقتراب من كل الفرضيات الاشتراكية بل إن الكثير منهم ذهب أبعد من ذلك حيث وصل مستوى هجومهم عليها إلى حد "محاكمة " . فكم هي سخرية التاريخ عندما يعيد نفسه.فلكي نكون ثوارا بالفعل وليس بالإسم فقط يجب إن نضع الثورة قبلا في أدمغتنا ، أن نفهم التطور التاريخي لكي نتزعمه بدلا من محاولة إعادته . فلا ممارسة تستحق بالفعل إسم الممارسة الثورية بدون الاسترشاد بالنظرية الثورية.
إن أي حركة ثورية ، هي حركة عاجزة عن انجاز دورها التاريخي في التغيير دون امتلاك معرفة علمية عنه ،هذه المعرفة النظرية هي التي تسلحها بالأدوات اللازمة لتوجيه فعلها السياسي و النضالي. أنها المعرفة العلمية التي تحدد لهذه الحركة طبيعة المهام في مرحلة تاريخية محددة اقتصاديا و سياسيا، وذلك من خلال تحديدها لطبيعة العلاقات الاقتصادية السياسية بين مختلف الطبقات وموازين القوى بينها. إنها المعرفة التي تؤسس لعلم الإستراتيجية والتكتيك الثوريين .
"فلن يكون في مقدورنا إن نفهم بكل وضوح من هم خصوم الثورة... وما هي مهماتها و القوى المحركة لها وطبيعتها ومستقبلها وتحولها المقبل إلا إذا فهمنا طبيعة المجتمع... فهما واضحا. وهكذا فان الفهم الواضح لطبيعة المجتمع ... أي الفهم الواضح لظروفه يشكل الركن الأساسي لفهم سائر قضايا الثورة فهما واضحا" . كما أننا "لن نستطيع حل قضايا التكتيك الأساسي للثورة... حلا صحيحا إلا إذا فهمنا مسالة القوى المحركة للثورة فهما صحيحا" . لذلك كانت هذه المعرفة النظرية حدا فاصلا بين الماركسية والتجريبية بين الممارسة الثورية والعفوية .غير أن هذه المعرفة ليست معرفة نصية بحثه وإنما هي معرفة مستمدة من واقع التناقضات الطبقية داخل المجتمع ، معرفة مستقاة من تفاعلنا مع واقعنا الموضوعي والداتي سواء أخذ ذلك التفاعل المباشر لتنتج عنه المعرفة لمباشرة أو شكله غير المباشر المنتج للمعرفة غير المباشرة . الأمر الذي يتبث مشروعية النضال الإيديولوجي باعتباره ضرورة موضوعية و تاريخية خارجة عن رغبة وإرادة الأفراد والجماعات رغم تجسدها بهم ومن خلال ممارستهم . ففي رسالة وجهها ماركس إلى يوسف فيديما ير سنة 1852 أكد على أنه ليس هو من اكتشف الطبقات أو الصراع بينها فقد سبقه إلى ذلك العديد من المفكرين البرجوازيين وأن ما قام به هو البرهان على أن الطبقات غير مرتبطة سوى بأساليب معينة من الإنتاج وأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ وهذا الصراع سيؤول بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا التي هي بدورها ليست سوى مرحلة في اتجاه المجتمع اللاطبقي ، وهكذا ، لا يجب أن ننسى أو نتناسى أن الصراع الإيديولوجي والنظري هو أحد الأشكال الأساسية للصراع الطبقي محرك التاريخ
لكن، أين تكمن أهمية الصراع الأيديولوجي في ظل واقع التناقضات الطبقية في بلادنا ؟ وما هو مضمون واتجاه هذا الصراع ؟


ما أهمية الصراع الأيديولوجي ؟

لكي نجيب على هذا السؤال قد كان يكفي العودة إلى التراث الماركسي من كتابات ماركس وانجلز ولينين و ماو ، فقد خصص هؤلاء القادة حيزا كبيرا من نضالهم لإيضاح هذه الأهمية والعمل على ترجمتها فعليا. إلا إن هاته العودة إلى التراث وان كانت ضرورية فهي غير كافية مطلقا خصوصا في ظل الشروط التي تجتازها الماركسية عندنا اليوم، حيث أصبح التعاطي مع هذه النظرية الحية مجرد ممارسة "فكرية جامدة " لا تستطيع سوى إنتاج المقولات الجاهزة و القوالب الجامدة . مما فتح المجال على مصراعيه لتنامي النزعات البورجوازية الصغيرة داخل الماركسيين أنفسهم ف"ترديد شعارات" محفوظة عن ظهر قلب،ولكن دون فهم ودون تأمل أدى إلى انتشار ضرب من التعابير الجوفاء على نطاق واسع ، و هذه التعابير الجوفاء انتهت عمليا إلى ميول بورجوازية صغيرة مناقضة للماركسية بصورة جذرية " .
إن هذا الواقع الذي أرخ لممارسة الماركسيين على طول أزيد من عقد من الزمن أصبح اليوم الظاهرة الأكثر بروزا والأشد خطرا على حاضرهم ومستقبلهم أيضا . الشئ الذي يفسر احد أسباب فشل كل المحاولات و المبادرات التي أرادت أن تساهم في إخراج الماركسيين المغاربة من الأزمة التي يعانون منها.فهل يمكن إن يستقيم أي فعل سياسي أو تنظيمي أو...في ظل التفسخ النظري والضبابية الإيديولوجية ؟ كلا، إن أي محاولة لإيجاد الطريق الصحيح و إخراج الحركة من أزمتها الراهنة مصيرها الفشل إذا لم تطرح بشكل واضح و عاجل مهمة الدفاع عن أسس الماركسية و محاربة البلبلة الفكرية و بناء الوضوح الفكري بين الماركسيين . فلا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية . غير أن هناك العديد من ماركسيي" العهد الجديد" ومن على شاكلتهم، من مشوهي الماركسية ، يعتقدون أن النظرية ليست محط اختلاف وصراع بين المناضلين و الفرق، وان "الكل" لا يمكن إن يجادل في صحة ما جاء به رواد الماركسية. إن هاته الرؤية إلى النظرية هي في الحقيقة اكبر تجسيد للازمة الراهنة التي تعرفها الماركسية ببلادنا. فاختزال النظرية في النص و التراث ليس إلا انحطاطا بالماركسية من كونها مرشد حي للعمل إلى مستوى فزاعة في حقل الصراع الطبقي . و إن كانت الفزاعات قد تخيف العصافير الصغار فإنها في الوقت نفسه تفتح شهية الضواري و الجوارح الكبار. ففي ظل مثل هذه الشروط " يمكن لخطأ يبدو لأول وهلة "غير ذي شان" أن يسفر عن أوخم العواقب ، وينبغي للمرء أن يكون قصير النظر حتى يعتبر الجدال بين الفرق و التحديد الدقيق للفروق الصغيرة أمرا في غير أو انه أو لا داعي له . فعلى توطد هذا "الفرق الصغير" أو ذاك قد يتوقف مستقبل الاشتراكية- الديمقراطية الروسية لسنوات طويلة، طويلة جدا" .
و الحال، إن هذا الواقع ليس معطا خارجا و معزولا عن مجمل الشروط الذاتية و الموضوعية التي أنتجته وصراعنا ضده لا يمكن في أي حال من الأحوال إن يصل إربه إلا بالنضال ضد تلك الشروط بالذات. فما هي إذن تلك الشروط ؟
إن عملية تحديد الشروط التي أفرزت واقع الانحلال والتفسخ النظريين في صفوف الماركسيين تجد أساسها بكل تأكيد في دراسة مختلف خصائص تطور الماركسية محليا وعالميا ، ودراسة تطور مختلف مستويات الصراع الطبقي، وهو ما يجعل مهمة الوقوف على مختلف التجارب الماركسية وتجربة الحملم بشكل خاص، مهمة استعجاليه. غير أننا نجد أنفسنا في ذات الوقت أمام مهمة عاجلة لم تتوفر بعد كل مقومات انجازها بما هي مهمة "جماعية " تستدعي توفير وتجميع العديد من الشروط الضرورية – و هاته المساهمة هي محاولة من خلالها إلى المراكمة في اتجاه تحقيق بعض تلك الشروط – لذلك لن ندعي إننا نلامس كل جوانب المسالة أو نجيب عليها بشكل نهائي
أ‌- الجمود العقائدي بوصفه احد الركائز التي يقوم عليها الانحلال و التفسخ النظريين.
لقد شكل الجمود العقائدي ردة فعل طبيعية على النزعة الانتقائية التي تعرضت لها الماركسية ، حيث عملت البرجوازية وكل الخطوط التحريفية على الاعتماد عليها من اجل النيل من الماركسية وتشويهها ومحاصرتها منذ بداية انتشارها كإجابة على واقع التناقضات الطبقية ببلادنا. غير أن هاته النزعة سوف تتمدد بشكل اكبر وأقوى مع نهاية السبعينات، فبروز وانتشار هذه الاتجاهات الانتهازية و التحريفية داخل الحركة الماركسية اللينينية المغربية في مطلع الثمانينات شكل نقطة تحول عميقة في تسريع وثيرة انتشار تلك النزعة الانتقائية لما توفره لهذه الاتجاهات من ملاذ فكري ينسجم و التراجعات السياسية التي انطلق مسلسلها آنذاك والهادفة إلى تصفية الحركة الثورية الناشئة و إقبارها.
إن هذا الواقع كان بمثابة الارضية الخصبة التي سمحت – في جزء هام منها – بتنامي الجمود العقائدي كردة فعل عفوية من اجل تحصين الماركسية. فمعظم المناضلين كانوا في تلك الشروط عاجزين على القيام بمهمة الدفاع باستقامة عن أسس الفكر الماركسي الشئ الذي دفع بالكثيرين منهم إلى التشبث اللفظي بالشعارات والمقولات كشكل من أشكال المقاومة الدفاعية عن هويتهم الإيديولوجية. ومع تطور الإحداث والصراعات والانكسارات والجراح كانت تلك المقاومة تتحول شيئا فشيئا إلى نزعة بورجوازية صغيرة. إن تلك الردة فعل وان كانت طبيعية ومقبولة في بدايتها حيث ساهمت في فضح الاتجاهات والتحريفية و التصوفية فإنها أصبحت ظاهرة مرضية بمجرد تحولها إلى نزعة داخل الماركسيين تبرز كل الذين لا يزالون متشبثين كمبتذلين هم أيضا للماركسية. فقد غدت الغطاء المفضل الذي تختفي وراءه العديد من الاتجاهات الانتهازية و التصوفية وخصوصا بعد التغيرات التي أعقبت انهيار المسخ ألتحريفي بأوروبا الشرقية و انفراد الامبريالية بالسيطرة على العالم وما افرزه هذا الواقع داخل الصراع الطبقي ببلادنا .و الحال فقدا شكلت تلك الأحداث نقطة تحول عميقة في صيرورة الصراع الطبقي عالميا. كانت لها العديد من الانعكاسات على كافة الدول و خصوصا التبعية منها خصوصا على المستوى الاقتصادي أو الإيديولوجي أو السياسي. وبكلمة على كافة مناحي الظروف الاجتماعية لهذه البلدان "وبالضبط لان الماركسية ليست عقيدة جامدة ، ميتة، مذهبا منتهيا جاهزا ، ثابتا، لا يتغير. بل مرشد حي للعمل، لهذا بالضبط كان لابد لها من أن تعكس التغير الفريد في السرعة في ظروف الحياة الاجتماعية. فقد أدى هذا التغير إلى تفسخ عميق، إلى البلبلة، إلى ترددات متنوعة. وبكلمة إلى أزمة داخلية خطيرة في الماركسية. ولذا توضع من جديد في جدول الأعمال مهمة القيام بعمل حازم ضد هذا التفسخ. ومهمة القيام بنضال شديد عنيد دفاعا عن أسس الماركسية" . ولعل مظاهر هذا التفسخ والانحلال النظريين لا تخفى على احد حيث أصبحت أكثر نثانة من ذي قبل خصوصا عند أولئك الذين لم يستطيعوا الصمود والثبات في وجه هذا الواقع المتغير باستمرار أو أولئك الذين كانوا يتحينون الفرصة للإعلان عن ذلك. الشئ الذي يساهم في خلق العديد من المرضيات الأخرى التي تنهش تاريخنا و حاضرنا.
ب – حرية النقد على الطريقة المغربية.
لم تكن نزعة الجمود العقائدي ظاهرة مغربية صرفة بل إنها ظاهرة عالمية و تاريخية عرفتها مختلف التجارب الاشتراكية عبر العالم. و إن كنا قد وقفنا على بعض الأسس التي أرخت لظهورها في تجربتنا المغربية فان مضمون مجابهتها لن يكون سوى مضمونا موحدا أيضا سبق و إن اشرنا إليه أي ضرورة بناء الوضوح الفكري و الإيديولوجي. لكن الجمود العقائدي و إن تناولناه بوصفه نتيجة لمختلف الشروط الذاتية و الموضوعية التي حددناها أعلاه، فهو أيضا من بين الأسباب التي نتجت عنها العديد من النزعات البورجوازية الصغيرة الأخرى ولعل أبرزها في هذا الاتجاه هي "حرية النقد". فبفعل انتشار الجمود العقائدي كمظهر من مظاهر الأزمة التي تعيشها الحملم، كان طبيعيا وموضوعيا إن تطرح في جدول الأعمال مهمة النضال ضده ومحاصرته، لكن هذا الاتفاق الذي يلتف حوله العديد افرز هو الآخر تساؤلات عديدة جعلت من هذا الاتفاق مجرد لفظ سطحي لا أكثر، فعوضا إن تتجه السهام نحو هذا المرض أصبح الكثيرون يوجهونها إلى الماركسية بالذات بدعوة ضرورة محاربة "الدغمائية" و "العقائدية" و " التطرف" وما على شاكلة ذلك.
و إذا كان البعض قد أعلنها صراحة " لا إيديولوجية " أي التخلي عن المبادئ . فان البعض الآخر حاول الاحتيال على الماركسية من خلال إفراغها من محتواها، من جوهرها الثوري. بعد إن استعرض علينا ع.الحريف الهجمات التي تتعرض لها الماركسية حيث يقر انه " يتم تشويه الماركسية كي يسهل انتقادها وذلك عبر تسطيحها وتحويلها إلى نقيضها أي إلى منظومة منغلقة على نفسها وكاملة ومنتهية... " . يضيف بعد صفحة واحدة من هذا الكلام " إن لينين لا يعتبر إن الماركسية تقدم قوانين عامة تتحكم في سير المجتمعات والعالم وإنما يعتبر الماركسية تقدم فقط مبادئ عامة توجه التفكير والممارسة" . وان كانت هذه التحديدات واضحة في محاولتها للتنصل من المبادئ ومن مختلف الفرضيات الأساسية للاشتراكية. ومن ما وصلت إليه الماركسية من حقائق علمية( هي طبعا نسبية بنسبية الشروط التي أفرزتها ) فإننا لن نخوض – في جدال مع صاحبها – لكننا يمكن أن نؤكد إن الماركسية أو العلم بشكل عام لا يبني الحقائق و القوانين بل يكتشفها " ولا حاجة لي إلى القول إني استهدفت من مراجعتي للرياضيات والعلوم الطبيعية الاقتناع مفصلا أيضا – وهو ما لم تكن تراودني على العموم ادني ريبة فيه – بأن القوانين التي تشق لها طريقا في الطبيعة في خضم التبدلات التي لا حصر لها، هي نفس قوانين الحركة الجدلية التي تسود اتفاقية الأحداث الظاهرية في التاريخ، ونفس القوانين التي تشكل بصورة مماثلة الخيط الجامع قي تاريخ تطور الفكر البشري و التي ترتفع بصورة تدريجية الى الوعي في دهن الإنسان. القوانين التي كان هيغل سباقا إلى تطويرها في شكل جامع لكنه صوفي . والتي جعلنا احد أهدافنا تخليصها من هذا الغلاف الصوفي وكشفها بكل وضوح أمام الدهن في بساطتها وشمولها التامين " .
و إذا كانت النماذج السابقة واضحة في تنصلها من المبادئ فان تعقد الحياة ومشاكسة الواقع سبب كاف لظهور العديد من المداخل الأخرى لنشر "حرية النقد"، حرية التنصل من المبادئ، فقد ظهرت في السنين الأخيرة الدعوة إلى تعليق كل شعارات الحركة ومهامها ما دامت غير مبنية على دراسات واضحة ( ). فبالنسبة لأصحاب هذه الدعاوي يجب تأصيل المواقف والشعارات يجب إطلاق العنان للمبادرات الهادفة إلى ذلك مهما كان منطلقها حتى ولو كان تشكيكا أي جعل كافة مواقف الحركة قاب قوسين ما دامت غير مبنية على دراسات آنية لواقعنا الذاتي والموضوعي. وما دامت هذه الدراسات لم تنجز فإن كل شعارات"نا" هي محط تساؤل ولا عليك إذا ما سحبتها من الميدان أو دعوت إلى ذلك ، فحينما يصبح التشكيك منهجا ( بوعي أو بدونه )من أجل "بناء" المعرفة فعلى المرء أن يستحيي من نفسه فذلك ليس سوى الارتداد من الماركسية إلى الديكارتية. إنها حرية النقد على الطريقة المغربية الأصيلة.و إذا كانت حرية النقد في روسيا قد أنتجت الاقتصادية فما عساها إن تنتج في المغرب سوى مسخا لتلك أو ما هو العن.
إننا عندما نصدم أنفسنا بواقعنا المتعفن بتعفن الواقع ونخلص إلى ضرورة بناء الوضوح الإيديولوجي والفكري نعتبر أن كل النزعات التشكيكية وما من شاكلتها أمر مرافق بشكل موضوعي لهذا التقويم الذي أعلنا ضرورته فالنزعات البورجوازية الصغيرة حرباء تتقمص الأدوار وتأخذ جميع الألوان، لكننا مقتنعون إن هاته النزعة التشكيكية وان كانت ردة فعل طبيعية على الحرب التي أعلناها على قلاع التفكير والممارسة البورجوازيتين المثبتة في صفوفنا فإننا مقتنعون أيضا أنها تحمل من الخطورة أكثر بكثير مما في النزعات الأخرى فلا رحمة تجاهها "فالأنهار القوية تسحب معها الكثير من الحصى والعليق، والعقول القوية تسحب معها كثيرا من الرؤوس البلهاء والحائرة "(نيتشه).
و الحال إن هذا المخاض و هاته الإشكالات لم تسترعي باهتمام الكل فالبعض قد أسقطها نهائيا من تفكيره وحصر "فعله" في الاتجاهات "العملية" ليخلص إلى إن "الوضع الحالي يتطلب تحصين المناضلين الجذريين لدواتهم وتمتين حضورهم في المواقع التي يوجدون فيها والتواجد الفعال و النضالي في الإطارات الجماهيرية والعمل داخلها لإيصال الموقف البديل و الدفاع عنه كما يتطلب خلق آليات للتنسيق فيما بينهم بغاية التواصل المستمر... " . الأمر الذي يعتبر انتكاسة حتى بالنسبة لأطروحات منظمة إلى الأمام في بداية التسعينات حيث نجدها مستحضرة لهذا البعد ( أي النضال النظري ) بقوة - رغم الخلاصات الكارثية التي تنادي بها بعد ذلك – فقد تم اعتبار "العمل النظري الثوري لا يمكن أن يكون إلا جزءا من النشاط الثوري الكلي الذي يتضمن أشكالا متعددة ومتداخلة منها النشاط السياسي والنشاط التنظيمي والنشاط الإيديولوجي. وهذا لا يعني أن كل الأشكال تتساوى من ناحية الأهمية في كل مرحلة من مراحل العمل الثوري " .
وهكذا نجد أصحابنا المهرولين وراء البروز كطرف سياسي في المخاض الذي يعرفه ما يسمى باليسار الجديد أصبحوا متأخرين حتى بالنسبة لأولئك الذين كانوا في وقت ليس بالبعيد هدفا لهجماتهم. إن هاته النظرة للعمل ليست سوى محاولة للتنظير للعفوية وللعجز. لكنها أنتجت هي الأخرى بعض المحفزات التي تقتات عليها الذاتية والانعزالية،
حيث أصبح العديد من المناضلين بدون جرأة على المبادرة وخوض الصراع ضد الأعداء والخصوم خوفا من مراكمة الأخطاء أو السقوط في الانتهازية، الأمر الذي جعل العديد منهم يعلن على ضرورة الانتهاء من بناء التصور النظري لأية حركة قبل أن يقدم المرء على الانخراط داخلها وكأن البناء النظري عملية عقلية مفصولة عن الواقع يستطيع إنجازها بعض الفقهاء المعتكفين بصوامع المساجد. إن هذه الرؤية للعمل لاعلاقة لها هي الأخرى بالماركسية، إنها نزعة كانطية صرفة، مثالية وبالتالي رجعية.
فالكانطية وليست الماركسية هي التي تحذر من المغامرة في النزول إلى البحر قبل تعلم السباحة. الشيء الذي لم ينتج في آخر المطاف سوى الإنتظارية وتأجيل الثورة إلى ما لانهاية. لكن إذا كان لينين يؤكد دائما لما للعمل النظري من أهمية فإنه بالمقابل كان يحذر دائما من السقوط في مثل هذه النزعات. ففي كتابه منهم أصدقاء الشعب نجده يقول " إنني إذ أشير إلى ضرورة قيام الاشتراكية ـ الديمقراطية بالعمل النظري والى أهمية هذا العمل ومداه، لا أقصد القول أبدا أنه ينبغي لهذا العمل أن يتقدم العمل التطبيقي وبالأحرى أن يصار إلى تأجيل العمل التطبيقي حتى ينتهي العمل النظري...إن العمل التطبيقي عمل الدعاية والتحريض، يتقدم دائما بالضرورة أولا لأن العمل النظري لا يفعل غير إعطاء الأجوبة عن الأسئلة التي يطرحها العمل التطبيقي، وثانيا، لأن الاشتراكيين ـ الديمقراطيين لأسباب خارجة عن إرادتهم مضطرون في معظم الأحيان إلى الاقتصار على العمل النظري . فلابد لهم أن يقدروا سامي التقدير كل لحظة يكون فيها العمل التطبيقي ممكنا " . وإذا كانت هذه الفقرة يؤكد من خلالها لينين عدم تأجيل العمل التطبيقي ( أي عمل الدعاية والتحريض الثوريين وليس الهرولة وراء السراب ) حتى ينتهي العمل النظري، فهي لاتطرح مطلقا تأجيل العمل النظري إلى حين بداية العمل التطبيقي خصوصا وأن العشرات بل المئات من الأسئلة التي يطرحها العمل الميداني في العديد من الحركات لازالت إلى حد الآن بدون إجابة نظرية موجهة هذا أولا ، وثانيا ، إن تغييب العمل النظري وتغييب الأسئلة التي يطرحها الواقع الموضوعي في تفاعله مع ممارسة المناضلين التاريخية واليومية هو سقوط في القذارة الدوركايمية وسقوط في مستنقع العفوية والانتهازية. ف " نحن لا نقول للعالم كف عن النضال ـ فكل نضالك باطل. إنما نعطيه فقط الشعار الحقيقي للنضال" .
• ما هو مضمون هذا الصراع الإيديولوجي؟
إن العمل النظري هو حلقة من حلقات بناء الطريق نحو المشروع التاريخي للطبقة العاملة وكافة المقهورين. فما هو إذن مضمون هذا العمل بوصفه أيضا شرطا أساسيا ( وليس وحيدا ) لإرساء أسس الوضوح الفكري والإيديولوجي بين الماركسيين، ومدخلا أساسيا لإحقاق وحدتهم السياسية والتنظيمية؟ .
" إن المثقفين الاشتراكيين لن يتمكنوا من القيام بعمل مثمر إلا إذا تخلصوا من أوهامهم وبدأوا في السعي وراء سند لهم لا في تطور مرغوب فيه لروسيا ( ونحن نقول للمغرب) بل في تطورها الفعلي، لا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الممكنة، بل الفعلية ومنذ ذاك ينبغي إن يتجه عملهم النظري نحو دراسة علاقاتها وتطورها المنطقي، ينبغي لهذا العمل إن يكشف التناحر حيث ما يستره التاريخ السياسي وخصائص المؤسسات الحقوقية و الاوهام النظرية الثابتة ينبغي لهذا العمل إن يرسم لوحة إجمالية عن واقعنا، بوصفه نظاما معينا من علاقات الإنتاج، وان يبين ضرورة استثمار الشغيلة وانتزاع ملكيتهم في ظل هذا النظام، وان يشير إلى الحل الذي يحيه التطور الاقتصادي للخروج من هذا النظام" . إن هذا المقطع الذي أوردناه من الكتابات الأولى للينين إذ يوضح العديد من المهام النظرية التي تنتظرنا كماركسيين في المغرب، فانه يشير في الوقت ذاته إلى مدى هذا العمل، فتناولنا لهاته الإشكالات النظرية أو تلك ليس من منطلق الترف الفكري أو لمجرد المعرفة بالشئ ، بل لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحل إشكالات البرنامج والتكتيك والإستراتيجية للعملية الثورية بالمغرب، حيث "أن وجه كل الطبقات وموقفها حيال الثورة... يحددها بصورة كلية مركزها في الاقتصاد الاجتماعي. لذا فان طبيعة الاقتصاد الاجتماعي لا تحدد خصوم الثورة ومهماتها فحسب بل تحدد القوى المحركة لها أيضا" . وهكذا يكون نضالنا النظري متعدد الأوجه في أشكاله لكنه يجب إن يحافظ على خيط ناظم هو بمثابة المعيار الحقيقي للانتماء إلى فكر الطبقة العاملة أي ضرورة حل كافة قضايا الثورة المغربية في المرحلة الراهنة. و هنا أيضا لا يجب أن نمهل هويتنا الأممية فيجب أن تكون في صلب اهتماماتنا النظرية والسياسية "فاهمية النظرية تكمن أيضا في أن الاشتراكية – الديمقراطية حركة أممية في جوهرها... إن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناضجة إلا إذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى و لبلوغ ذلك لا يكفي مجرد الاطلاع على هذه التجربة أو مجرد نسخ القرارات الأخيرة، إنما يتطلب هذا من المرء أن يمحص هذه التجربة وأن يتحقق منها بنفسه..." .
إننا لا نعتبر هذا العمل إلا مساهمة بسيطة نحاول من خلالها المزيد من نفض الغبار عن مهمتنا الجوهرية والأساسية التي يجب أن تشكل المدخل لمقاربة كافة الإشكالات النظرية والسياسية والتنظيمية والنضالية أيضا، أي مهمة بناء الاستقلال الفكري والسياسي والتنظيمي للطبقة العاملة. وإذا كنا نعتبر أن النضال / الصراع الإيديولوجي يشكل في الوقت الراهن و في ظل الظروف التي تجتازها الحملم و الظروف التي يعاني منها الشعب المغربي، الحلقة الأساسية لإنجاز هاته المهمة أو على الأقل المراكمة في اتجاه إنجازها فإننا نعلم أن هذه الدعوة وهذا العمل سوف يخلق في ظل هاته الظروف بالذات العديد من الترددات والهجمات والنزعات الداعية للايخاء "فينبغي إن لا نخشى من الصراع الفكري الداخلي، ما دام ضروريا، فنحن نزداد صلابة وثباتا في غمرته ونحن ملزمون بتوضيح خلافاتنا... ونحن ندعو الرفاق البلاشفة إلى الوضوح الفكري والى نبد جميع النمائم السرية أيا كان مصدرها. فهناك عدد لا يحصى من هواة الاستعاضة عن النضال الفكري في أهم المسائل الجدية بالمشاحنات الحقيرة المفعمة بروح المناشفة... فلا يجوز أن يكون لهم مكان في بيئة البلاشفة. يجب على العمال البلاشفة أن يردوا على هذه المحاولات ردا حازما وأن يطالبوا بأمر واحد : الوضوح الفكري، والآراء الواضحة، والخط المبدئي.
ففي ظل هذا الوضوح الفكري التام على وجه الضبط سيتمكن جميع البلاشفة من البروز على الصعيد التنظيمي موحدين، متراصين بقدر ما برزوا دائما..." .

انتهى
صقر الزروالي
2003/08/01








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جامعة كولومبيا الأميركية تهدّد ب«طرد» الطلاب الذين يحتلّون أ


.. دونالد ترامب يحمل نتنياهو مسؤولية هجمات 7 أكتوبر 2023| #مراس




.. ما تداعيات ومآلات تدخل شرطة نيويورك لفض اعتصام الطلاب داخل ج


.. مظاهرة لأهالي المحتجزين أمام مقر وزارة الدفاع بتل أبيب للمطا




.. الرئيس الأمريكي جو بايدن: سنعمل مع مصر وقطر لضمان التنفيذ ال