الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش أميركا اللاتينية

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2013 / 7 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


المتشائل هو توصيف الحالة التي تعتريني أمام الوضع الراهن في بر مصر، وإن تغلب المقطع الأول من اللفظ -الذي نحته الراحل إميل حبيبي- على مقطعه الثاني، وهذا الوضع ليس وليد اللحظة بل يعود إلى "غزوة الصناديق" في 19 مارس 2011 و التي شوهت مسار الثورة العظيمة التي قام بها المصريون في 25 يناير 2011، كدلالة على وعي جمعي عظيم بحتمية الخلاص من التسلط. كان نص ذلك الإعلان الدستوري والمناخ الذي أجري الإستفتاء عليه بداية لمسلسل سلبي لم نبرأ منه. كان خطأ ترتبت عليه مصائب وأصبحنا وسط حالة يأس تعتريها ومضات أمل. وكان ضروريًا "على مَن حضّر العفريب" باعداد بنود ذلك الإعلان الدستوري الذي أطلق عليه شيوخ التيار الإسلامي "موقعة الصناديق" أن يصرفه، بالطريقة نفسها التي جاء به إلى الساحة، وهو ما حدث في الثالث من الشهر الجاري.
كثر الجدل في الفترة الأخيرة حول ما إذا كان ما حدث في مصر يوم 3 يوليو الجاري كان إنقلابًا عسكريًا أم ثورة على حكم الإخوان تمثلت في التظاهرات المليونية التي ساندتها القوات المسلحة بعزل الرئيس الإسلاموي محمد مرسي. وكان الغرب، وعلى رأسه واشنطن، المصدر الأول لهذا الجدل من خلال مؤسساتها التنفيذية والإعلامية، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية تحولت بقدرة قادر إلى المدافع الأول عن الحريات والديمقراطية والرافض لأي شبهة إنقلاب، متصورة أن حوليات العالم المعاصر لا تئن بما ساندته من انقلابات دموية في أميركا اللاتينية قضت على مئات الآلاف من سكان تلك القارة لحماية مصالح شركاتها العملاقة والنخبة الاقتصادية والسياسية هناك. ويبرز الإنقلاب الذي قاده الجيش ومعه البرجوازية اليمينية في تشيلي في 11 سبتمبر 1973، بتخطيط أميركي في زمن نيكسون وهنري كيسنجر، أكثر هذه الإنقلابات بشاعة ودموية.
حملني الظرف الراهن في مصر إلى مراجعة بعض الأمور من التاريخ الحديث لقارة أميركا اللاتينية من نتاج أدبي ودراسات، إنتهت إلى مشاهدة شريط سينمائي أعود إليه كلما أردت أن أعيش نوبة حزن مصحوبة بشجن جراء الوجع الإنساني، إنه شريط "مفقود Missing "، إنتاج عام 1982. الشريط لكوستا غافراس وبطولة جاك ليمون، وقد حاز جائزة الأوسكار والسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.
الشريط يدور حول إختفاء شاب أميركي من أسرة برجوازية توفر له كل شيء لكنه آثر هو وزوجه، إنطلاقًا من مثالية اللحظة، العيش في تشيلي لفترة يساعد فيها أهلها فدخل في علاقات مع مثقفي اليسار في زمن الرئيس المنتخب سلفادر ألليندي الذي آثر أن يموت في القصر الرئاسي على يد جنود الجنرال أوغست بينوتشيت قائد الإنقلاب. كان هذا في عهد هنري كيسنجر الذي كان وراء كل مؤامرة إنقلابية تحدث في تلك الحقبة في العالم. يصور الشريط وقائع ذلك الإنقلاب من خلال تقنية استرجاع الأحداث، فلاش باك، بينما كان والد الشاب الأميركي وزوجه يجوبان الأمكنة المحتملة لاعتقاله منذ أن أخذه الإنقلابيون، بإيحاء من ضابط المخابرات الأميركي في السفارة، إلى ملعب كرة العاصمة سانتياغو وحملوا معه كتبه ودفتر يومياته.
مشاهد كثيرة من الشريط تحمل على التوقف لتأمل بشاعة الأحداث ودمويتها التي تنضح بها، حتى الكتب لم تبرأ من المصادرة والحرق على يد جنود الإنقلاب الذين لم يتورعوا عن ملاحقة حصان أبيض رائع الجمال، يبدو عربيًا أصيلاً، بالنيران، في وقت حظر التجوال. والرسالة تحمل المشاهد على الإقرار بأن الكتب، الثقافة، والحرية، الحصان، لم يبرآ من ملاحقة إنقلابيي واشنطن في زمن الحرب الباردة.
كانت صورة نيكسون تزين مكتب السفير الأميركي في تشيلي بينما الطائرات والسيارات العسكرية تطلق النار في أثناء حظر التجوال والدماء تغير لون الأسفلت، بينما ينتحب الأب، جاك ليمون، وهو يخبر السفير بأنه ابنه الوحيد، والجثث تقذف بها مياه النهر، وتحول ملعب الكرة إلى معسكر اعتقال لليساريين. المشاهد كلها كانت مأساوية، بينما السفير يرد على الأب: "إننا ندافع عن مصالح أميركا، مصالح أكثر من ثلاثة آلاف شركة أميركية تعمل في هذا البلد."
حملني هذا الشريط الأميركي إلى العودة إلى إحدى المراحل السوداء في تاريخ أميركا اللاتينية، مرحلة الحرب على الإشتراكية والشيوعية، على ما رآه العسكر والطبقة البرجوازية النافذة تخريبًا، ومن هنا كان التحالف المدني العسكري بين الطبقات المسيطرة على السلطة والقوات المسلحة، فتحولت الجيوش في تلك القارة إلى حزب سياسي للبرجوازية، ولم يكن الأمر لإعادة النخب القديمة إلى سدة السلطة. كانت طريقة لتأمين عملية جمع رؤوس الأموال ضمن نسخة جديدة من الرأسمالية العابرة للوطنية التي تقوم في جوهرها على تمزيق الأحزاب السياسية اليسارية، والنقابات العمالية والحركات الإجتماعية والبرجوازية القومية. هذا بالإضافة إلى كسر المواطنة الوليدة، وابعاد المواطنين عن السياسة وملاحقة النشطاء ومثقفي اليسار السياسي والإجتماعي. ومن هذا المنطلق شملت الحرب ملاحقة التنظيمات والتشكيلات الساسية ذات التوجه الماركسي والإشتراكي، ووصلت إلى حد التصفية وإنزال الهزيمة بكل ما تشتم فيه رائحة الإشتراكية. ومن أجل هذا اتخذ الأمن الوطني ذريعة وسهلت النظرية الفاشية والتبعية لجار الشمال المسار نحو تحقيق الهدف بأي ثمن بشري أو وطني.
تحولت القوات المسلحة في أميركا اللاتينية إلى فاعل رئيس، فاحتلت الفضاء السياسي الذي تنازلت لها عنه طواعيةً الطبقة البرجوازية المرتعشة التي كانت تفضل غسل يدها من أعمال القمع والتحول إلى الصف الخلفي، محتمية في القادة العسكريين، ولم تعر إهتمامًا للسبل التي سلكتها القوات المسلحة في التخلص من المعارضة اليسارية. كانت القوات المسلحة هي المؤسسة المناسبة للقيام بتلك العملية الجراحية، فبتنظيمها الهرمي استأثرت بالإحتكار الشرعي للعنف وتمتعت بالتفوق في سبل استخدام القوة.
حري بنا أن نذكر أن القوات المسلحة في تلك البلدان لم تتدخل بمبادرة أو قرار ذاتي، بل كان نزولاً على طلب الأحزاب المحافظة والليبرالية والمسيحية الديمقراطية. لم تنقلب على السلطة المدنية قط، بل كان على الحكومات الشعبية التي كانت تؤثر على مصالح البرجوازية والشركات المتعددة الجنسيات. وهناك مقولة شهيرة لبينوتشيت مفادها أنه لم تكن هناك مدد، بل أهداف. كان وزراء الإقتصاد والمالية والعمل والعدالة من بين المدنيين، إذ كانوا يتحكمون في خيوط التحولات الإقتصادية والإصلاحات الدستورية وسياسات التكيف مع الواقع الجديد.
وليس من الممكن فهم النظام السياسي في تلك القارة دون التعرف على الدور لعبه المدنيون في اعداد النظام الطبقي، إذ أن أعمال القمع والتعذيب والقتل الجماعي حظيت بتعاونهم. فكثير من عمليات الإغتيال على يد أجهزة الأمن والقوات المسلحة لآلاف المواطنين في هذه الدول فصلها رجال أعمال وقضاة وأساتذة جامعيون وزعماء نقابيون وموظفون ينتمون إلى اليمين والمنظمات المناهضة للشيوعية. إلا أن هؤلاء المدنيين نأوا بأنفسهم عن العسكريين في الفترة الإنتقالية التي تلت إنتهاء حكم العسكر وبدء العملية الديمقراطية التي تعثرت كثيرًا بسبب هذه الظروف الداخلية والخارجية. لعبت الكنيسة الكاثوليكية ورجال الأعمال في قطاع الإعلام دورًا بارزًا في الحصول على اعترفات المواطنين من خلال التعذيب والتغطية على أعمال التعذيب والقتل وكأنها لم تحدث أو تحويل الضحايا السياسيين إلى مجرمين ولصوص بموجب تقارير صحفية زائفة!!
بقدر قابلية التجارب البشرية للتكرار فإنها درس يعيه العقلاء كي يتفادون تكرار الردئ منها. وقد لا تتكرر بحذافيرها لكن استنساخ ضررها وارد من خلال أشكال وصيغ مختلفة. وما يحدث من حرب إستنزاف اليوم للقوات المسلحة بالهجوم على قادته وأكمنته في سيناء ومدن القناة لن يغير الوضع ولن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. كل ما هنالك أنه سيكون إنهاكًا لمؤسسة فاعلة، وربما جرجرتها إلى اتباع خطى قوات مسلحة في دول أخرى.
لا يمكن الإستهانة لما يحدث من مناوشات مع الجيش، وخطب حماسية، قد يراها البعض على أنها كلمات جوفاء، لكنها تحمل بذور الخطر والفتنة في داخلها. فبعد أن شاهد صحفي أجنبي، عاشق لمصر ومطلع على أمورها، خطبة الجمعة الماضية، 12 يوليو، التي نقلتها "الجزيرة"، أعرب عن انزعاجه وقال بعد لحظة صمت: "إنها الحرب C est la guerre!"، ماذا يريدون بهذا البلد؟! هل يعرفون معنى جر الجيش إلى حرب معهم؟!
مشكلتنا الكبرى تكمن في رفضنا إعمال العقل والحكمة في فهم العالم الذي نعيش فيه بمتغيراته، فما يحدث من تلاعب بالدين لا يتسق مع هذا العالم. وا استدعاء الماضي، على يد التيارات الإسلامية، لا يتماشى مع منطقه، والكل يعلم أن إجترارنا لماضٍ لم يكن ذهبيًا هو مضيعة للوقت وخروج عن الطبيعة ونهج التاريخ، إلا إذا كنا فعلاً نريد أن نصبح الهنود الحمر الجدد.
ما يحدث حرب استنزاف، استنزاف لقوى وطن، وليس لقوى دولتين متحاربتين. الجيش المصري المعاصر، منذ أن بناه محمد علي وفتح به مواقع مترامية في إفريقية وآسيا كانت ولا تزال لبناته من أبناء المصريين، من عرق ودم هذا الشعب: الفلاحون. ما يحدث لا يجب السماح به مهما كانت الأسباب، فأمن مصر أكبر من أي كرسي، ومن لا يعرف معنى الحروب الأهلية فليقرأ عن مآسي الشعوب التي عانتها في الشرق والغرب.
وعلى أصحاب الإسلام السياسي أن يعوا أنهم يلعبون خارج التاريخ، فقد نشأ هذا التيار كواحدة من نتائج الحرب الباردة وفشل المشروع القومي بدءًا بالنكسة وما تلاها من مصائب قومية ووطنية من انفتاح ووفرة نفطية. لا يدخل في رأس عاقل هذا السقوط المدوي لهم بعد سنة من تولي رئاسة، إلا أن المتابع يدرك أنهم لم يخسروا جزءًا كبيرًا من شعبيتهم فقط، بل خسروا مؤسسات الدولة، وعلى وجه الخصوص الأزهر والكنيسة والسلفية، ثم كالوا الإهانة لمؤسسات عدة كالجيش والشرطة والقضاء والإعلام، وهم يعلمون أن كثيرين يتربصون بهم.
ما من وطني اتفق مع الإخوان المسلمين في الإهانات التي كالوها للجيش في الفترة الأخيرة في تصريحات على لسان بعض قادتهم، وهذا أمر لا يحتمل في ذكرى النكسة التي تؤلم كل مصري باستثناء البعض، أصحاب التيار الإسلامي، وتواترت إلى الأذهان مواقف مؤلمة لبعضهم ولعل البعض يذكر ردة فعل الشيخ الشعراوي عندما صلى ركعتين شكرًا لله على هزيمة يونيو 1967، وكأنه لا عربيًا ومسلمًا.
الأزمة التي يعيشها البلد في الوقت الراهن ليست عابرة كما يتصور البعض، ولهذا فإنها تستدعي شجاعة وحسمًا بدستور يفصل بين الدين والدولة وقوانين، تحول دون السماح للأحزاب الدينية بتداول العمل السياسي. لا للمزايدة على روحانيات شعب بحث عن الخالق منذ فجر التاريخ، ويعد من أكثر شعوب العالم تدينًا، وهذا التدين هو الذي حماه من الإقتتال في الشارع، فيكفي المصري أن يقول لآخر "كفاية كده. حرام!!" عندما يراه يتمادى في ارتكاب خطأ. عليهم أن يدركوا أن مصلحة البلد فوق الجميع، وأن الاحتكام إلى الشعب مجددًا هو الحل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشييع الرئيس ابراهيم رئيسي بعد مقتله في حادث تحطم مروحية | ا


.. الضفة الغربية تشتعل.. مقتل 7 فلسطينيين بنيران الجيش الإسرائي




.. هل ستتمكن إيران من ملئ الفراغ الرئاسي ؟ وما هي توجهاتها بعد


.. إل جي إلكترونيكس تطلق حملة Life’s Good لتقديم أجهزة عصرية في




.. ما -إعلان نيروبي-؟ وهل يحل أزمة السودان؟