الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أين لك هذا ..؟

جاسم المطير

2013 / 7 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


من أين لك هذا ..؟
جاسم المطير
بعجالة ٍ أحيانا ومتسرعاً في أحيان ٍ أخرى ، كان زعيم ثورة 14 تموز 1958 يجول ، متنقلا ً، في محاولاته لصنع دور تاريخي للعراقيين في مختلف ميادين الحياة لإذكاء وعي الشعب ومقاومة كل الأفكار المعادية لمصلحة فقرائه خصوصا . كان منها رسالته في تقوية وعي الموظفين العراقيين والشعب كله بموضوعة اسمها (النزاهة) كوسيلة لخلق إنسان عراقي أوعى وأجمل، لتحقيق حياة أفضل.
في مقالتي هذه أجول حول لؤلؤة مضيئة للتوعية ارتبطت بالثورة وبقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم كان عنوانها كبيراً موجهاً لكل (موظف ٍ كبير ٍ) في مناصب الدولة. أطلق أمام الجميع سؤالاً يمثل جوابه مفتاحا نحو طريق النزاهة. السؤال كان يتكون من بضع كلمات : من أين لك هذا..؟
ليس من الصعب على أي مراقب معرفة تفاصيل اللبس الحاصل في العراق عن ظاهرة انفصال الموظف الحكومي عن طبيعة (النزاهة) وعن احتمال سقوطه في مستنقع الفساد المالي على اعتبار ذاك (الانفصال) وهذا ( السقوط) اعتبار ظاهرة ملازمة من ظواهر حب الفرد للمال ، سواء كان الفرد متدينا أو غير متدين. في بلادنا نشاهد هذه الظاهرة، اليوم ، غير معزولة عن بعض قادة وأعضاء أحزاب (الإسلام السياسي) في إيران ولبنان وتركيا وماليزيا وتونس وليبيا ومصر حيث تتعالى فيها أصوات (تثوير..!) شعارات أحزابهم الإسلامية ، كما ظهرت نفس الأصوات بصورة واسعة صحبة تأسيس مثل هذه الأحزاب في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ونشوء (الحزبية الدينية) و(الحزبية المذهبية) على نطاق واسع. الملاحظ ، أيضاً، أنه قد ظهرت إدانة واتهام العديد من (الإسلاميين العراقيين ) خلال السنوات العشر الماضية، بنهب المال العام. الأمثلة بشأن هذه الاتهامات والإدانة كثيرة ، يمكن الإشارة ، هنا ، إلى بعضها ، مثل الاتهام الموجه إلى حامل لقب خبير المرجعية الشيعية الدكتور علي الدباغ، وإلى دعاة إسلاميين آخرين مثل عادل محسن المفتش العام في وزارة الصحة، والموظفة المعلنة عن تدينها في أمانة العاصمة (زينة) ،والوزير الإسلامي فلاح السوداني ووزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي ووزير الدفاع الأسبق ومئات غيرهم من بعض أعضاء مجلس النواب وكبار موظفي الدولة، الذين تركوا آثار أيديهم وإقدامهم في كثبان الفساد المالي والإداري . كما تضم قوائم (هيئة النزاهة ) أسماء الكثير من الناشطين من الذين استيقظوا، في هذا الزمان ، على أحلام الإسلام السياسي وبعض أحزابه ليتغلغل في دمائهم اندفاع مزدحم للإثراء السريع ، مما أكد حقيقة أنه لا يوجد في كثير من الحالات تناقض بين الإدعاء بالتدين وبعض أصحاب أخلاق الفساد المالي. كذلك كانت القناعة بالفساد المالي لدى المتدينين المسيحيين قد ترسخت ، أيضاً، في العام الماضي حين انكشفت فضيحة مالية في المرجعية المالية بالفاتيكان بعد أن اعتقلت السلطات الإيطالية الأسقف البارز نونزيو سكارانو في إطار تحقيق في شأن مزاعم فساد مالي في (بنك الفاتيكان) بقيمة 26 مليون دولار بالإضافة إلى اعتقال اثنين آخرين أحدهما جيوفاني ماريا زيتو وهو عنصر بجهاز الخدمة السرية في دولة الفاتيكان الدينية ، والآخر جيوفاني كارينزيو المتخصص بالأمور المالية للمرجعية الدينية المسيحية العالمية. كما انكشفت فضائح الرشاوى في الدولة اليهودية (إسرائيل). بينما نرى واضحا أن الدول الأوربية – العلمانية لا تشهد فضائح لنهب المال العام حتى بوجود الفاسدين في بعض مفاصل الدولة الرئيسية كما في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

من يطلع ، في هذه الأيام ، على ما تنشره وتتحدث بهم منظمات الشفافية العامية والمحلية عن (المرض المخفي) في جسد الدولة العراقية خلال فترة ما بعد نيسان 2003 هو تشخيص (الفساد المالي) في بلادنا بنسب هائلة جعلت من العراق الدولة الأكثر فساداً في العالم المعاصر.. وقد أصبحت وقائع وإحصائيات (الفساد) تحتل صفحات موسوعة عراقية ضخمة تتعلق بجميع جوانب الاقتصاد الوطني، التي تشمل ذخيرتها مقاولات البناء والعقود المحلية والأجنبية وظروف الاستثمار وما يسمى بالأعمار وغيرها من مجالات العمل الحكومي . هذه الفعاليات المالية الفاسدة حققت أرقاما بمليارات الدولارات لصالح أفراد وشركات، داخل العراق وخارجه، نتج منها ضرر كبير لاقتصاد البلاد جعل الدولة العراقية في حالة عجز تام أمام القدرة على مجابهة هذا المرض الخطير ، كما جعلت القضاء العراقي عاجزا عن كشف الوسائل السرية التي يعتمدها الفاسدون في إخفاء وسائلهم الذكية بارتداء أشكال متعددة من أقنعة التمويه على الجرائم المالية مما أنتج روايات غريبة وعجيبة في نهب المال العام وتهريبه إلى خارج البلاد.
لا بد هنا من القول أن مساحات الصمت الشعبي العراقي اتسعت حيال الفساد المالي منذ سقوط النظام الملكي ومنذ إسقاط دولة ثورة 14 تموز في 8 شباط عام 1963 حتى صارت بالوقت الحالي تميد بالكثير من التشاؤم واليأس وعدم القدرة على الإصلاح .
كثيرة هي الكتب والمقالات والدراسات التي تناولت الجوانب الدلالية في ملامح وآثار ثورة 14 تموز 1958.. بعض تلك الكتابات جاس مجاهل الثورة وبعض انجازات قوانينها وإجراءاتها الثورية لكن بالتأكيد فأن الرؤية في الدراسة والبحث والنقد لم تكن كافية أو متوازنة بصورة عامة لأنها لم تشتمل جميع جوانب الثورة ولا ظواهرها، السياسية والاجتماعية، ولا حتى أجزاء من نشاطها ، النفسي والذهني، الرامي لإصلاح النشاط الإنساني في المجتمع العراقي. ذلك كله جعل الحاجة ماسة إلى مزيد من الدراسات والأبحاث القادرة على تقديم نظرات متكاملة عن الإجراءات والخطوات التي عبرت فيها الثورة سنوات عمرها عبر مسالك وعرة جعلت سياقات الباحثين في شئونها بمساحات دلالية ضيقة، لحد الآن، حتى الباحثين من الناقدين للثورة وزعمائها وأحزابها ،خاصة من مؤيدي منهج القومية الناصرية أو منهج القومية – البعثية وغيرهم من نقاد الثورة أو أعدائها، لم يحللوا محاورها وخصائصها ولم يبلغ أي منهم مرتبة نقدية على أسس علمية وكانت غالبية انتقادهم ليست شاملة ولا وفقا لما تتطلبه المناهج العلمية في البحث داخل الدائرة الدلالية في الثورة .
يوم الرابع عشر من تموز عام 1958 ليس يوما عاديا في التاريخ العراقي فلقد أعلنت فيه الثورة ضد النظام القديم، الذي سقط بضربة واحدة، خلال ساعة واحدة، وقد اتجهت أنظار أبناء الشعب العراقي في ذلك اليوم إلى زعيم الثورة عبد الكريم قاسم، الذي وعد في بيانه الأول والبيانات اللاحقة أنه سيخرج العراق من الحياة اللاإنسانية التي يحياها الفقراء إلى حياة إنسانية جديدة. وقد رسمت صورة هذا التغيير خلال عمر الثورة القصير في عدد من القوانين والإجراءات، منها مثلا : قانون الإصلاح الزراعي وقانون مجلس الأعمار ووزارة الأعمار و قانون تنظيم إدارة الأموال المحجوزة بسبب إجراءات نظام الحكم ، وبيان رقم 1 بشان قسمة الحاصلات بين الفلاح والملاك ،و قانون تعديل قانون لجنة تنظيم تجارة الحبوب، وقانون تعديل قانون مصلحة مصافي النفط الحكومية، وقانون تطهير الجهاز الحكومي، وقانون تطهير الجهاز القضائي، وتشريع الدستور المؤقت وغيرها من القوانين والإجراءات لتحقيق وضع البنى التحتية لتصنيع البلاد وتحريره من قبضة الارتباط بمنطقة الإسترليني ثم تحقيق هدف الثروة البترولية بالقانون الشهير رقم 80 .
كثيرة هي القوانين والمنجزات التي بزغت تحت قيادة عبد الكريم قاسم الذي كان يتطلع منذ أول يوم من قيام الثورة إلى تغيير حياة الناس الفقراء ومحاولة أن تكون الثورة أداة، ليس فقط لتغيير الطبيعة السياسية والاقتصادية للمجتمع العراقي، بل العمل على تحسين النسل الأخلاقي لموظفي الدولة، الكبار منهم على وجه الخصوص، معتمدا في ذلك على أن تكون الدولة الثورية الجديدة قادرة على التخلص من كل شكل من أشكال ( الفساد المالي والإداري ) بهدف أخلاقي أراد تحقيقه بشكل قانوني موجه لتطويق الموظفين المصابين بمرض استغلال مكانتهم ووجودهم في مناصب الدولة للإثراء غير المشروع ،عن طريق الرشاوى وفساد الذمم. وقد كان الزعيم عبد الكريم قاسم يفكر أساسا ليس بالمعالجة (الفردية) وإنما بالمعالجة (الجماعية) أي بالمشاركة الجماعية بين الموظف والدولة ،عن طريق اعتماد أسلوب ملائم ومناسب للحد من مخاطر الفساد المالي والتلاعب بأموال الدولة ونهبها باليات سرية من قبل كبار موظفي الدولة، وقد هيأ قانوناً تحت عنوان: ( من أين لك هذا ..؟ ) وقد صيغت مواد هذا القانون ليثير أمام الدولة والمجتمع أسئلة كثيرة تتعلق بالجوانب المالية والأخلاقية والشرعية والاجتماعية المتعلقة بواقع ملكية موظفي الدولة العراقية الجديدة والنتائج السلبية المتعلقة بأخلاقيات المجتمع العراقي وذلك عن طريق إلزام موظفي الدولة بتقديم معلومات شفافة عن أموال كل موظف وملكياته العقارية وغيرها، جاعلا من قانون ( من أين لك هذا..؟) حقا للدولة على موظفيها . فقد جاء في القانون : ( انه بعد الاطلاع على الدستور المؤقت وبناء على ما عرضه رئيس الوزراء ووافق عليه مجلس الوزراء صدق قانون من أين لك هذا بشأن الكسب المشروع على حساب الشعب).
أجبر القانون في مادته الأولى رؤساء الوزارات والوزراء والحكام والقضاة وضباط القوات المسلحة والشرطة ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصالح العامة والمؤسسات والمصارف والشركات الرسمية وعلى أعضاء مجلس الأمة وأعضاء المجالس البلدية والإدارية وأمين وأعضاء أمانة العاصمة وعلى كل موظف وعلى المستخدمين الذين يصدر بتحديد فئاتهم أو أصنافهم قرار من مجلس الوزراء وعلى كل شخص مكلف بخدمة عامة بصفة دائمة أو مؤقتة أن يقدم خلال شهرين من تاريخ تعيينه أو انتخابه إقرارا عن ذمته المالية وذمة زوجته وأولاده القصر في هذا التاريخ يتضمن بيان ما له من أموال منقولة وغير منقولة وعلى الأخص الأسهم والسندات والحصص في الشركات وعقود التأمين والنقود والحلي والمعادن والأحجار الثمينة وما له من استحقاق في الوقف وما عليه من التزامات.
يتضح من جميع مبادئ هذا القانون انه يمتاز بالقدرة على معرفة تفاصيل الملكية المالية والعقارية وغيرها في مرحلة البدء بتوظيف أو انتخاب أي مسئول في الدولة هو وعائلته المباشرة .
حاول الزعيم عبد الكريم قاسم أن يجعل قانون ( من أين لك هذا..) شاملا عمل الموظفين العراقيين قبل الثورة وبعدها اعتقادا منه أن بإمكان هذا القانون وإجراءاته العملية في جعل ارض الدولة العراقية طهورة من الفساد وكشف جميع ما يمور به جوفها من فساد سابق أو لاحق لتكون بيئة الوظيفة نظيفة، حقاً وفعلاً، وهو ما عجز عنه النظام الملكي السابق حيث كانت لوثة الفساد قد مست الكثير من الموظفين المتفننين بهذا الداء لذلك ، وقد وجد الحاجة لتطبيق القانون التوجه إلى ما يلي في بعض فقراته :
1- يسري قانون (من أين لك هذا..) على من تقدم ذكرهم وعلى موظفي البلاط المالكي السابق والخزينة الخاصة الموجودين في الخدمة وقت العمل بهذا القانون أو الذين يكون قد تركوها بعد أول أيلول سنة 1939..
2- يقدم إقرار الذمة المالية من قبل الموجودين بالخدمة أو ممن تركوها خلال شهرين من تاريخ العمل بقانون( من أين لك هذا..) متضمنا بيانا بذمتهم المالية على الوجه المتقدم في أول أيلول سنة 1939 أو عند دخول الخدمة إذا كان لاحقا لهذا التاريخ ثم بيانا بذمتهم المالية في تاريخ العمل بهذا القانون أو في تاريخ ترك الخدمة وإذا كانت الخدمة متقطعة وجب أن يكون الإقرار عن كل فترة على حدة .
3- نص القانون أيضا أن على كل من يشمله حكم مواد القانون أن يقدم ، أيضا، خلال ستين يوما من تاريخ ترك الوظيفة أو الخدمة أو زوال الصفة النيابية إقراراً عن ذمته المالية وذمة زوجته وأولاده القصر في هذا التاريخ على الوجه المعين في قانون (من أين لك هذا)..
لقد انتشرت في مواد هذا القانون صور الكثير من أساليب الفاسدين لكي تساعد في استجلاء ما يحيط بها من وسائل تخفي الفاسد وعمله. ففي المادة الرابعة من القانون تم الإشارة إلى تعريف معنى الكسب غير المشروع على حساب الشعب وذلك كما يلي:
أولا : كل مال حصل عليه أي موظف حكومي أو وزير أو نائب برلماني بسبب أعمال أو نفوذ أو ظروف وظيفته أو مركزه أو بسبب استغلال شيء من ذلك .
ثانيا : كل مال حصل عليه أي شخص طبيعي أو معنوي عن طريق تعاونه مع أي شخص من موظفي الدولة .
ثالثا : كل مال يورده شخص من الأشخاص المشمولين بقانون ( من أين لك هذا..) بإقرار مقدم منه أو أورده ولم يثبت مصدرا مشروعا وكل زيادة ترد في إقراراته التالية للإقرار الأول يعجز عن إثبات مصدرها المشروع وعلى العموم فقد اعتبر هذا القانون كسبا غير مشروع أموال كل شخص مكلف بتقديم الإقرار ولم يقدمه ما لم يثبت حصوله عليه بالطرق المشروعة .
لا ادري هل استفادت هيئة النزاهة العراقية من الإطار النوعي لهذه النقاط الثلاثة أو من الصفة النوعية لـ(قانون من اين لك هذا ..؟) بعد أن تشكلت هذه الهيئة حال سقوط نظام صدام حسين المليء بالفساد الإداري والمالي، الذي انتقلت ممارساته النصية إلى الكثير من الموظفين والقادة السياسيين والبرلمانيين خلال السنوات العشر الماضية بأساليب متجددة ، خفية وذكية . تـُرى هل استطاعت هيئة النزاهة دراسة إشكاليات تعامل الموظفين الكبار على ضوء تجارب عراقية سابقة وتجارب عالمية كثيرة..؟
من الواضح للجميع في العراق الجديد أن آلاف الموظفين، الكبار والصغار، في الدولة العراقية وبعض قادتها السياسيين - وهم أقلية سياسية – أصبحوا ، الآن ، في عداد الرأسماليين الكبار وغالبيتهم يرفضون تقديم إقرار الذمة المالية فقد نشر أن عدد النواب الذين قدموا إقرارا بالذمة المالية لم يزد على 110 نائبا من مجموع 325 نائبا. كما أن عدد الوزراء الذين قدموا بيان الذمة المالية لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ، مما يجعل أبناء الشعب والصحفيين عموما أمام مهمة طرح أسئلة حادة عن تقصيرٍ وإهمالٍ متعمد في إبقاء ذمم موظفي الدولة بوضعية التستر عن مصادر إثرائهم السريع بأسوأ مما كان عليه الحال في زمن صدام حسين . بل يمكن رؤية التوسع الحاد والمتسرع في مالية كثير من قادة الدولة ومنهم من كان يعيش قبل عام 2003 على مساعدات بلديات دول اللجوء في أوربا وأمريكا بينما هم ، الآن ، يملكون العقارات في العراق إضافة إلى تملكهم أسهم شركات المقاولات والقنوات الفضائية، التي بمجملها تدر مصادر كسب ليست مشروعة تزيد أرصدتهم في البنوك الأجنبية .
ما تجسده الصورة الساخرة التي بدأها كثير من قادة الدولة العراقية الجديدة أنهم عبروا عن رغبتهم في التحول السريع ، من حالة معيشية معتدلة إلى حالة الثراء غير المشروع ، حين سيطروا بسرعة على قصور وعقارات قادة النظام البائد مبرهنين أنهم يريدون أن يعيشوا حياتهم الخاصة كما عاشها صدام حسين ومعاونيه. بل الأكثر من هذا أنهم راحوا يبحثون عن مغانم أخرى في بغداد والمحافظات لامتلاك قطع الأراضي السكنية المتميزة والمتاجرة بها أو بيعها بأسعار خيالية من دون رؤية الناس ، من الرجال والنساء الفقراء والفقيرات ، الذين يجهشون بالبكاء أمام شاشات التلفزيون وهم بالملايين من سكان المناطق العشوائية المليئة بالمزابل والمستنقعات، يرفعون أصواتهم التلفزيونية بالعويل مناشدين الحكومة وقادة الدولة بإنصافهم عن طريق إسعافهم بالسكن الإنساني اللائق والخلاص من السكن الحيواني المخالف لقوانين الحياة والضمير والأخلاق.
كثير من القادة الجدد الراكضين وراء الإثراء السريع يعلنون تمسكهم بالأمور الفقهية الإسلامية لكنهم لا يشعرون أن مواقف وسياسة إهمال مطالب الفقراء من أبناء الشعب هو شكل من أشكال الاعتداء على كرامة الإنسان العراقي.
لقد كان الزعيم عبد الكريم قاسم أول حاكم عراقي يقدم نموذجا أخلاقيا وطنيا كي يبرأ نفسه من كل شكل من أشكال الركض وراء حب المال، بل نراه منذ أول صعوده إلى السلطة يبتكر أعمالا ً ذات صبات معنوية مضيفا نموذجا فذا إلى الأخلاقية العراقية وذلك من خلال ما يلي :
1- تبرع الزعيم / عبد الكريم قاسم بقطعة الأرض الوحيدة التي ورثها عن أمه في بلدة الصويرة، الى وزارة التربية لبناء مدرسة ثانوية للبنات، اللواتي كن يتجشمن عناء السفر إلى مدينة الكوت البعيدة للدراسة الثانوية، مما دفع أهاليهن لمنعهن من مواصلة التعليم، وببناء هذه المدرسة سهلت عملية متابعة هؤلاء البنات لدراستهن الثانوية، وتعد بناية المدرسة التي حملت اسم (ثانوية 14 تموز للبنات) نموذجا لعمارة الستينات، والحق بها سكن داخلي ومكتبة عامة تصل إليها طالبات الثانوية عبر نفق يمر تحت الشارع، حتى يطالعن الكتب ليلا من غير الحاجة إلى الخروج من السكن أو المدرسة، حيث كانت الأعراف الاجتماعية مشددة في بلدة ريفية مثل الصويرة.
2- ارتضى لنفسه كقائد شعبي محب لوطنه أن يعيش عيشة بسيطة مساوية لعيشة الناس الفقراء فقد اكتفى بالنوم على أرضية مكتبه بوزارة الدفاع أي انه لم يتملك قصرا من القصور الملكية ،بل قرر إعادتها الى الدولة . كما انه اكتفى بغذاء بسيط ينقل إليه من بيت عائلته ب(سفرطاس) صغير. ظل موافقا على العيش في بيت بسيط يدفع إيجاره من راتبه كل شهر. لم يملك غير بدلتين عسكريتين يتناوب على ارتدائهما.
3- أصر على رفض كل اقتراحات مساعديه بتخصيص حماية عسكرية مبالغ فيها عند تنقله من بيته إلى مقر عمله اليومي في وزارة الدفاع رغم التهديدات الكثيرة التي كانت تذيعها وتحرض عليها بعض الإذاعات والتلفزيونات العربية المعادية له ولنظام حكمه، التي كانت تحرض حزب البعث وبعض حلفائه على اغتياله . كان يكتفي بمصاحبة جندي واحد لحمايته في أثناء جواله في مناطق العاصمة وشوارعها.
لم يسلك الزعيم عبد الكريم قاسم طيلة وجوده على رأس السلطة أي سلوك منفصل عن الاعتبارات الشعبية ولم يسافر إلى أية دولة أجنبية بسبب شعوره المكرس لمحاربة الأمراض الاجتماعية الخطيرة ( الفقر والجهل والمرض). وقد عظمت انجازاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال مدة تزيد قليلا على الأربع سنوات كل ما أنجزته الأنظمة الحكومية السابقة واللاحقة كما ان التاريخ المتعلق بثورة 14 تموز.
تحت ظل حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم لم تشهد البلاد أية واقعة من وقائع الفساد المالي بسبب تحصينه الدولة العراقية بالكثير من الإجراءات والضروريات الرقابية والحاجات الإدارية مما أدى إلى تحقيق تقدم نسبي في حياة الناس الفقراء جعل نظامه متميزا ، حتى الآن ، عما سبقه وعما لحقه من حكومات وأنظمة. وقد ظلت الكفاءات العلمية الحقيقية ( الموظفون في دوائر الدولة وأساتذة الجامعة) والكفاءات الجمالية ( المثقفون) أيضا منفصلة تماما عن هياكل وأساليب الفساد المالي .

ترى هل من الممكن مقارنة العمر القصير لحكم عبد الكريم قاسم الذي لم يستمتع وجوده الحر بالعمر الطويل للنظام العراقي الجديد الذي لا يتحفظ قادته وفقهاؤه من الإدعاء بأنه مبني ومشاد على أسس ( الحرية والديمقراطية)..؟.
لا بد من التذكير ، أيضاً ، أن درء الفساد المالي والإداري يتطلب أحكاماً ووسائل من أولى قواعدها أن يكون (الحاكم) مؤهلا وأن يكون نموذجا في الإخلاص، والتفاني، والنزاهة، والتواضع، وأن يكافح لمنع أصحابه وأقربائه من السيطرة على أموال الدولة ومصالح الشعب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 10 – 7 – 2013
نقلا عن جريدة طريق الشعب عدد 15 تموز 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تتهم أوكرانيا.. هل قدمت الدعم للتنظيمات المسلحة في سور


.. جدل في إسرائيل بعد انتقاد المتحدث باسم الجيش قانونا صدق عليه




.. قوات المعارضة السورية تقترب من تطويق مدينة حماة شرقا وغربا


.. شاهد| لقاء شقيقين سوريين بعد فراق 8 سنوات في حلب




.. أكثر من 17 شهيدا إثر قصف الاحتلال مواصي خان يونس جنوب قطاع غ