الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحداث من الماضي الأليم .... محفورة في الذاكرة

يحيى غازي الأميري

2005 / 5 / 7
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ما انفكيت من مطالعة كتاب* يتحدث عن( حركة حسن السريع )وما تضمنه الكتاب من شرح وتوضيح لأحداث مرت بالعراق
خلال فترة انقلاب 8شباط الأسود عام 1963 حتى هاجمتني على الفور تلك الصورة المفزعة ...... التي رافقتني طوال هذه السنين التي مرت .. أغمضت عيني انهالت آلاف الصور أبت الذاكرة أن تسقطها من حافضتها ،
بدأت الصورة تتضح أمامي ......أبي متورم الوجه .... متحجر الدمع بمقلتيه .....أمي تولول !

لبست ملابس القطب الجليدي وخرجت وسط الثلج والبرد ... سالكا ً طريقا ً يقودني إلى مقبرة كبيرة تقع على مقربة خطوات
من سكني ... رحت أحث الخطى وصلت إحدى أبواب المقبرة اندلفت فيها المقبرة كبيرة جدا ً شوارعها عريضة تحيطها
من الجانبين أشجار متناسقة عالية ..... المقبرة جميلة الهندسة ، كثيرة الزهور ، رخامية الشواخص ، رحت أسرع الخطى ،
دمعت عيناي من الحزن والبرد ! جففت دموعي بدأت تذرف أكثر لا تريد أن تكف أطلقت لها العنان لعلي اخرج شيء من هذا
الحزن الذي يأسرني !
آه يا عيناي إلى متى تذرفين الدموع .... يكاد الصوت يخرج من حنجرتي ..... متوسلا ً أليها أن لا تكف من الجريان ! لعل هذا
يزيل شيئا ً بسيطا ً من الحزن والكآبة التي حطت علي ّ هذا المساء .
بدأ الظلام يهبط مخيم على المقبرة ، الضوء بدأ ينسحب متلاشيا ً ، توقفت عن السير قرب بناية كبيرة وسط المقبرة ، محاورا
نفسي ، هل استمر وسط هذا الظلام والدموع !! أغمضت عيناي ورحت أتنفس بعمق.
أحسست أن نفسي بدأت تهدأ رويدا ً رويدا رفعت ذراعي ّ إلى الله وبصوت تخالطه الدموع والآهات قرأت سورة الفاتـحـــــة
(بالمندائية ) إلى
روح أبي وأحبتي وكل الموتى المحبين للخير والصادقين الطاهرين وتوسلت إلى الله أن يلتفت بعطفه ورأفته وشفقته إلي
المظلومين والمساكين والضعفاء وأن يصب غضبه على رؤوس الأنذال والمارقين والقتلة والمستبدين والسراق وجامعي
المال الحرام و الانتهازيين و الكذابين و على كل المتسترين بأسمه ويعملون عكس ما يقولون !

وعدت أدراج طريقي كي أخط هذه السطور .

الأخبار تتناقل بسرعة ، اختلطت الشائعات بالحقائق ، تضاربت الأنباء حول الزعيم ، ممنوع التجول في بغداد ، المقاومة
عنيفة وقوية في الكاظمية ، أهالي الثورة مع الزعيم ، أصوات الرصاص تسمع متقطعة طوال الليل ، البعثيون هم نفسهم
الحرس القومي ، جميعهم يحملون رشاشات بور سعيد يجوبون الشوارع ويداهمون البيوت، الحزن والقلق يخيم على الناس

بعد عدة أيام من انقلاب 8 شباط اللعين بدأت الناس تذهب إلى مزاولة أعمالها في محلاتها ومتاجرها إذ بدأت الأسواق
تمارس نشاطها التجاري لكن بحذر وريبة وخوف !!
كنا نسمع بالبيت أن الحرس القومي يسجنون ويقتلون ويضربون الناس جميعا ً بدون رحمة وبدون ذنب !! ........ ذهب أبى
ليزاول عمله اليومي بعد أن ودعته أمي بدعواتها و تبريكاتها أن يحفظه الله ويرزقه ويعود لبيته سالما ً........ قبل الغروب
طرق متواصل على الباب هرعت أمي فتحت الباب .....أبى متورم الوجه ، زائغ العينين ، ملابسه توحي انه تعرض إلى شيء
كبير من العنف..... دخل البيت وهو ينقل خطواته بصعوبة .... راحت أمي تمطره بوابل من الأسئلة أبى لا يجيب !
تسمرت عيوني وعيون اخوتي إلى وجهه المتورم ... سار بخطوات قصيرة وبطيئة حتى دخل غرفته . كانت تفصل بين الباب
الرئيسي وغرف البيت مسافة ليست بالقصيرة فهي عبارة عن دربونة صغيرة حتى تدخل باحة البيت التي تتقابل فيها نخلتان
باسقتان، وتطل على الباحة الغرف بأبوابها وشبابيكها .

لم نعتد على مثل هذا المنظر لأبي ..... كان أبى طويل القامة ، ملابسه نظيفة مرتبة ، جميل الوجه ، باسم الثغر ، له عينان
كبيرتان ترسل أشعتها فنحس من خلالها بالدفء و الآمان .
دخل أبي غرفته ، أمي أدخلتنا غرفتنا وتحدثت بعصبية معنا ، وتركتنا وذهبت للغرفة التي دخلها أبى .... بعد فترة قصيرة
جاء أبى وتتبعه أمي ليجلس معنا .... جلسنا جميعنا ً حول مدفأة نفطية ...... جميعنا صامتين ..... أمي تقطع سكون الصمت
بالولولة والنحيب المتقطع .... أبى هالة زرقاء تحيط بعينيه .... شفتاه متورمتان.... عيناه الكبيرتان العسليتان مفتوحتان وقد
تحجرت فيا الدموع !!!
بين حين و أخر تذهب أمي إلى المطبخ هناك كان يعلو صوت بكاء ونحيب .... لم نكن نعرف تفاصيل ما حدث لأبى .
كان أبى يتحدث بصوت منخفض ((إحدى سيطرات الحرس القومي )) ((سيطر اتهم في كل مكان )) ((كلاب ليس بشر ))
((لا ذنب عندي )) ((لم يدعوني أتكلم )) ((ضربوني كثيرا ً )) ((احتجزوني من الصباح حتى الغروب مع العشرات بعد أن
أنزلوني من سيارة الأجرة ، قذفونا بكل أنواع الشتائم والسباب)) (( أخذوا كل ذهبي الذي احمله معي ))
بقينا تلك الليلة متحلقين حول المدفأة وعيوننا باكية وقلوبنا يملؤها الحزن والخوف والرعب ....بقينا هكذا حتى غلبنا النوم .

وفي الصباح شاهدت أبى يقف منتصب القامة ، بملابسه الدينية البيضاء ، ووجهه تعلوه إشراقته المعهودة ، وهو متوجه ٌ
إلى الشمال ، ويداه إلى الأعلى ، حافي القدمين ، الماء ينسكب بكل قوته من الحنفية أمامه .........وهو يردد دعاء بكلمات
مندائية كنت أحفظ معظمها لكن لا افهمها ..... راحت صلواته تملأ الدار اختلطت ، تداخلت مع زقزقة العصافير وهدير الحمام
على النخيل وخرير الماء .
يحيى غازي الأميري
مالمو السويد / في آذار ....2005

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب : البير ّية المسلحة ( حركة حسن السريع وقطار الموت عام 1963 ) ... تأليف الدكتور علي كريم سعيد
المقبرة : تقع في مدينة مالمو أسمها (أوسترا شيرك كوردن )
البيت : كان بيتنا يقع في مدينة بغداد ( حي الوشاش ) سمي بعدها (حي المعري ) ...كنت في سن العاشرة آنذاك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غانتس يستقيل من مجلس الحرب الإسرائيلي ويطالب بانتخابات مبكرة


.. بعد الهزيمة الأوروبية.. ماكرون يحل البرلمان ويدعو لانتخابات




.. تباين المواقف حول مشروع قانون القتل الرحيم للكلاب الضالة في


.. استشهاد فتى برصاص الاحتلال في مخيم الفارعة بطوباس




.. ما تداعيات استقالة غانتس على المشهد السياسي بإسرائيل؟