الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرحله الى الظلمة الكليه في النفس البشريه

السندباد البصري

2013 / 7 / 17
الادب والفن


صدرت «قلب الظلمة» عام 1899 أي قبل عام واحد على بداية القرن العشرين، وهي قصة مارلو، قبطان مركب بخاري مرسل من قبل شركته للتفتيش عن كورتز احد موظفيها الذي انقطعت اخباره في الأدغال. المركب مبحر عكس تيار النهر، يتعرض لمشكلات كثيرة ليس اقلها تصاعد الرعب مما تحفل به الأدغال المحيطة. في تلك الأثناء حوّل كورتز نفسه الى «معبود» لدى احدى القبائل بعدما أذهلها بتقنيات الغرب المستحدثة. لكن بدلاً من ترويج تلك التقنيات تراه اعتنق معتقدات القبيلة وتبوأ مركز قيادتها، ويستعمل كونراد ثلاثة مفاتيح دلالية منذ البداية لتصويب القارئ نحو معنى (أو معاني) قلب الظلمة، فمارلو ينطلق من «المحطة الخارجية» الى «المحطة المركزية» متجهاً نحو «المحطة الداخلية». أي انه، على غرار المستعمرين الأجانب، آت من الخارج، يحط في وسط البلاد أو مرافئها ويتقدم نحو دواخلها مبحراً بعكس التيار، اشارة الى مقاومة الأرض وما عليها لذلك الولوج القسري. وفي هذا السياق، تستقيم امامنا مقارنة مروعة بين الاستعمار الاحتلالي وابن عمه الحديث.

في الدرجة الأولى، تبدو «قلب الظلمة» معالجة للخداع والخبث والتناقض الأخلاقي والارتباك الحاصل من تصادم المصالح مع القيم الإنسانية الثابتة: كيف المسلمات الأخلاقية ان تحكم على وضع مجنون في عالم يسوده الجنون اصلاً؟ في «المحطة الخارجية» أي قبل الإبحار، يراقب مارلو أحد المواطنين الأصليين وهو ينقل في دلو مثقوب، ولا يرى في ذلك غرابة بقدر ما لا يرى غرابة في جنون رفيقه الضائع كورتز المصاب بعقدة العظمة والقادر على القتل من دون ان يرف له جفن. ففي قلب الظلمة البشرية كل الاحتمالات واردة. وليس لذلك القلب نهاية جغرافية أو عرقية أو حضارية، انه باختصار لبّ العالم، يكتشفه مارلو محاطاً بالضباب الدامس يلف النهر والأدغال ويدرك من هناك حدوده الممتدة الى انكلترا وبلجيكا وما يسمى بالعالم المتمدن الذي يسمح لنفسه باضطهاد وقمع واستغلال وقتل الآخرين خدمة لمصالحه وتحت شعار التمدين والتطوير والعتق من البداوة.

وهنــا يأتي رمز النهر واضحاً لا لبس فيه، فالنهر، أي القوة الطبيعية للارض، يجعل اختراقه صعباً، وما صراع مارلو مع تياره الدافع الى الوراء سوى التعبير الواضح عن رغبة افريقيا في طرد الدخلاء بعكس سهولة الإبحار مع التيار، أي خروجاً من القارة السوداء. أما مسألة التواصل المستحيل فيعالجها كونراد على مراحل متقطعة عبر استشفاف ما بين السطور أكثر من التلقي الصريح المباشر، مما يجعل عدم وضوح الرؤية وبالتالي تكاثر الشكوك سمة جوهرية من سمات التعامل الأبتر بين المستَعمِر والمستعمَر.
ن القلب يحدد الخير والشر تبعا لصاحبه، والبقعة الأفريقية ترتبط بالمكان الذي أبحر إليه” كونراد” في رحلة تشبه رحلات استكشاف الوعي الغامض في سرد حمل مفاهيم معرفية وسلوكية، وحتى مفاهيم نفسية تعتمد على الفراسة في وصف روائي لم يتعارض مع اللغة ولا مع الحدث في اكتماله التصويري الذي يشبه مراحل تكوين القمر، لنستمتع بالرواية بنهاية شهر قمري جميل ” ويعتقد بقرارة نفسه بأنه الكائن الأعظم شأناً في هذا الكون مع أنني لم أر في حياتي قط رجلاً أشد منه حماقة وعصبية”
وقد رأى كثرٌ من النقَّاد أنَّها رحلة إلى النشاطات العقليَّة تحت عتبة الوعي مباشرة عند مارلو، أو الدُّووَعي العام، أو – كما ارتأى ألبيرت جيه قيرارد – رحلة سيكلوجيَّة أنثروبولوجيَّة "ليليَّة". وبهذه العبارة كان يعني قيرارد: "أسطورة متعلِّقة بالطراز البدائي، وممسرحة في أدب عظيم العظمة كلها منذ كتاب (قصة سيدنا) يونس (عليه الصلاة والسلام): وهي قصة رحلة العزلة الرئيسة، التي تنطوي على تغيُّر روحي عميق عند المسافر (في هذه الرحلة البحريَّة). وفي شكلها الكلاسيكي، فإنَّ الرحلة لعبارة عن الهبوط إلى الأرض، وتتبعها العودة إلى الضوء."
وعندما نعير الانتباه للواقع السطحي لقصة مارلو، أو تفاصيلها البرانيَّة ينبثق المعنى الجواني. ومن هذا المنطلق استطاع كونراد أن يخلط الأخلاق بالمغامرة في رواياته، وبأسلوب فريد. ففي توطئة لروايته "زنجي نارسيسوس" (1897م) وصف كونراد أسلوبه، وسرد أخلاقه الشخصيَّة فيما يختص بفن الرواية. ويبدو هذا الأسلوب واضحاً الوضوح كله في تصاوير الرحلة أعلى النهر، مع تركيز دقيق على تفاصيل العواطف والأفعال. وهذا – بالمقابل – يسلَّط نوعاً من الأضواء على ما يحدث في الآن نفسه في جوانيَّة مارلو، وهو نفسه مضطر كل الاضطرار أن يبدي انتباهاً مستمراً إلى الواقع السطحي في نضاله للحفاظ على السفينة على سطح الماء وإبحارها أعلى النهر. وهذا سينقذه من إغراءات البريَّة، التي هو – مثل كورتز – عرضة لها. إنَّ الواقع السطحى لهو الذي أبقى مارلو بعيداً عن اختيار البريَّة مع كورتز، وليست قوة صوته الداخلي، ولا قيده الداخلي، وهو موضوع رئيس في القصة. إذ لم يكن لكورتز وسائل ضبط النفس، ولا عمل سريع مثل كورتز، ولا عقيدة روحيَّة. وكان تطرفه واعتقاده مضادان للإيمان الصَّادق، والذي كان يعتقد مارلو أنَّه مرغوب في سبيل تبديد الظلام. ومن خلال قيام الروح الأخلاقيَّة والاندفاع الجشع نحو المال والسلطة، لم يستطع مارلو التعاطي مع القوى البربريَّة والحقود في جوانيَّته، والتي تخرجها البريَّة إلى الناس. وكان دفاعه الوحيد هو الفصاحة، التي لم تكن كافية، كما شهدت الرؤوس على الأعمدة خارج منزله. إذ أنَّ الفصاحة توضِّح أنَّ كورتز يحتاج إلى وسائل ضبط النفس في سعيه الحثيث وراء شهواته المتباينة، وكذلك لأنَّ هناك شيئاً مرغوباً في جوانيَّته – شيئاً صغيراً، والذي حين تتبيَّن الحوجة الملحة له، سوف لا تجد له وجوداً تحت بلاغته البارعة، برغم من أنَّ الكلمات ليست أدوات لنقل المعاني فحسب، بل هي أسلحة دفاعية أيضاً.
المصادر
(1) Peters, J G, The Cambridge Introduction to Joseph Conrad-;- Cambridge University Press: Cambridge, 2006.
March, Z and Kingsnorth, G W, An Introduction to the History of East Africa-;- Cambridge University Press: Cambridge, 1965-;- Moorehead, A, The White Nile-;- Penguin Books Ltd:(2) 22Harmondsworth, 1960-;- and Hazell, A, The Last Slave Market: Dr John Kirk and the Struggle to End the African Slave Trade-;- Constable and Robinson Ltd: London, 2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة