الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قواعد حماية البيئة البحرية من التلوث

أنس المرزوقي

2013 / 7 / 21
دراسات وابحاث قانونية


لقد كان القانون الدولي في الماضي، يكتفي بضرورة التزام الدول ببدل العناية عند ممارستها لاختصاصاتها الإقليمية، بعدم إلحاق أضرار بدول أخرى أو رعاياها، تاركاً للدول ذات السيادة حرية تحديد أساليب ممارستها لهذه الاختصاصات، ولاختيار الظرف الأنسب للحفاظ على الالتزام، لكن ومنذ بداية السبعينات من القرن الماضي حصلت تطورات قانونية هامة، بحصول تفاعل بين قواعد القانون الدولي للبحار وقواعد القانون الدولي البيئي، أدت إلى تحسين مضمون التزامات الدول في ميدان حماية البيئة البحرية من التلوث، وبدأ القانون الدولي يهتم بمشاكل تلوث البيئة البحرية، وذلك عن طريق وضع مجموعة من القواعد من أجل حماية البيئة البحرية من جميع أنواع التلوث، ومختلف صوره وأشكاله، بالإضافة إلى تدعيم وتوسيع الالتزامات العامة بحماية البيئة البحرية، وكذا وضع تحديد دقيق للالتزامات الملقاة على عاتق الدول، بإدخال مجموعة من الشروط عند صياغة التزامات الدول في هذا الميدان، وتحديد نوع التدابير التي يجب على الدول العمل على تطبيقها في أنظمتها القانونية الداخلية بهدف حماية البيئة البحرية من التلوث. ولإظهار الفائدة من هذا التطور، الذي مس النظام القانوني الدولي في ميدان حماية البيئة البحرية من التلوث، يجب التنويه بهذه القواعد الدولية التي تضمنتها مجموعة من الاتفاقيات الدولية والتي تهم جانبي الوقاية وإصلاح الأضرار الناتجة عن تلوث البيئة البحرية.
فيما يخص الجانب الوقائي، فكل الاتفاقيات المبرمة لحماية البيئة البحرية تشكل "مدونة دولية"، الهدف منها تحديد التزامات ووضع القواعد والمعايير من أجل استباق التلوث البحري والحيلولة دون وقوعه، وذلك قبل حدوث التلوث بفترة كافية، عن طريق إرساء، واتخاذ الإجراءات المناسبة والكفيلة بتأمين القيام بالنشاطات المختلفة، و التأكد من أنها لا تشكل أية خطورة على البيئة البحرية، في أي جزء منها، كما تضع معايير السلامة للبيئة البحرية، وللنشاطات المختلفة، التي يمكن أن تمارس فيها، كما تحظر هذه القواعد، بعض التصرفات والأنشطة والمشاريع، التي يمكن أو من المحتمل أن تؤدي إلى تلويث البيئة البحرية والتأثير عليها سلباً، ويمكن أن توقف هذه القواعد بعض النشاطات والمشاريع القائمة، إذا تبث بأن لها تأثير سلبي مباشر أو غير مباشر على البيئة البحرية، في المدى القريب أو البعيد، وتتناول هذه القواعد أيضا سبل الوقاية من التلوث من المصادر المختلفة، قبل أن ينتقل التلوث إلى البيئة البحرية. وكمثال على ذلك، نأخذ اتفاقية عام 1973 بشأن الوقاية من التلوث بواسطة السفن، فهذه الأخيرة حددت للدول التزامات مدققة تقيد تصرفها بالنسبة للسفن الخاضعة لنظامها القانوني بصياغتها لقواعد ومعايير ذات طابع حظري وتقييدي وإجرائي من أجل الوقاية من التلوث الناجم عن الملاحة البحرية. وتهم هذه القواعد شروط بناء السفن وأماكن الصهاريج وأبعادها، والمعدات الواجب توفرها على متن السفينة، والشروط المتعلقة بكيفية مراقبة العمليات التي يحتمل أن تؤدي إلى تلويث البيئة البحرية أثناء تشغيل السفن.
أما الجانب المتعلق بإصلاح الأضرار الناتجة عن تلوث البيئة البحرية، فهناك عدد من الاتفاقيات التي تفرض على الدول قواعد تعمل على حماية البيئة البحرية فور وقوع حوادث التلوث البحري مباشرة، وذلك بالحيلولة دون انتشار التلوث إلى مناطق البيئة البحرية المجاورة لموقع الحادث، عن طريق اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتلافي الأضرار الناتجة عن الحوادث البحرية المختلفة، ووضع السبل والإمكانات والوسائل الكفيلة بمحاصرة أي حادث، في متناول الجهات المسؤولة والمختصة، لتمكينها من السيطرة على التلوث، وتقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن، بالإضافة إلى تمكين المتضررين من الحصول على تعويض مناسب في إطار أنظمتها القانونية الوطنية.
ولكي يتم تحقيق الجانبان )الوقاية، وإصلاح الأضرار(، تتضافر وتتكامل مجموعة من القواعد والإجراءات القانونية، التي تتضمنها الاتفاقيات الدولية، لحماية البيئة البحرية، ومن أهمها تلك المرتبطة بنوع الملوثات التي تصيب البيئة البحرية، ويمكن تناول هذه القواعد على النحو التالي:
1 - قواعد حماية البيئة البحرية من المصادر الأرضية
يعد التلوث من المصادر البرية من أقدم مصادر التلوث البحري، بل وأكبرها حجماً، من حيث المساهمة في تلويث البيئة البحرية، حيث يبلغ حجمها ما يقارب سبعين في المائة من حجم جميع الملوثات. وتعد مياه الصرف الصحي من أكثر الملوثات الأرضية وأوسعها انتشاراً، بالإضافة إلى الملوثات الصناعية والكيميائية، فاستخدام العديد من المواد الكيماوية في الأغراض المختلفة أصبح جزءاً من الحياة اليومية، ويصاحب هذا الاستخدام مشكلة التخلص من النفايات الكيماوية الناتجة عن صناعة بعض المواد، وتوجد ملايين الأطنان من السموم، والمواد الضارة الأخرى، تزيد من مشاكل التلوث البحري كل عام، والتخلص من هذه النفايات الضارة أصبحت مشكلة بحد ذاتها. كما أن المواد الصلبة، والقمامة، والمخلفات الناتجة عن النشاطات الاستهلاكية في المناطق الساحلية، وجميع الملوثات الأخرى ترمى في البحر مباشرة، أو تصل إليه عن طريق الأنهار والأمطار، مما يستدعي بل يحتم بذل جهود مضاعفة على المستوى الوطني والدولي، للقضاء على هذه الملوثات في مهدها. ولعل من أهم الاتفاقيات التي أبرمت لحماية البيئة البحرية من هذا النوع من الملوثات نجد اتفاقية لندن المتعلقة بالوقاية من تلوث البحار الناتج عن تسرب الفضلات لعام 1972 )صادق عليها المغرب بموجب الظهير الشريف رقم 1-78-59 المؤرخ في 30 مارس 1979(، واتفاقية باريس المتعلقة بحماية البيئة البحرية من التلوث من المصادر البرية لعام 1974، هذه الأخيرة دعت إلى ضرورة اتخاذ الإجراءات لحظر تصريف الملوثات من مصادر برية في البيئة البحرية، كما وضعت المعايير والاحتياطات، التي يجب اتخاذها لمكافحة التلوث، وقد تعهدت أطراف اتفاقية باريس بموجب المادة 13، باتخاذ الاجراءات الملائمة لمكافحة التلوث من مصادر برية والعمل على إزالة وتخفيض التلوث من هذه المصادر.
2 - قواعد حماية البيئة البحرية من التلوث النفطي
يأتي التلوث النفطي في المرتبة الثانية، من حيث حجمه في البيئة البحرية، بعد التلوث من مصادر برية، ويعود ظهور مشكلة التلوث النفطي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما نقلت أول شحنة نفط من أمريكا إلى بريطانيا عام 1861، وبعد ذلك بقليل عندما تم بناء أول ناقلة نفط عام 1886، أما قبل ذلك، فكما يشير بعض المهتمين بشؤون البيئة، لم ينظر للنفط كمادة ملوثة لفترة طويلة من الزمن.
وإذا كانت قد صدرت العديد من التشريعات الوطنية لحماية البيئة البحرية من التلوث النفطي، إلا أنها لم تكن مأثرة وفعالة، بينما تأخرت الجهود الدولية، حتى أصبح التلوث النفطي مشكلة واقعة ومتفاقمة تهدد الجميع، وقد تنبهت دول وشعوب العالم لخطورة التلوث النفطي بعد غرق ناقلة النفط الليبيرية توري كانيون Torrey Conyon عام 1967، وبسببها شعرت دول العالم بضرورة تضافر الجهود، من أجل مواجهة ظاهرة تلوث البيئة البحرية بالزيت، واتخاذ الإجراءات الكفيلة لمنع تكرارها، فسنت الاتفاقيات، والأحكام، والقواعد القانونية، للسيطرة على التلوث البحري وعلاج آثاره.
وفي هذا السبيل أثمرت الجهود الدولية في عام 1969، عن عقد بروتوكول اختياري خاص بين ملاكي ومستأجري الناقلات البترولية بشأن المسؤولية عن التلوث بالزيت، ولقد عرف هذا الاتفاق باسم: "توفا لوب Tovalop"، ويستهدف هذا الاتفاق خلق تعويض مباشر للمتضررين، بغض النظر عن وجود خطأ ما يمكن إسناده إلى مالك السفينة، أو إلى مستأجرها من عدمه، بل حتى ولو لم يكن المالك مسؤولاً.
ونظراً للأضرار الجسيمة التي لحقت بالبيئة البحرية بسبب غرق الناقلة الليبيرية توري كانيون، فقد حرصت المنظمة البحرية الدولية على عقد مؤتمر دولي في الفترة من 10 ـ 28 نوفمبر عام 1969 في العاصمة البلجيكية بروكسل، بهدف وضع القواعد القانونية التي تنظم المسؤولية المدنية عن أضرار التلوث البحري بالزيت .وتهدف هذه الاتفاقية إلى منح تعويض ملائم للأشخاص الذين يصيبهم ضرر ناجم عن تسرب الزيت أو تصريفه من السفن، وتوحيد القواعد القانونية والإجراءات الدولية التي تطبق على المسؤولية المدنية في هذا الشأن.
وقد حظيت هذه الاتفاقية، بترحيب عالمي، إذ صادقت عليها ستة وستون دولة، كما قامت أربعة وأربعين دولة بالتصديق على اتفاقية الصندوق عام 1971 )صادق المغرب على الاتفاقيتين معاً بموجب القانون رقم: 12-87 الصادر بتنفيذ الظهير الشريف رقم: 121-87-1 المؤرخ في 9 نوفمبر 1992(، حيث تفرض هذه الاتفاقية وبشكل مسبق مجموعة من الإجراءات الإدارية والمالية التي تلتزم الدول بتنفيذها. ورغم ذلك رفضت الولايات المتحدة الأمريكية التصديق على هاتين الاتفاقيتين بحجة أن المبالغ التعويضية المتاحة بمقتضى أحكامها لا تقدم الحماية الكافية للمتضررين من حوادث التلوث البحري بالزيت.
3 - قواعد حماية البيئة البحرية من التلوث بالإغراق
يعد هذا النوع من أنواع التلوث الخطيرة، بل أخطرها على الإطلاق، إذ أن ما يتم إغراقه هو عبارة عن: مواد سامة، أو مؤذية، أو ضارة، كما تتوفر في فعل الإغراق، النية المبيتة والإرادة والتصميم المسبق في تلويث البيئة البحرية، أي أن الفعل عمدياً، مما يسوغ القول، بأن التلوث بالإغراق ينطوي في جميع الأحوال على جريمة دولية لتوفر الركنين المادي والمعنوي، وهو ما يستدعي تضافر الجهود من أجل منعه بكل وسيلة من الوسائل، لما ينطوي عليه من خطر محقق، فهذا النوع من التلوث في حاجة ماسة إلى سياسة شاملة لمكافحته والتخلص من أضراره في البحار على المستويين الإقليمي والدولي.
ونظراً لخطورة التلوث عن طريق الإغراق (Dumping)، فقد ألزمت اتفاقية جنيف لعام 1958، الخاصة بأعالي البحار، كل دولة باتخاذ الإجراءات اللازمة، لمنع تلوث البحار عن طريق إغراق النفايات المشعة، والإلتزام بجميع القواعد واللوائح، التي تضعها المنظمات الدولية المختصة، كما ألزمت جميع الدول بالتعاون، مع هذه المنظمات لمنع تلوث البحار، نتيجة لأي نشاط يستخدم المواد المشعة أو أي طاقة ضارة. بالإضافة إلى اتفاقية ماربول لعام 1973 بشأن منع التلوث من السفن، واتفاقية أوسلو لعام 1972 لمنع التلوث البحري بالإغراق من السفن والطائرات، فهاتين الاتفاقيتين حددتا للدول التزامات مدققة تقيد تصرفها بالنسبة للسفن الخاضعة لنظامها القانوني بصياغتها لقواعد ومعايير ذات طابع حظري وتقييدي وإجرائي من أجل الوقاية من التلوث الناجم عن الملاحة البحرية. وتهم هذه القواعد شروط بناء السفن وأماكن الصهاريج وأبعادها، والمعدات الواجب توفرها على متن السفينة، والشروط المتعلقة بكيفية مراقبة العمليات التي يحتمل أن تؤدي إلى تلويث البيئة البحرية أثناء تشغيل السفن.
4 - قواعد حماية البيئة البحرية من التلوث الإشعاعي
تنطوي خطورة هذا النوع من الملوثات من خطورة الطاقة النووية، وما تسببه من أضرار بالغة الخطورة على الأحياء البحرية، وكذلك الأضرار التي تنتقل للبشر جراء استعمالهم للبيئة البحرية في النشاطات المختلفة.
وفي هذا المجال، أبرمت اتفاقية جنيف الخاصة بالبحر العالي لعام 1958، ومعاهدة باريس لعام 1960، ومعاهدة بروكسيل لعام 1962، ومعاهدة فيينا لعام 1963، الخاصة بالمسؤولية عن الأضرار النووية، واتفاقية موسكو لعام 1963، الخاصة بالحضر الجزئي للتجارب النووية، واتفاقية بروكسيل الخاصة بالمسؤولية المدنية في مجال النقل البحري للمواد النووية لعام 1971، والتي تناولت التلوث وآثاره الناجمة عن إلقاء الفضلات النووية في البحر، وتوجد العديد من الاتفاقيات الدولية بهذا الشأن والتي تظهر مدى اهتمام القانون الدولي بأضرار استخدام الطاقة النووية وعزم المجتمع الدولي على وضع حد لهذه الأضرار عن طريق القانون الدولي والأجهزة الدولية.
وعلى العموم يمكن القول بأن صياغة هذه القواعد الاتفاقية يعتبر تطويراً للقانون الدولي في اتجاه التقليص من بعض القواعد التقليدية وعلى رأسها مبدأ حرية البحار والاختصاص الخالص لدولة العلم. إلا أن هذا التطور لم يكن دفعة واحدة وإنما احتاج الأمر المرور عبر عدة محطات قانونية، كما كانت صياغة القواعد المتعلقة بحماية البيئة البحرية متأثرة بالتجارب التي مر منها المجتمع الدولي، وبالدروس المستخلصة من طبيعة وحجم الأضرار التي خلفتها عدد من الكوارث البحرية.

لائحة المراجع المعتمدة:
1- د.محمد عبد الله نعمان: "الحماية الدولية للبيئة البحرية: دراسة قانونية خاصة عن البحر الأحمر"، صنعاء، السنة: 2004.
2- محمد بنيحي: " قانون البيئة : الجزء الثاني – القانون الدولي – "، منشورات المجلة المغربية للإدارة والتنمية، سلسلة نصوص ووثائق، السنة : 2011، الطبعة الأولى.
3- د.محمد البزاز: " حماية البيئة البحرية: دراسة في القانون الدولي "، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، السنة: 2003، الطبعة الأولى.
4- د.محمد مصطفى يونس: " حماية البيئة البحرية من التلوث في القانون الدولي العام "، دار النهضة العربية، القاهرة، السنة: 1996.
5- صليحة علي صداقة: " النظام القانوني لحماية البيئة البحرية من التلوث في البحر المتوسط "، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، ليبيا، السنة: 1996، الطبعة الأولى.
6- د.أحمد عبد الكريم سلامة: " قانون حماية البيئة "، جامعة الملك سعود النشر العلمي والمطابع، الرياظ، السنة: 1997.
7- الاتفاقية المتعلقة بالوقاية من التلوث بواسطة السفن لعام 1973.
8- اتفاقية باريس المتعلقة بحماية البيئة البحرية من التلوث من المصادر البرية لعام 1974.
9- Lawrence G.Colhen, Rervisions of tovalop and crystal: strong ships for storm y seas, vol.18, n.4, journal of maritime law and commerce, October 1987.
10- Brown : “ The Lessons Of The Torrey – Conyon, Current Legal Problems”, vol.21, 1968.
11- Smith, J.Wardley : « The Control of Oil Pollution », 1st.ed, Graham and, London, 1983.

أنس المرزوقي
باحث في القانون الدولي العام والعلوم السياسية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخيّمات المهاجرين في تونس: صفاقس.. -كاليه- التونسية؟ • فرانس


.. متظاهرون إسرائيليون يطالبون نتنياهو بإتمام صفقة الأسرى مع حم




.. حماس توافق على مقترح الهدنة المصري القطري.. وقف إطـ ـلاق الن


.. العالم الليلة | المسمار الأخير في نعش استعادة الأسرى.. أصوات




.. شبكات | طرد جندي إسرائيلي شارك في حرب غزة من اعتصام تضامني ب