الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-العرب اليوم-.. معانٍ كبيرة في شأنٍ صغير!

جواد البشيتي

2013 / 7 / 22
الصحافة والاعلام


إذا أَردتَّ أنْ تُعايِن حال الديمقراطية في مجتمع ما (أو دولة ما) فَقُمْ بزيارة سياسية وفكرية لصحافتها؛ فالصحافة (والصُّحُف) تُريكَ الصِّدْق من الكذب في المزاعِم الديمقراطية للحُكْم والحكومة؛ وإنِّي لأستطيع القول إنَّ وزن الصحافة من وزن الديمقراطية؛ فالصحافة (والإعلام على وجه العموم) تَزِنُ أكثر في مجتمعٍ تَزِن ديمقراطيته أكثر.
الأمْر صغير؛ لكنَّك إذا نَظَرْت إليه في موضوعية تَكْتَشِف فيه كثيراً من المعاني الكبيرة؛ وهذا الأمْر (الذي أعني وأقصد) هو ما أَصاب جريدة يومية أردنية تُدْعى "العرب اليوم"، وتُصَنَّف على أنَّها جريدة "مستقلة (نسبياً)"، "معارِضَة (نسبياً)".
منذ نحو سنتين، انتقلت ملكية الجريدة إلى مُسْتَثْمِر أردني لا شريك له؛ ولم يكن هذا المُسْتَثْمِر (الذي ليس من كبار المُسْتَثْمِرين) معروفاً في الوسطين: وسط رجال الأعمال، والوسط الإعلامي.
الدولة، بقوانينها الاستثمارية، عامَلَت الجريدة اليومية على أنَّها "بقالة"، يحقُّ لأيِّ مُسْتَثْمِر تملكها، والتصرُّف فيها كما يشاء، فإذا "أفْلَس"، أو أُصيب بعجزٍ مالي، أغْلَقَها، وذهب إلى بيته، وكأنَّ شيئاً لم يكن.
وكلُّ مشتَغِل في الصحافة يَعْلَم أنَّ "الجريدة"، كلُّ جريدة، تتضمَّن عنصراً تجارياً؛ لكنها لا تَعْدِله، وإلاَّ كفَّت عن كونها جريدة؛ ويَعْلَم، أيضاً، أنَّ الجريدة تنتمي إلى "السياسة" أكثر بكثيرٍ من انتمائها إلى "التجارة"؛ وليس من مُسْتَثْمِر يتملَّك جريدة إلاَّ وله مآرب سياسية، ويتَّخِذ من الجريدة أداةً للاستثمار السياسي أوَّلاً.
الأزمة في ظاهرها كانت أزمة عجز مالي أصاب صاحب الجريدة؛ ولقد أُعْجَزته هذه الأزمة عن دفع رواتب الصحافيين والموظفين منذ أربعة أشهر؛ ثمَّ قرَّر، بغتةً، تعليق صدور الجريدة، مُقْفِلاً أبوابها. ولقد قُلْتُ "الأزمة في ظاهرها"؛ لأنْ ليس لدينا في الأردن (على كثرة مزاعمه الديمقراطية) من "الشفافية" ما يسمح للصحافيين والموظفين في هذه الجريدة بمعرفة حقيقة الوضع المالي لمالكها؛ وهذا ما حَمَل بعضهم على الاعتقاد بأنَّها أزمة مفتعلة، الغاية الكامنة فيها هي إغلاق هذه الجريدة، أو إعادة بنائها، بعد هدمها؛ لكن بحجارة سياسية مختلفة؛ فالدولة في مرحلة سياسية دقيقة، وشعارها فيها "واستعينوا على قضاء حوائجكم بلا صحافة".
وكانت "الصحافة الحُرَّة"، ولجهة صلتها الوجودية بـ "الصحافي الحر"، هي أوَّل ما رَأيْت في هذه التجربة؛ فالصحافيون والموظَّفون في هذه الجريدة انقسموا إلى ثلاث فئات: فئة اعتصمت بحبل الصَّمت، ولازم أفرادها بيوتهم، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم، وربَّما كانت الرغبة في أنْ يَجِدوا لهم مكاناً على متن "سفينة نوح" هي التي حَمَلَتْهُم على أنْ يقفوا هذا الموقف؛ وفئة "قاتَلَت (بأسلحة "الربيع العربي")" مع أنَّها تستطيع الفرار؛ وفئة "قاتَلَت"؛ لأنَّها لا تستطيع الفرار.
إنَّني لم أرَ في هذه التجربة "صحافة حُرَّة"؛ لأنَّني لم أرَّ إلاَّ ما نَدَر من "الصحافيين الأحرار"؛ فالدولة، ومنذ زمن طويل، أقامت للصحافيين عندنا ما هو أقرب إلى "مزارع الدواجِن" منه إلى مؤسسات "السلطة الرابعة". وفي المشهد نفسه، رأَيْتُ "نقابة الصحافيين" وهي تقيم الدليل العملي على أنَّها مؤسسة غير جديرة بتمثيل مصالح وحقوق الصحافيين، والدفاع عنها، وكأنَّها "حصان طروادة" للدولة (وأصحاب الصحف) بين الصحافيين.
وكالمستجير من الرمضاء بالنار ذهب "الصحافيون والموظفون المقاتلون" إلى الحكومة، برئيسها ووزيريِّ الإعلام والعمل فيها، فرأوا وسمعوا منهم ما يُفْتَرَض فيه أنْ يغسل عقولهم من الأوهام، وأنْ يقيم لهم الدليل على أنَّ الحكومة هي في حقيقتها الخالصة من الوهم والخرافة حكومة أرباب الأعمال، تستخذي لمشيئتهم، وتعمل بما يخدم مصالحهم.
وزير الإعلام أحسن التعليل والاعتذار؛ فجريدة "العرب اليوم" تعود ملكيتها إلى القطاع الخاص؛ ولقد حرَّمت شريعة "السوق الحرَّة" على الحكومة التدخُّل (والذي له معنى "انتهاك حرمة وقدسية" القطاع الخاص) في أمْرِها، أو أزمتها (التي ظاهرها مالي، وباطنها سياسي).
حلالٌ على الحكومة أنْ تتدخَّل (أيْ أنْ تعيث فساداً) باسم قداسة "الخصخصة" في مؤسسات ومنشآت تعود ملكيتها إلى الشعب، أيْ إلى المستضعفين الأردنيين، وأنْ تَزْني بهذه المؤسسات والمنشآت، فـ "تَسْتُر عليها"، من ثمَّ، ببيعها بثمن بخس لمستثمرين ترضى عنهم، ويُرْضونها.
إنَّ "الإصلاح"، بكل أوجهه ومعانيه، يفخر بهذه الحكومة، ويعتز؛ كيف لا وهي التي عرفت كيف تُعامِل "العرب اليوم"، لجهة أزمتها، وتوقُّفها عن الصدور، على أنَّها "مصنع أحذية"، يملكه شخص واحد أحد، فـ "أَفْلَس"، فحقَّ له إغلاقه، ورمي عماله (أيْ صُنَّاع الرأي العام، وممثلي "السلطة الرابعة"، والمشتغلين بحرية سقفها السماء السابعة) في الشارع، وبئس المصير.
وزير الإعلام تلا على مسامع "النقابيين الأقحاح" سورة "القطاع الخاص"، بما اشتملت عليه من "آيات مُحْكمات"، ليؤكِّد لهم أنَّ "العرب اليوم"، وبصفة كونها مؤسسة يملكها القطاع الخاص، هي "خط أحمر"؛ أمَّا بصفة كونها ملكية معنوية للشعب فهي لا تَزِن شيئاً بميزان الحكومة، التي يستطيع أصغر رب عمل أنْ يذلها، ويرغمها على الاستخذاء لمشيئته.
لقد "خصخصوا" ما شاءوا من ممتلكات الشعب؛ أمَّا ممتلكات الطبقة التي يتوفَّرون على خدمتها، في الحلال والحرام، ففي الحفظ والصون، وفي بروج مشيدة.
أمَّا رئيس الحكومة عبد الله النسور، فسارع، بعد استقباله وفد "العرب اليوم"، إلى التشاور في اﻷ-;-مر مع وزراء معنيين بأزمة الجريدة. ولقد قرر في نهاية المشاورات رفع الدعم الحكومي عن موظفي "العرب اليوم"؛ فالدولة ما عادت تحتمل اﻷ-;-عباء السياسية المترتبة على وجود صحافة في البلد.
أربعة أشهر (منها شهر رمضان) والصحافيون والموظفون في "العرب اليوم" بلا رواتب، وبلا تدخُّل من الدولة لمساعدتهم إنسانياً على الأقل؛ ومع ذلك لم تتوقَّف الدولة عن التغني بمزاياها ومحاسنها الديمقراطية المحسودة عليها، وبحرصها الشديد على الكرامة الإنسانية والمهنية للصحافيين الأردنيين؛ فهل بقيت في الرؤوس أوهام؟!
"الليبرالية"، في جوهرها الاقتصادي، إنَّما تعني أنَّ العامِل حُرٌّ في أنْ يعمل، أو لا يعمل، لدى رب عمل بعينه؛ ورب العمل هذا حُرٌّ في قبول، أو رفض، أنْ يعمل لديه هذا العامل؛ لكنَّ هذه "الليبرالية" تنتهي إلى عبودية تامة عندما يتأكَّد للعامِل أنَّه ليس حُرَّاً في أنْ يعمل، أو لا يعمل، لدى طبقة أرباب العمل بأسرها.
واليوم، يتمنَّى الصحافيون في الأردن هذه "العبودية"؛ فالجريدة اليومية يجب أنْ تعود ملكيتها ليس لمُسْتَثْمِرٍ بعينه، وإنَّما إلى جماعة واسعة من المُسْتَثْمرين، أيْ إلى "الطبقة" لا إلى أحد أفرادها؛ فأنْ تستعبدهم "طبقة" خير من أنْ يستعبدهم أحد أفرادها فحسب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مسجدا يؤوي نازحين في دير البلح وس


.. مقتل وإصابة طلاب بحادثة انقلاب حافلة في كولومبيا




.. رحلات الإجلاء تتواصل.. سلوفاكيا تعيد رعاياها من لبنان


.. ما الذي قدمته إيران إلى لبنان منذ بدء الهجوم الإسرائيلي؟




.. فرنسا.. مظاهرات في باريس تنديدا باستهداف المدنيين في لبنان و