الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسن وجميلة، حيث وُلدت النكبة

أحلام طرايرة

2013 / 7 / 23
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


كلما مررتُ بمشهد من مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، الممعن في الوجع، الذي عُرض ذات رمضان ومررتُ عليه أمس يُعرض على إحدى المحطات أزدادُ قناعة ويقيناً بأن قصة "حسن وجميلة" هي القصة الأم التي تنطوي تحتها كل القصص الأخرى في المسلسل بما فيها النكبة الفلسطينية نفسها. إن اسم الملحمة المستوحى من تغريبة بني هلال كإحدى أكبر قصص التهجير في التاريخ العربي يروي بحد ذاته رواية الوجع الفلسطيني بكل نثرياتها الدقيقة. جموع من الناس صغارا وكبارا، نساء ورجال، شبان وشيوخ، كلهم يتماوجون في سيلٍ آدمي إلى غيرما وجهة، ليس لديهم أدنى فكرة أي مصير ينتظرهم ومتى ستكون وجهتهم نحو بلادهم من جديد، إذا قدّر لهم أن يعودوا. مع كل هذا التلخيص البليغ الذي تحمله كلمة "التغريبة" إلا أنني أجد أن اسم "حسن وجميلة" أبلغ وأعمق وأكبردلالة. هو اسمٌ يغوص في سبر الرواية ليضعنا أمام حقيقة أن من بدأ معاناة الفلسطيني هو الفلسطيني نفسه، وأن النكبة الفلسطينية ما كانت إلا نتيجة حتمية لظلمٍ كبير ارتُكب بحق "حسن وجميلة" وأنه لن تعود البلاد ولن تنتهي النكبة إلا بعودة حق "حسن وجميلة" في الحب والحياة. قد يبدو الحديث ساذجا لمعظم- وربما كل- من يقرأ هذه الكلمات سواء حضروا المسلسل أو لم يحضروه. فقصة الحبيبين وأبعادها العميقة ربما لم تستوقف الا قلة قليلة ممن حضروه، وسيكون صعبا على من لم يحضروه أن يجدوا رابطا بين قصة حب فرعية كهذه بملحمة ضياع بلاد بأكملها وتهجير أهلها في بقاع الأرض المختلفة والذين لا يبدو أنهم إلى رجوع أو أن نكبتهم إلى زوال.

تبدو قصة حسن وجميلة كأي قصة حب عادية في بلادنا، تنتهي بقتل جميلة على أيدي أبناء عمومتها غسلاً لعارٍ لم يوجد أصلا وبأن ينفي حسن نفسه إلى جبهة القتال ضد الاحتلال البريطاني والمخطط الصهيوني لتوطين اليهود. فيختفي الحبيبين من المشهد تماما ويبقى الباقين، وننشغل نحن بعدها بمتابعة قصصهم في رحلة لجوءهم المريرة وتفاصيل حياتهم في المخيم حتى ثمانينات القرن الماضي. لكننا نكتشف لاحقا أننا لم ننساهم- أي حسن وجميلة- خصوصا حسن الذي ظل طيفه يطاردنا حتى آخر مشهد، فلم يكفّ والديه عن أمل أن يظهر يوما ويدلف عليهم باب صفيحهم في المخيم. وظلّا طوال سنوات نكبتهم يتألمان ندماً لرفضهما تزويجه بجميلة، وأنه لولا ذلك لما هرب من وجعه إلى حيث البنادق والنار، وأنه لكان معهم الآن، لاجئا مثلهم ولكنه بينهم على الأقل. يحزنني أن والديّ حسن ماتا ولم يكونا قد أدركا أنه لو قبِلا بزواجه من جميلة لما كانت هناك نكبة أصلاً.

حسن أوجعنا جميعنا، وكلنا شعرنا بالذنب تجاهه. فهو الأخ الذي ترك الدراسة ليتسنى لأخيه الأصغر أن يكمل تعليمه. وهو الأخ الذي ثار لأخته "خضرة" وضرب زوجها لضربه لها وصرخ في وجه عائلته لسكوتهم عن ذلك، ولاستماتتهم ليرجعوها له متسائلا كيف تكون البنت عاراً يدفعهم أن يرضخوا لرجلٍ حقير لأنه "يسترها" بالزواج!
كان حسن عقلا منفتحا عظيما ذا فكر أصيل غير مصبوغ بموروثات العادات والتقاليد التي تعطي درجة للرجل على المرأة، وللمقيم على الغريب، ولذوي المال على الفقراء. كان حسن نموذجاً للإنسان الحقيقي الذي لم تلوثه النعرات وعُقد الأفضلية. ولهذا أحبّ جميلة، تلك البنت الجميلة الفقيرة التي جاءت مع أمها من قرية أخرى لتعتاش من مساعدات المقتدرين ومن عملها في مواسم القطاف في حقول إقطاعيي ذلك العصر. أحبها حسن وأحبته، وتوجه لأهله أن يخطبوها له فرفضوا، وعرف أهل القرية بجريمة حبهما ولاكوها بألسنتهم قبل أن يتبرع أحد خبثائهم بنقل الخبر لأقارب جميلة في قريتها ليأتوا بدورهم ويطلقوا عليها النار على مرآى من الجميع. لم يتدخل أحد ليوقف قتل جميلة، لأن من حق ذوي البنت أن ينهوا حياتها لمجرد الاشتباه أن قلبها مال لأحدهم، فالحب عيب وعار لا تقدم عليه البنات العفيفات. ولم يحتمل حسن ألمه ولم يفهم كيف ان شرف عائلة جميلة سمح بأن تترك هي وأمها القرية بدون معيل لتعيشا غريبتين فقيرتين في قرية أخرى، ولكن هذا الشرف نفسه هو الذي رفض أن يخفق قلبها لرجل أحبها واعتنى بها وأمها وأرادها زوجة.

إن "التغريبة" لتضعنا أمام مجموعة من المقارنات ما بين الماضي والحاضر، كمقارنة موقف عائلة حسن قبل النكبة وبعدها برفضهم لجميلة كونها غريبة و"مقطوعة من شجرة" قبل النكبة ومن ثم أن يعيشوا بقية عمرهم غرباء مقطّعين في مخيمات اللجوء بعدها، مقابل الفوقية التي يعامل بها اللاجئين كغرباء في هذه الأيام من بعض – أو بالأحرى معظم- أفراد المجتمع، وكذلك مقارنة ما حدث لحَسن الإنسان الجميل الزاهد في كل شيء إلا الحب والذي حُرم منه وهو الشيء الوحيد الأوحد الذي طمح به في حياته، مع نماذج كثيرة شبيهة جدا له في يومنا هذا من الجميلين الصادقين مع أنفسهم والآخرين، وأضيف لذلك ما حدث لخضرة وجميلة بزواج الأولى كرهاً من رجل سفيه وتحملها لإهاناته وضربه لها فقط لأنه تزوجها أرملة ولأنها بحاجة لرجل يستر عليها، وبوأد الثانية لأنها مارست حقا أعطتها إياه الطبيعة بحبها لحسن ومقارنته مع ما يحدث لخضراوات وجميلات زماننا اليوم. وهذه المقارنات تضعنا بدورها أمام حقيقة أن شيئا لم يتغيّر منذ 65 عاماً. فلا زال الناس يصنّفون أنفسهم والآخرين بحسب الأفضليات القديمة التي ظُلم حسن وجميلة بسببها ويُظلمون بها إلى وقتنا هذا. ولا زال المتسلقون هم من يعتاشون على تضحيات الآخرين، ولا زال الناس عبيداً لكلمة يطلقها خبيث فيسيل من أجلها دماء ولا زالت النساء عورات يتوجب سترها بالزواج حتى ولو من اشباه رجال. ولهذا كله، لا تزال البلاد مسلوبة، ولا نزال منكوبين...

لن تُنصف بلاد وفيها مظلوم، ولن يتحرر وطن وفيه عبد... ولن تنتهي النكبة ما طال فراق حسن وجميلة.

وليتفكّر أولي الألباب...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءة متأملة حقا
قاسم حسن محاجنة ( 2013 / 7 / 23 - 09:37 )
رؤية تحمل مفاجأة!!
وحسنا فعلت الاخت الكاتبة في وضع الاصبع على موقع الالم وهو العوامل الذاتية والبنى الاجتماعية الثقافية التي -لعبت - دورا في تفكك وتشرد الشعب الفلسطيني .
لكن من المهم ان لا نغفل عن العوامل الموضوعية والتي كان من الصعوبة بمكان في مقاومتها .
ولا اقصد بهذا نظرية المؤامرة !!!
احسنت في عرض وجهة النظر وتسليط الضوء على هذا الجانب
يعطيكي العافية

اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات