الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلام مربع ل -جهادية- بلدنا

السيد نصر الدين السيد

2013 / 7 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


"القاعدة تقول ان الدول الحديثة تنشئ جيوشها الا ان دولة المحروسة الحديثة كانت نتاجا لجيشها"

"ان فهم الماضي هو أحد الشروط اللازمة لفهم الحاضر"

لم يكن محمد على باشا، الذي بايعه اعيان مصر ليكون واليا عليها سنة 1805، يتصور الآثار بعيدة المدى لقراره تجنيد الفلاحين المصريين في جيشه الجديد. وكانت البداية في 18 فبراير 1822 عندما أرسل الباشا لمدير مديرية جرجا خطابا يقول فيه "من الواضح أننا نرسل قواتنا بقيادة أبنائنا ليجلبوا لنا السود لنستخدمهم في مسألة [حملة] الحجاز وخدمات أخرى مماثلة ... إلا أنه لما كان الأتراك من جنسنا ويجب أن يظلوا قريبين منا طوال الوقت، ولا يُرسَلوا إلى هذه المناطق البعيدة، أصبح من الضروري جمع عدد من الجنود من الصعيد. ولذلك وجدنا من المناسب أن تجند حوالي أربعة آلاف رجل من هذه المديريات" (فهمي, 2001)، ص 127).

واذا كانت بداية عملية تنفيذ قرار الباشا محدودة ومترددة إلا ان أداء الفلاحين المصريين المبهر في ميادين القتال حرر الباشا من تحفظاته ليصل عدد جنود الجيش المصري عام 1839 الى 235,880 مقاتل (الرافعي, 1989)، ص 355). ولم يكن هذا القرار بالقرار السهل على من أصدره وعلى من سيتأثر به من عموم المصريين. فالباشا وجد نفسه مضطرا لفرض التجنيد الإجباري على الفلاحين المصريين بعد فشل تجربته لاستجلاب السودانيين بهدف تجنيدهم في جيشه الجديد. أما بالنسبة للفلاحين المصريين فإن هذا القرار كان يعنى انتزاعهم انتزاعا من البيئة المسالمة التي تعودوا العيش فيها وتأقلموا على ظروفها. فعلى مدى 18 قرن، منذ حكم البطالمة، حرًم حكام مصر الأجانب على المصريين حمل السلاح فانصرفوا عن حرفة الحرب الى حرفة الحضارة.

كانت هذه الظروف الصعبة التي صاحبت ميلاد الـ "جهادية مصرية" (او جيش مصر الحديث كما كان يطلق عليه). وتمضى الآلام التي صاحبت ميلاد جيش الفلاحيين المصريين الى حال سبيلها ليبقى ما احدثه هذا الميلاد من آثار لاتزال فاعلة حتى الآن. وهي الآثار التي يمكن اجمالها تحت عنوانين رئيسيين هما: "استعادة الشعور القومي المصري" و"تحديث الدولة المصرية".
استعادة الشعور القومي المصري
من عجائب الأمور ان يفقد اهل أقدم امة-دولة في التاريخ احساسهم بالانتماء لكيان قائم بذاته وله خصائصه التي تميزه عن الآخرين. الا ان العجب يزول بمجرد معرفة موقف الديانتين الأمميتين، المسيحية والإسلام، من مصر ومن حكامها السابقين. ولقد كانت البدايةٌ الحزينة لطمس الشعور القومي المصري، ولإحداث القطيعة بين المصريين وتاريخهم، عندما اعتنق شعب مصر المسيحية وآمن بكتابها المقدس بعهديه القديم والحديث. وكان للصورة المشوهة والمشوهة (بكسر الواو) للمصريين وحكامهم في أسفار العهد القديم آثار مدمرة على إحساس المصريون بذواتهم واعتزازهم بها. فبعد أن كان شعب مصر هم "الرعية النبيلة" ... "رعية الإله رع" وكان الناس (رمثو) "شعب الشمس" ... "أبناء رع آتون" ... "كلماتهم نافذة وشفاهم عارفة وحكمتهم بلغت عنان السماء"، وكانت مصر "تاميري هي "صورة السماء" و"معبد الكون بأسره ومقر الديانات" أصبح شعب مصر وارضها هدفا لضربات رب العبرانيين (سفر الخروج، الاصحاحات 7-11). وبعد أن كان "بر-عو" (فرعون أو البيت الكبير) مصر هو "العائش في ماعت"، أي الذى تتجسد فيه ماعت، التي تعنى الحقيقة والنظام والعدالة في آن واحد (يان, 1996)، أصبح من منظور الدين الجديد حاكما ظالما لا يستحق من المؤمنين به إلا أشد اللعنات. ثم جاء الإسلام ليؤكد القرآن الكريم على ما جاء ذكره في "العهد القديم" عن المصريين وعن حكامهم من الفراعين (سورة القصص: الآيات 3 و4 و39 و40 /سورة يونس: الآيات 90-92 /سورة الزخرف: الآية 54 /سورة الأعراف: الآيات 130 و133). وهكذا حلت "قومية الدين" محل "قومية الوطن" وأصبح الأجنبي من نفس الديانة أقرب للمصري من رفيقه في الوطن مختلف الديانة.

ثم كان الجيش الجديد بعشرات الآلاف من جنوده من الفلاحين المصريين اللذين انتزعوا قسرا من قراهم أيا كان موقعها على ارض مصر. ويخوض المجندين الجدد تجربة قاسية وغير مسبوقة يكتشفون فيها الكثير المشترك الذي يجمعهم مع زملائهم القادمين من مختلف انحاء مصر، وفى نفس الوقت يلمسون مدى الاختلاف بينهم وبين من يقودهم من الضباط ذوي الأصول العرقية المختلفة. وتوجز العبارة التالية الدور الذي لعبه الجيش في احياء الشعور القومي لدى المصريين فلقد "ساهم الجيش بالفعل بغير قصد في صعود الوطنية المصرية بإيجاد خبرة متجانسة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين على مدى مدة تتجاوز العشرين عاما، وزرعت فيهم الشعور بكراهية "العثمانيين"، وساهمت بذلك في تشكيل "تخيلهم" الجماعي عن الأمة" (فهمي, 2001) ص 351). ويتعزز دور الجيش في احياء الشعور القومي لدى المصريين بتجنيد مسيحيو مصر وذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1856م بعد إلغاء الخديوي سعيد الجزية المفروضة على الذميين في ديسمبر سنة 1855م. ويحفظ التاريخ لنا كلمات البابا كيرلس الرابع (1816-1861)، الملقب بابي الإصلاح، بعد ان ترددت شائعات حول رفضه تجنيد شباب الاقباط: "يقول البعض أنى طلبت من الباشا ان يعفى أولادنا الأقباط من الخدمة العسكرية فحاشا لله ان أكون جبانا بهذا المقدار لا أعرف للوطنية قيمة او ان افترى على اعز أبناء الوطن بتجريدهم من محبة اوطانهم وعدم العمل لخدمته حق الخدمة والمدافعة عنه فليس هذا ما طلبته ولاما اطلبه"

واليوم تعتبر المؤسسة العسكرية هي التجسيد الحي للحس القومي المصري بكافة ابعاده السياسية والجيوستراتيجية.

تحديث الدولة المصرية
يتطلب انشاء جيش بهذا الحجم والحفاظ على مستوى كفاءته وفعاليته توفر قدرا لا يستهان به من المعارف المتنوعة، هذا بالإضافة الى وجود آليات تنظيم وادارة تضمن تفعيل هذه المعارف على أرض الواقع. ولم يكن الأزهر، بوصفه المؤسسة المعرفية الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت، قادرا على انتاج المعارف اللازمة. فقد كان همه الرئيسي هو فقط العلوم الشرعية التي تعنى بالنصوص المقدسة. لذا لم يكن امام الباشا من خيارات سوى استجلاب هذه المعارف من مصادرها سواء كان ذلك على هيئة استقدام الخبرات الاجنبية او عن طريق ايفاد المبعوثين للدول المتقدمة. وعلى مدى 24 سنة (1813-1847) اوفد محمد على 319 طالب الى بلدان اوروبا للتخصص في مختلف فروع العلم والتكنولوجيا. وعلى اكتاف هؤلاء قامت منظومة التعليم المدني (غير الديني) بمدارسها العليا (الطب، الصيدلة، القابلات، المهندسخانة، الألسن، الزراعة، المحاسبة، الطب البيطري، الفنون والصنائع) والتي بلغ مجموع طلابها نحو 4,500 طالب. ولم يقتصر أثر هذه المدارس وخريجينها على الجيش، الذي أنشأت في الاساس لخدمته، بل امتد بالضرورة للمجتمع المصري. وهكذا تعرفت الامة المصرية على العلوم الحديثة (الوضعية) التي تشكل أسس الدولة الحديثة والتي اهملتها منظومة التعليم التقليدية.

ولم يقتصر دور الجيش الجديد، عبر مدارسه وخريجينها، على توفير المعارف الضرورية لبناء الدولة الحديثة، بل قدم نموذجا لكيفية تنظيم المجتمع. وهو النموذج الذي استلهم "منطق الآلة العسكرية، كما تصوره مختلف القوانين واللوائح والكتيبات العملية التي صدرت بهدف تنظيم جوانب الحياة العسكرية المختلفة" (فهمي, 2001) ص 413).

المراجع
الرافعي, ع.ا., (1989). عصر محمد على. القاهرة: دار المعارف.
فهمي, خ., (2001). كل رجال الباشا: محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة. القاهرة: دار الشروق.
يان, أ., (1996). ماعت: مصر الفرعونية وفكرة العدالة الاجتماعية. القاهرة: دار فكر للدراسات والنشر والتوزيع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يلف أسباب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟ • فرانس 24


.. التغير المناخي في الشرق الأوسط: إلى أي مدى مرتبط باستثمارات




.. كيف يسمح لمروحية الرئيس الإيراني بالإقلاع ضمن ظروف مناخية صع


.. تحقيق لـCNN يكشف هوية أشخاص هاجموا مخيما داعما للفلسطينيين ف




.. ردود الفعل تتوالى.. تعازى إقليمية ودولية على وفاة الرئيس الإ