الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحديات العولمة وخيار الحداثة

ابراهيم الحيدري

2014 / 9 / 24
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



تواجه المجتمعات العربية اليوم تحديات كبيرة بسبب الإخفاقات المتلاحقة التي توالت عليها في العقود الاخيرة وبخاصة منذ بدايات عصر العولمة الذي أخذ يضغط بقواه الاقتصادية والثقافية والسياسية، بصورة مباشرة وغير مباشرة عليها وعلى الانظمة السياسية التقليدية المتخلفة، من اجل تطبيعها او تطويعها للسير في طريق الاصلاح الشامل والتحديث وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة التي تقوم على التعددية واحترام حقوق الانسان. وعلى رغم ان الاصلاح هو في مقدم أولويات التغيير والتنمية والتحديث من جانب القوى الاجتماعية، إلا ان المجتمعات العربية ما زالت راكدة في كثير من جوانبها، ليس قياساً مع الدول الصناعية الكبرى، وإنما بالنسبة الى دول شرق آسيا على اقل تقدير، بخاصة في بناء أسس الدولة الحديثة والتنمية المستدامة ونشر الديموقراطية واحترام حقوق الانسان
ان الاصلاح والتحديث في المجتمعات العربية يحتاجان الى جهود كبيرة تتجاوز الأطر التقليدية الراكدة للدخول في عصر الحداثة الذي هو حاجة ضرورية لا بد منها إذا اراد العرب ان يتقدموا في مضمار العلم والتكنولوجيا وتحديث المجتمع. فالحداثة ليست مجرد تحديث بعض العناصر المادية، وإنما هي سيرورة تاريخية واجتماعية مستمرة لا حدود لها ولا تتوقف عند درجة من درجات التطور والتقدم، ولا تتعلق بتقدم العلم والتقنية والاقتصاد والسياسية فحسب، بل بنظرة الانسان الى نفسه والى الآخر والى الكون والحياة، وكذلك الى مكانته فيها وعلاقته بمنظومة القيم والمعايير وطرائق التفكير والعمل والسلوك وما يتصل بحياة الانسان في الزمان والمكان. كما ان الحداثة تتجاوز القيم والمعارف والتقنيات الى اعادة تشكيل الانسان الحداثي من حيث هو مفهوم تنويري يخرج الانسان من قصوره الذي اقترفه بحق نفسه كما يقول كانط، هذا القصور الذي نتج من عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من انسان آخر، لأن الذنب في هذا القصور يقع على الانسان نفسه الذي لا يفتقر الى العقل وإنما الى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من انسان آخر. هذه المبادئ العقلانية التنويرية هي التي قادت اوروبا الى التقدم العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي، وهي مبادئ انسانية عالمية وليست اوروبية حتى لو كان الاوروبيون قد سبقوا الدول الاخرى في تطبيقها بعد ان توافرت عندهم ظروفها وشروطها الموضوعية. فقط بنور العقل نهضت اوروبا وتقدمت. ولم تتساءل من اين اتى الاصلاح والتحديث، من الخارج أم من الداخل؟ المهم هو ان يحدث اصلاح وتنمية وتحديث وفي كل مرافق الحياة، لأنه الطريق الوحيد للتقدم الاجتماعي والدخول في الحداثة من أبوابها الأمامية.
أما رفض الاصلاح والتحديث فهو رفض لجوهر الحداثة وقيمها التنويرية: العقلانية والتقدم والحرية والمساواة الاجتماعية. كما ان الخوف من الاصلاح هو خوف من الحداثة ذاتها، اي خوف من التنوير والتغيير والتقدم وإدخال الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي الرسمي في مأزق يكشف تخلفه وعجزه وغربته عن المجتمع الذي يعيش فيه وذلك بسبب الخطاب الاستبدادي الأبوي الذي يتربع على السلطة والثروة والجاه، وكذلك بسبب الهوة العميقة التي تفصل بين السلطات وبين المواطنين وعجزها عن مواجهة جوهر الحداثة وتحديات العولمة وثورة الاتصالات الالكترونية الجديدة. وفي الأخير مواجهة الردة الثقافية - السياسية التي افرزتها هذه التحديات وبخاصة الحركات المتطرفة والارهابية والسياسات الرجعية وما صاحبها من أحداث دموية نحيلها دوماً الى مقولات الصراع الثقافي والحضاري التي هي تبرير لها.
ان مؤشرات أزمة المجتمعات العربية وتأزمها أصبحت اليوم أكثر وضوحاً وإحراجاً، فإن أي اصلاح وتحديث لا يطالان إلا الجانب المادي والسطحي والمباشر، وبخاصة في المدن الكبرى، وما يرتبط بتحديث الدولة والسلطة والمؤسسات العسكرية والاقتصادية والثقافية ودخول عناصر المدنية المادية ومنجزاتها الاستهلاكية من دون عناصر الحضارة ومنجزاتها المعرفية والسياسية. اما الريف والمدن الصغرى فما زالت الظروف والشروط الاجتماعية والاقتصادية التقليدية المتخلفة تعوّق عملية الاصلاح والتحديث، بسبب تحكم النظام الابوي البطريركي الذكوري والأعراف والتقاليد العشائرية التغالبية التي ما زالت تقف حاجزاً امام ممارسة الحرية والتقدم الاجتماعي وسيطرة التيار الديني اللاعقلاني الذي يناهض كل تجديد وتغيير وتقدم اجتماعي. والمفارقة هي ان المجتمعات العربية والإسلامية تتقبل الحرية الاقتصادية وتطالب بالحرية السياسية، ولكنها في الوقت ذاته تناهض التعددية والديموقراطية وتجعل الثقافة حكراً على فئة اجتماعية او طائفة معينة، لأنها تعلم تماماً أن قضية الحرية والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر هي قضية الحداثة. وتعلمنا تجارب الشعوب ان اليابان او بالأحرى العقل الياباني المتفتح يتقبل الحداثة بسبب عدم وجود نصوص مقدسة لا تقبل النقاش والتأويل، وأن فصل الدين عن السياسة لا يعني فصله عن المجتمع. وبسبب العقلية المتفتحة التي لم تغلق باب الاجتهاد، تقدمت اليابان في مضمار التحديث والحداثة على رغم حفاظها على عاداتها وتقاليدها وأعرافها القومية الى حد بعيد.
من يقاوم الحداثة ليس الدين او العقيدة والمذهب، وإنما التقاليد والعادات المتحكمة في عقلية الثقافات الفرعية كالقبلية والطائفية المنغلقة على نفسها التي تريد الحفاظ على هويتها كما هي وخوفها من الذوبان، وكذلك من ضرب مصالحها وامتيازاتها. وكذلك السلطات الاستبدادية المتحكمة التي لا تريد التنازل عن مواقعها السياسية ومصالحها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية، ولذلك تجدها تختلق التبريرات الواهية لمقاومتها..
والحال ان الدخول في عصر الحداثة اصبح خياراً لا رجعة فيه ومن يتخلف عنه يفوته القطار ويصبح مهمشاً وربما يخرج من التاريخ، لأن رياح التغيير والاصلاح والتحديث ستدخل المجتمعات ليس من ابوابها الخلفية، كما كان يحدث في السابق، وإنما من اوسع أبوابها، وتصبح ممارسة لتغيير نمط الحياة وطرائق التفكير والعمل والسلوك بما ينسجم وروح العصر وبالتالي تكوين القدرة على مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة وثورة المعلومات الالكترونية والسيطرة على الوجود وتحويل الامكانات المتاحة الى قوة ديناميكية مبدعة تستطيع التحكم بآلياتها المتعددة. الحداثة ليست وهماً ولا تنزل علينا من السماء، وإنما هي مشاركة وتفاعل وإنتاج وإعادة انتاج وتنوير وإبداع يقوم على ممارسة الحرية والتعددية والعدالة الاجتماعية التي من الممكن ان توفر فرصاً أكبر وأوسع لتحقيق سعادة الانسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من يقاوم الحداثة ليس الدين؟؟؟؟
علقمة منتصر ( 2013 / 7 / 24 - 20:54 )
معالجة جيدة للعولمة والحداثة. لكن قولك بأن (من يقاوم الحداثة ليس الدين او العقيدة والمذهب) ينسف فهمك للحداثة من جذوره. القول بالحداثة يعني القول بمجتمع حديث أهم ركائزه الديمقراطية والعلمانية والمواطنية وحقوق الإنسان، وهي كلها جئت عليها في مقالك، لكن القول بأن الدين لا يقاوم الحداثة قول غريب. نحن نعاني منذ قرنين على الأقل، أي منذ بدء احتكاكنا بالحداثة الغربية من معارضة رجال الدين وتأثيرهم على العامة ضد كل خطوة نخطوها نحو الحداثة بدءا من تعليم المرأة إلى الاختلاط إلى الحجاب والسفور إلى الديمقراطية والعلمانية إلى مختلف الحريات وانتهاء من تلويث مناهج التعليم والإعلام والتكوين بالدين، بل حتى معارضة منتجات الحداثة من مسرح وسينما وتلفزة وإنترنت، قبل أن يكتشفوا أهميتها ويستحوذوا عليها ليسخروها ضد الحداثة بالذات.
إذا كان ذلك ليس دينا فماذا يكون.؟
مع العلم أنه حتى في أوربا كان الدين من أعتى أعداء الحداثة، واقتضى الأمر تحييده حتى تمكنت عفاريت الحداثة من الانطلاق بعيدا في مغامرة لن تتوقف
تحياتي


2 - تقديم رائع لكن يحتاج التعمق في طرح الاسباب
محمد سعيد ( 2014 / 9 / 25 - 20:33 )
تقديم رائع لتشخيص وضع قائم ولا خلاف حوله ,لكن لابد من طرح تسأول حق .. هل ان الاصلاح والتحديث في المجتمعات الاسلاميه عموما والعربيه خصوصا لا يتعارض كليا مع الموروث والتصورات التي تكلست عبر قراءه خاطئه للتاريخ العربي والاسلامي .
فالقراءه المأدلجه للدين جعلت النظر الي التقدم والحداثه رجس من عمل الشيطان ,عليه فاننا الان في نفق مظلم ,مما يتطلب اعاده النظر في روايات لاهوتيات الدين الاسلامي او غيره جذريا , او البقاء رهينه هذه الاوهام ,عليه سيظل التقدم والتحديث وبناء المجتمع من منظور العولمه بعيدا عن المنال.

اخر الافلام

.. حشود غفيرة من الطلبة المتظاهرين في حرم جماعة كاليفورنيا


.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس




.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب


.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا




.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في