الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكفير والانتحار.. رأي في اسس المشكلة

عارف معروف

2005 / 5 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


بدا لي الامر كما لو كان اعلانا تلفزيونيا عن مياه غازية او منتوج منزلي سريع الاستهلاك..."انا اللواء الدكتور ...عفيفي، الباحث والمحلل الستراتيجي، انتو عارفين اللواء الدكتور عفيفي ... اصل دكتور لواء عفيفي لما يتكلم لايمكن ان يقول غير الحقيقة ... الحالة دوت اصلها احتقان ناجم عن ظروف معيشية سيئة وزحمة واحتقان ...الجماعة دول ما يعبروش غير عن حالات فردية شاذة..." هكذا كان يتحدث كهل متأنق ، من القاهرة ، قدمه مذيع فضائية الحرة مساء السبت 30/4/2005 اثر تفجيري القاهرة، كخبير ومحلل ستراتيجي ، يمكن ان يوضح لنا اصل او بعض جوانب المشكلة لكن المذيع نفسه سرعان ما شعر بالحرج جراء هذا الزهو وهذه الخيلاء الفارغة تماماوآثر ، على مايبدو، قطع الحوار حفظا لماء الوجه ، فقد رأى مثلما رأينا ان الحالة" تعبير عن احتقان ناجم عن احتقان"!!
وهكذا نرى ان فهم هذه الاحداث بالنسبة لمدرسة النظام العربي ، سياسة واعلاما، والتعامل معها يتم باستمرار على طريقة النعامة بوضع الرأس في الرمال والتجاهل ، فهي دائما تصرفات شاذة ، فردية ، تعكس ازمات نفسية وحالات اكتئاب شخصية وهذا ، بالطبع ، لايحل المشكلة وكذلك القاء مسؤوليتها على فعل قوى تخريبية او مخابرات معادية تستهدف "الوطن" او "الامة " او " المسيرة"... الخ مما يحفل به القاموس العربي ونحفظه عن ظهر قلب وحتى التفتيش عن الفقر والاكتضاض وسؤ الخدمات قد يصلح في حالة مصر او الجزائر ولكنه لاينفع في حالة السعودية والكويت وقطر... اما الطروحات الاكثر منطقية وتماسكا ، التي ترد المشكلة الى تيار سلفي تكفيري يمثل فهما خاطئا ومتطرفا لروح الشريعة " السمحاء" فانها يمكن ان تقدم جانبا واحدا من جوانب المشكلة لكنها لا تجيب عن السؤال لماذا الان؟ فلقد كان ابن تيمية موجود باستمرار وكان مفهوم التكفير والفرقة الناجية قديما قدم التاريخ العربي الاسلامي فلماذا الان وبهذه السعة ؟ وفي اوساط الشباب وبهذه الوسائل ؟ ولماذا الانتحار ؟!.فحتى في بريطانيا رفضت جماعة " الفرقة الناجية" الانتخابات وعدتها كفرا وتجاوزا على الشريعة، وفي سلطنة عمان ، التي تتبع المذهب الاباضي ، القي القبض مؤخرا على مجاميع وتنظيمات اصولية سرية تضم الكثير من الشباب الموسرين ذوي الثقافة الدينيةاللذين كانوا مايزالون في طور " الدعوة السرية"لبناء المجتمع او الدولة الاسلامية "الصحيحة".
ان الفكر السياسي السائد ، يطرق جميع الابواب في بحثه لهذه المسألة ويتجاهل او يحاذر اهمها على الاطلاق ، ذلك الباب الذي يمكن ان يسهم حقا في تقديم اجابة ممكنة بل مفيدة : دور الصراع بين البنية الفكرية والثقافية التقليدية للمجتمع العربي الاسلامي واعادة انتاجها اولا وتهديد المدنية الحديثة وصيغتها المعاصرة ، العولمة ، لهذه البنية التقليدية وضغطها اليومي عبر ثورة الاتصالات لاكتساح اسس وقيم هذه البنية واشاعة قيم الحداثة او التغريب او الامركة وهو ما تعتبره الاولى تهديدا مصيريا بل ومميتا ثانيا ، وما قدمه النظام العربي التقليدي ويقدمه حتى الان من حلول توفيقية وصيغ زائفة للالتفاف على المشكله وعدم مواجهتها ، فتبجيل التقليد الموغل في القدم ورعاية اكثر الافكار والمؤسسات محافظة وبعدا عن المعاصرة واطلاق يدها في ميادين واسعة للتأثير، الفكري و الاجتماعي، يجري جنبا الى جنب مع الادعاء باشاعة قيم العلم والحداثة والمقرطة للتنعم بنعيم موهوم وحلم زائف بتحقيق انتقائية مستحيلة تأخذ من كل جانب خير مافيه . لقد عبر احد القادة السعوديين عن ادراك سليم يبز الكثيرين من ادعياء العلمانية والتحديث، لجانب مهم من المشكلة ، حينما القى بالملامة على الاخوان المسلمين وقال انهم يكمنون في خلفية هذه الاحداث ، كمدرسة وتعليم!.
ان المواجهة بين البنى الاجتماعية العربية التقليدية ورغبتهاالمتشبثه بالاستمرار والمعاصرةاو الحداثة في صيغتها الحالية المهاجمة ، العولمة ،وحضورها التفصيلي الضاغط في كل مفاصل الحياة المعاصرة ، او تزايد الشعور والاحساس بهذا الضغط ، عبر وسائل ومبتكرات الاتصال والتواصل : محطات فضائية ، انترنت ، هواتف نقالة ومتلفزة... الخ اضافة الى ماسبقها من سينما وتلفزيون وكتب ومجلات وغيرها، وشيوع وسهولة انتقال سيل المعلومات والاخبار والصور وعبرها المفاهيم والقيم والسلوكيات والايحاءات جعل الاولى تدرك انها تواجه خطرا ماحقا وتهديدا يوميا لاهم اسسها ، الامر الذي لم يكن بهذه الحدة قبل سنوات قلائل ، زمن الكلمة المكتوبة ورق الفلم المستورد مما كان يسهل التعامل معه بالمنع والاقصاء.
هذا من جانب ، اما الجانب الاخر الذي يهيء الارضية لردود الفعل العنيفة فهو ان هذه المجتمعات وبناها التقليدية والهجينه نفسها وصلت الى مخانق غير مسبوقة لعتبات التكيف وبات عبور هذه العتبات في غاية الصعوبة بالنسبة لها انها اليوم تبدو حقا في صورة الرجل المريض الذي لا امل في شفاءه واذا اخذنا بالاعتبار ان المجتمعات العربية هي مجتمعات " شابة"بمعنى ان الشباب يمثلون الغالبية المطلقة من السكان ادركنا اية ازمة نعيش . فالشباب يواجهون طريقا مسدودا لا يعد بشيءومجتمعاتهم وانظمتها ليس لديها سوى ترانيم المهد القديمة التي لم تعد تكفي . ليس امام الشباب ، اذن، الاّ مهربين: الهجرة الى الغرب وهو امر غير متاح للغالبية العظمى او الهرب الى العالم الاخر ، وهذا هو ايسر السبل التي تعد بنعيم سهل وخلاص في متناول اليد!
ورغم ان لهذه الازمة تعبير شائع عام هو الرفض والتكفيركاساس او نظرية والعنف والانتحارية كممارسةاو سلوك لكن تجلياتها الاقليمية تختلف الى هذا الحد او ذاك من ناحية دوافعها التفصيلية فأذ تمثل في السعودية او اقطار الخليج ردة فعل فكرية وثقافية وشعور طاغ بضرورة تأكيد الهوية ازاء تهديد قيمي وثقافي ماحق ، فانها تختلط في بلدان اخرى كمصر والجزائر بالازمة الاجتماعية والطريق المسدود الذي يواجه جيل الشباب اقتصاديا واجتماعيا وفكريا ... في حين تتشابك في العراق مع مقاومة الاحتلال والطائفية .
ان الاصل في المشكلة حضاري ، ان الفكر والثقافة التي قدمت خلال خمسة عشر قرنا تصورا معينا للوجود وللعالم ، غاية ووسيلة، وحددت وجود وحركة وافق البشر هنا ، لاتريد ان تقصى وتهمش لتصبح مجرد لون فولكلوري ، مثل ملابس ورقصات الهنود الحمر، ان الاصل في المشكلة هو ازمة تاريخية ونهاية طريق، او طريق مسدود في حقيقة الامر، ان لم نقل انها تشنج من تشنجات الاحتضار . ان ابن لادن ومدرسته يجدون اساسهم الفكري والسلوكي الاكثر وضوحا في " اخوان بريدة" ، السعوديون الذين اتبعوا السلف في كل شيء ، او ارادوا ذلك ، وكفّر بعضهم حتى من يركب السيارات الحديثة بدلا من الخيل والدواب بل وحّرم آخرون الطرق الاسفلتية الحديثة داعيا الى سلوك النياسم الترابية ! انه رفض خالص ، واضح ، صريح للحضارة والمدنية الحديثة ، خصوصا وقد اتخذت شكلا هجوميا خطير التهديد ، في صيغة العولمة الحديثة . لقد لاحظ الباحث الانثروبولوجي مورغان لدى بعض الجماعات البدائية قبل قرن ونصف من الزمان انهم حرّموا المسامير الحديدية رغم حاجتهم القصوى اليها في صنع قواربهم وبيوتهم الخشبية ورغم انها تمثل تقنية تختصر الكثير من الجهد والوقت لديهم وفضلوا عليها الالياف وحبال القنب ، لقد تركزت المدنية الغربية ، الحداثة ، الغازية والمرفوضة بالنتيجة ، بالنسبة لهم ، وتشخصت في "المسمار" الذي اصبح رمزا لها في ذهنهم ولذلك حرم وعدّ من عمل الشيطان! ان بن لادن او السلفية او التكفيرية لاترفض جل مبتكرات الحضارة الحديثة المادية والميسرة للحياة ، بل هي تستخدمها ، وكذلك لا تعادي امريكا او الغرب على اسس اقتصادية او اجتماعية ، انها ترفضها كقيم ثقافية وافكار وسلوكيات ، باعتبارها تهديدا للوجود ، الذي هو هنا الثقافة .. الهوية.
وبالنسبة للغرب وامريكا بالذات ، يمكن القول انه يواجه في المنطقة العربية نوعا من مشكلة التخلص من " اسلحة قديمة" اهتم بتهيأتها وادامتها طويلا خدمة لاغراضه الخاصة في المنطقة والعالم لكن التعقيد الحالي هو ان هذه الاسلحة تهدد بالانفجار في وجه صنّاعها القدامى ، الذين يرومون التخلص منها ، وسط مخزن البارود القديم! واذ تتصدى قائدة العالم الغربي ، او الرأسمالية او العولمة ، الى هذه المهمة بصراحة ووضوح، باعتبارها ضرورة راهنة ، فأن النظام العربي لا زال يتردد طويلا ، مؤثراالاحتفاظ بأسلحة عزيزة ومعدات حبيبة الى النفس متمتما مع ذلك الفيلسوف اليوناني الحزين الذي طولب بالتخلي عن اشياءه " لم يبق لي سواها"، متناسيا ان شحن وحفز عواطف الشباب الذي يمارسه " عمرو خالد" مثلااو غيره ويحضى بتمويل ودعم ولهفة اجهزة الاعلام والتوجيه العربية هو احد مصادر الزيت لطاحونة الموت والانتحار. ان حلول هذه المشكلة ، هذا الناتج العرضي ، ولكن الحتمي لصراع الحداثة والتقليد،او الاصالة والمعاصرة ، في منطقتنا هو بتسريع التحديث واشاعة قيمه الفكرية والثقافية والاجتماعية . بازاحة التوافقية والحلول الوسط والانتقائية واللف والدوران في الحلقة المفرغة ذاتها . في الحقيقة يتعين على النظام العربي ان يتخلص من جناحه التقليدي المحافظ لكي يستطيع التكيف والبقاء في عالم اليوم رغم الضعف المأساوي الذي لاحظته امريكا نفسها للجناح الليبرالي او مايمكن ان نطلق عليه ، تجاوزا ، هذه التسمية . فالمؤسسة الثقافية الدينية باسسها والياتها الحاضرة تسهم ، بصورة حتمية لا فكاك منها، في انتاج اكثر تجلياتها تطرفا : الفكر التكفيري ومنظماته الدموية. كما يتعين على العلمانيين والمثقفين ودعاة التقدم وبعض تيارات اليسار العالمي واعداء العولمة ان يعيدوا حساباتهم جيدا ويمحصوا مواقع اقدامهم ، فليس كل من يواجه امريكا والغرب هو عدو للامبريالية يجب ان يحضى بالدعم والتحالف ، ان هؤلاء لا يواجهون امريكا والغرب كنظام اقتصادي / اجتماعي بل كقيم روحية وثقافية ، لقد واجه الهنود الحمر في امريكا زحف المدنية الرأسمالية ، ولابد ان يشعر كل ذي حس انساني مرهف بالاسى لمصيرهم ، حيث اكتسحتهم المدنية الراسمالية وانقرضوا مثل الديناصور او اصبحوا مجرد ملمح فولكلوري متحفي لكن الامر لايتعلق بالعواطف فقد كان من المحتم حصول ما حصل ، وليس من العقل او التقدمية او الانسانية في شيء ان تجد من يحدثك عن الواجب في دعم الهنود الحمر انذاك ضد الراسمالية الصاعدة . وثمة مثال اخر ، فقد اتخذت ردة فعل او ثورة العمال اتجاه قسوة وفضائع الاستغلال الراسمالي ، مطلع الراسمالية ،طابع تحطيم الالات وتدمير المصانع ، باعتبارها مصدر الشرور وسبب المعاناة، لكن ماركس رأى في ذلك سلوكا رجعيا ينم ، في الجوهر،عن الجهل ومعاديا للعلم والتقدم اللذين يعملان ، كما راى آنذاك، لصالح العمال وقضيتهم التاريخية . لقد وقفت بعض هذه القوى وما تزال موقفا لاتحسد عليه بتجاهلها لمعاناة الشعب العراقي الاليمه ووقوفها الى جانب انظمة وحشية اهلكت العباد ودمرت البلاد باسم الوطنية ومعاداة الامبرياليه ، وهو مايشبه مناصرة هتلر لانه يحارب الامبريالية البريطانيه . لقد حاربت امريكا الطالبان فهل يمنح ذلك الطالبان وجها انسانيا او طبيعة تقدمية ؟! ان تيارات التكفير والانتحار تقف على يمين الامبريالية ان صح التعبير، انها رد فعل عاطفي عنيف اتجاه وقائع وسيرورة الحياة المعاصرة يبغي التمسك بالقديم ويحفزه حب جارف الى ماضي يرى فيه مثالا مطلقا، ان رفضها لا يتضمن أي بديل او برنامج بنائي . ان غايتها ووسيلتها حاليا هي الموت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمات إنسانية متفاقمة وسط منع وصول المساعدات في السودان


.. جدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن الخلافات العلنية داخل




.. أهالي جنود إسرائيليين: الحكومة تعيد أبناءنا إلى نفس الأحياء


.. الصين وروسيا تتفقان على تعميق الشراكة الاستراتيجية




.. حصيلة يوم دام في كاليدونيا الجديدة مع تواصل العنف بين الكانا