الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : ما الحكمة

بديع الآلوسي

2013 / 7 / 27
الادب والفن


في قديم الزمان ، وفي عام 64 ميلادي تحديدا ً ، شب ذلك الحريق ، حريق دمر ثلثي روما واستمرت النيران لمدة خمسة ايام ، حيث دمرت ثلاثة أحياء تماما ً ، ونجى ذلك المعبد المعزول .
في هذا المعبد ثمة شاب نحيل ، ترك الناس لأنه له موعد مع نفسه وصديقه ، قرر غلق الأبواب والشبابيك كي لا يدخل الدخان ، حينها قل وهج الشمس ، روحانية وهدوء المكان حفزتاه أن يتأمل شعاع الضوء المتسلل من الكوة الصغيرة جدا ً ، حينها تساءل : هل سيأتي ؟ ، اقترب من المذبح ورسم ثلاث قلوب ، واحد له ، والثاني لأمه وأبيه ، والثالث لروما التي احترقت وتحترق كل يوم .
ذلك الشاب هو هيروس المحب للحكمة والحياة ، بعينين شاردتين كان ينظر الى الأيقونه المصنوعة من خشب البلوط ، ما ينتابه من اضطراب جعله يتحرك كشخص إرتكب جرما ً ، نعم فقد كان يطلق آهات ضجرة ، حينها إزداد في رأسه الألم وسقطت دمعتان على خديه .
ظل ذلك الشاب أبن الرابعة والعشرين يحدق في ضوء الشمس المنبعث من الكوة ، ببهاء النور الذهبي خفف وطأة الضيق التي يكابدها .
حين تطلع من النافذة رأى الخراب وتذكر ما ينتظره . نعم ، عليه أن يتخذ جملة من القرارات ، خاصة ً بعد أن نكل بأعز أصدقائه تباعا ً .
هيروس الذي أحب نفسه لأنه أحب روما ، اليوم هو أكثر خيبة لأن مدينته إبتليت بإمبراطور متجبر وطائش .
منذ الصباح وهو لم يعد قادرا ً أن يجتاز ذلك الإمتحان بيسر ، حيث أن ما سيقرره مريع ومصيري أكثر مٍمّا يتصور قسطنطين ، وكاد ذلك الاختيار الحاسم أن يقهره .
قال أخيرا ً : ما الحكمة في كل ذلك يا ( نيرون ) ؟ .
في هذه الفوضى وتعكر المزاج ، كان ينتظرأمرا ً ينتشله مما هو فيه ، ويهديه لأي حل آخر غير مغادرة مدينته ، التي طعنتها الحروب كقدر يبعث على الاشمئزار .
فكر بأبيه الذي قال له : كن رجلا ً ، ولا مجد لنحلة في خلية قد احترقت وأنهارت ، فكر بأمه التي تنتظره بفارغ الصبر كي تقول له : سآتي معك . فكر بالحروب التي تقتل الحلم وتضعف الإيمان .
وبما أن مشكلة هيروس خطرة بمنعطفاتها ، لذلك قرر وبرغم ما يعانيه قلبه من إحباط أن يتمسك بخيط الأمل وبحلم جميل هو أثنيا .
في هذا المعبد كان يحاول ان يرهف السمع الى صوت آلهة الحكمة ( منيرفا ) ، التي تمكث في قلبه مثل لؤلؤة في محارة . إتكأ على الكرسي الحجري طالبا ً العون . سؤال واحد ساوره ويتردد في ذهنه : كيف أتخلى عن من أحب وهم بحاجة إلي ؟
إنتبه الى تلك القطة التي تسللت من الكوة ، أمسك بها بأصابعه النحيلة وسألها : هل من الحكمة الذهاب الى أثينا ؟
كان على قناعة أن ترك الآخرين يقررون نيابة عنه ، أشبه بمن يصغي لوحي لا يهب سوى خيارات كاذبة ، لذلك أتى الى هذا المعبد كي يّكون قراره حرا ً ، في الوقت نفسه تمنى تجاوز أزمته بأقل الخسائر مِن دون أن يعرض روحه للشقاء أو التهلكة .
قال بصوت رزين ويائس :
ـ لا جدوى من البقاء ، صديقنا (غاريوس) قد اعتقل هو الآخر.
رغم كل ما يجري ، راود هيروس هاجس عابر هو أن صديقه لا يفهم في ألم الفراق لأنه لم يجربه ، ويتوقع أن رؤية البلدان الغريبة ستداوي كل الآلام ، لذلك قال له :
ـ أنا خائف من هذه المغامرة .
ـ عندما يخاف الإنسان يتراجع عن مبادئه .
كان هيروس بأمس الحاجة إلى تلك العبارة التي ظلت ترن في ذهنه حتى وصل البحر .
وبدأت الرحلة ، أغلق باب المعبد جيدا ً ، نظر لآخر مرة إلى بساطة معبده الصغير الجميل ، الذي أسهَم ببنائه هو وجده ووالده لأنهم أحبوا التعاليم .
بعد أربعين دقيقة ، مرا بتلك الجادة الترابية التي عصف الحريق بأسواقها ، وأستغرب من أهالي روما ، الذين كانوا يثرثرون وكأنهم غير معنيين برائحة الدم والحرب التي خنقت الحريات وأفسدت كل شيء .
قال له قسطنطين :
ـ إذا ما وصلت أثينا ، ورأيت القمر .. تذكرني .
أرتبك هيروس ، وبوجل قال :
ـ تأكد إني لن أنساكم .... صمت قليلا ً ثم قال مبتسما ً:
ـ أثينا إلى الآن مجرد حلم .
وقبل أن يجتازا السوق وجدا جمهرة من الناس يتناقشون في ما بعد الموت ، وبعضهم يناجي كبير الآلهة( جوبيتر ) بتخفيف العقاب .
قال لقسطنطين وهو يضحك : لماذا لا يسألون إله الحرب (مارس ) ؟ لماذا والى متى تحترق روما ؟
عند أطراف المدينة أعطاه قسطنطين ذلك الخُرج المنسوج بأنامل حبيبته ، تعانقا ، وشرع هيروس برحلته ، متنقلا ً بين القرى والوديان التي لم يألفها من قبل ، والتي ظلت عالقة في ذاكرته .
كانت التعاسة تنتابه أحيانا ً، وفي بعض المرات يبكي على روما ، لكنه طوال رحلته وحيثما يرى طائر الحسون يقف ويقول له : أذهب وبلغ أمي إنني بخير.
بعد أسبوع ، دخل قرية تحف بها أشجار السرو والبتولا ، ما إن خرج منها حتى أحس بالتعب من تلك الدروب ، التي حقا ً تدرب الحواس وتيقظ الوحشة أيضا ً .
جلس عند ذلك النهير وسأل عصا الصنوبر : نحو أي جهة أتجه الآن ؟.
ما أن رأى العصا تتحرك متجهة ً نحو البحر ، حتى راوده إحساس أن روح أبيه تسكن تلك العصا ، وصار يحدث أباه عن الكهف الذي أوى إليه ، وصار قلبه يخفق بينما هو يتحدث عن الحقول وسخائها ،وكيف أنه كان يشكر آلهة الزراعة (ستون ) يوميا ً، ولم ينس أن يذكر له أن الضجر يتسلل إليه ويعض قلبه ليلا ً .
يا له من زمن عجيب حقا ً ، أتاه صوت بليغ ، صوت أبيه الذي لا ينسى ، ليتحدثا معا ً نصف ساعة ، الصوت بارك خطوته ، وأخبره أن طائر الحسون أدى واجبه ، وكان وفيا ً و مخلصا ً للعلامات .
وفجأة ً انتبه ، ليراها تقف بجواره ، بثوبها الأبيض الطويل المطرز بالفراشات . حينها فرح برؤيتها ، كأن آ لهة الحب ( أفروديت ) بعثت بها . نعم ، تلك الفتاة أتت في موعدها ، محملة ً برائحة البخور التي تفوح منها . حيث أنها قد سمعت وتعجبت وابتسمت وبكت ، لكنها لم تتردد وفاضت روحها بسؤال صغير:
ـ هل أنت مجنون ؟
ـ لا
كان يصغي لها متلذذا ً بنغمات صوتها ، حدثته عن أبيها الذي قتل في الحرب ، عن عمها الذي غاب في ظروف غامضة ، وعن محصول القمح والذرة وكيف عبثت به الجرذان ، وحين انتهت من كل ذلك ، نظرت اليه بعينين فرحتين وقالت :
ـ حسنا ً الآن، هل تحب أن اجلب لك قليلا ً من التين ؟
أجابها مبتسما ً:
ـ شكراً لك ، سأجده في طريقي.
تنهد هيروس بعمق وهو يصغي للفتاة المسترسلة في حكاياتها ، وظلت صورتها تطارده كملاك يضحك بزهو . منذ النظرة الأولى ، غمرته بفرحها وعوضته عما أنتابه من تعاسات خلال السنة المنصرمة .
وطيلة الرحلة ، لم يجد تفسيرا ً لذلك اللقاء الذي لم ينس , بنهاره الصافي وشمسه الذهبية ، ووجه( إرثيا ) العامر بالأنوثة .
بادلته نظرة غامضة وهمست :
ـ أنا سعيدة بمعرفتك ، لكن إلى أين تريد أن تذهب ؟
حينها أحس أن اللقاء بإرثيا أشبه بالحلم ، لذا ود َأن يكون إيجابيا ً ويحافظ على طراوة اللقاء ، فأجاب :
ـ أريد أن أذهب لرؤية البحر.
ـ البحر ؟ !
ـ نعم ،.... صمت ثم أردف
ـ يقولون إن البحر كبير مثل السماء
وضحكا معا ً. لأنهما لم يتصورا أبدا ً أن الجو والبر والبحر كل لا يتجزأ .
في تلك اللحظة كانت عواطفهما مندهشة بحُسن المصادفة ، وغاب عن ذهنيهما لساعتين ما يدور في روما ، متجاهلين ما يدور بذهن نيرون من جنون أيضا ً، شعرا أن الحياة لهما ، ولم يكترثا حتى للقدر الذي بعد ساعة سيجهض كل شيء .
في أثناء حديث أرثيا معه شعرت أنه يخفي سرا ً خطيرا ً ، فضولها قادها إلى ذلك التساؤل :
ـ ماذا تعمل ؟
ـ حاليا ً لا أعمل ، لكني أتمنى أن أ ُعلم الصبيان ما الحكمة .
ـ الحكمة ! ؟
ـ نعم ، ألم تسمعي بتلك الكلمة الساحرة ؟
ـ لا ...
نهضت ، وقبل ان تنصرف أرادت أن يكلمها عن العاطفة ، أو لماذا حين نحب نشعر أننا أكثر جمالا ً ومرحا ً؟ ، لكنها استدركت وبخجل سألت :
ـ من هي تلك الساحرة
وهو ينظر إلى عينيها غاب المعنى عن باله ، متذكرا ًأنهما سيفترقان لا محالة ، حينها قال بصوت مشبع بالحنين:
ـ سأعود يا إرثيا ،حينها سأتذكرك ، سأقول لك بأبسط الكلمات ما تعني .
وقبل أن ينتهي زمن المحبة ، قطفت الفتاة ذات الثوب الأبيض زهرة ( الآستر ) الحمراء وقدمتها له . ثم شعرت ولأول مرة بمرارة لم تذقها من قبل ، كأنها فقدت جزءا ً من حواسها في غفلة من الزمن ، برغم ذلك تشجعت وقالت .
ـ سنفترق ، ولا أعرف متى تعود ، وربما لا تعود أبدا ً ، وغدا ً ستذبل الوردة َأيضا ً... صمتت حائرة ، وأخيرا ً عثرت على ما تود قوله :
ـ أحتفظ بالوردة ربما تساعدك في العثور على الحكمة ، لكنها ستجلب لك الحظ حتما ً.
ما أن اختفت راكضة ً حتى ضاقت نفس هيروس ، هربت إرثيا دون أن تقول وداعا ً، نعم ، إنها خجلت من أن يعرف أنه أول حب .
وما أن وضع الوردة في خُرجه ، حتى تذكر ، بطش نيرون ، الذي لا هم له سوى قتل الحب وتدنيس الحلم وطعن الأمل . حينها أحس بالخذلان ، وبدأت مقاومته للتخلص من الحيف والوجع ، صرخ بأعلى صوته :
ـ ما الحكمة في كل ذلك يا نيرون ؟
كلما كان هيروس يبتعد عن روما يشعر أن حياته أقل خطرا ً ، وبعد ثلاث أيام من رؤية الفتاة التي لا تعرف ما البحر ، قرر أن يترك ليومه الخيار ، مفضلا َ أن يوازن بين راحة النفس وعناء الجسد ، نعم ، أراد أن يستمتع بلحظات القيلولة .
في تلك الساعات ، من نهار تموز الساخن ، أحس أن وحي التأمل ربما سيساعده لمعرفة الحكمة . صمم أن لا يفكر بشيء ، متمتعا ًبالإصغاء إلى الصمت . وصل بعد الظهر ذلك الشلال المدهش الذي يسقي تلك البحيرة ، ارتعش جلده وانتعشت روحه عندما سبح بلذه في تلك المياه القارصة ، واكتفى بتذكر عيون إرثيا ونظراتها الحريرية ،حينها رأى وعلا ً بريا ً ينحدر كالمجنون صوب البحيرة ، متلذذا ً بعذوبة الماء ، لكنه فجأة ً جفل ، دون ان يسأل هيروس ماذا تفعل هنا ؟، هرب واختفى بين الأدغال وهو يتلفت باستغراب بين الحين والأخر ، إبتسم هيروس وقال له ضاحكا ً : البحيرة بحيرتك ، وأنا لست إلا ضيفا ً .
وقبل غروب الشمس صار هيروس يركض ويرقص في تلك الطرقات ، كانت العصا وقلبه لا يخشيان الدروب الوعرة التي ستؤدي إلى البحر ٍالذي إذا ما خاض غماره سيصل أثينا .
وقف مرات ٍ عدة متأملا ً المسلحين الرومان الذين سألوه وهم يضحكون : إذا أعجبت بامرأة ماذا تفعل معها . بعد عشرين دقيقة اقتربت منه سيدة وأشارت لطير ملون ينط من غصن إلى آخر كراقص بارع ، قالت له وهي تقطف زهرة عباد الشمس : أتعلم أن عصفور (البينو) هذا سيموت غدا ً .
تجول بمرح حتى المساء غير مبال ِ بالموت ، ليصل أخيرا ً حظيرة الماعز المهجورة ، قال : هنا سأنام .
في تلك الزريبة كان الليل موحشا ً ، أحس بالجوع والعطش ، قال مخاطبا ً قسطنطيبن : بحق ( منريفا ) ربة الحكمة , أن الوحدة لها سطوة الكابوس . بعد دقائق تذكر أمه التي كانت تريد أن ترافقه حتى ولو إلى الجحيم ، تلمس قبعة القش وقال ساخرا ً : أذا ما خذلني ( جوبيتر ) سأسقط صريعا ً كذبابة في شبكة عنكبوت .
كان يقاوم الألم ، متذكرا ً لحظات الماضي الحلوة ، لكنه حاول التملص والتحرر من هذه الأفكار اللذيذة أيضا ً، وقال بصوت أجش : الالتفات إلى الماضي يُحيط العزيمة .
كان فخورا ً بتجربته ، حينها شعر بالغبطة والأمل وصرخ بتحد :
ـ ما الحكمة يا نيرون من كل ذلك .
ومع شروق نهار جديد ، مضى الى هدفة ، لتمر ثلاثة أيام بلياليها ، كان يمشي ويمشي ويمشي ، متيقنا ً أن كل خطوة نحو الهدف تحمل البشرى والنجاة ، رأى ما رأى ، لكن ما أن وصل قرية ( موزياس ) حتى أخبروه : ستصل إلى البحر بعد يومين . كانت روما حاضرة في ذهنه ، لكن صدى كلمات الهة الحب ( أفروديت ) كانت أكثر حضورا و بريقا ً ، كانت مفرداتها كأغنية رومانية تدخل شغاف القلب مباشرة : إرادتك عنقاء جامحة تصعد بك اعلى من الغيم ، إرادتك تنين مجنح يحلق بك نحو الفردوس .
بعد يومين ونصف وصل إلى البحر أخيرا ً ، وقف على أعلى صخرة يتأمل ، حينها غمره الاندهاش الأول ، وخانته الكلمات للتعبير عن مشاعره ، برغم ذلك قال : ياه ، أنه مستنقع مرعب . وذهل أكثر حين سمع نداء ًضاحكا ً يأتي من البحر : ها ها ها ، لم تعرفني بعد يا هيروس .
كان الساحل يهيمن عليه غروب شمس عجيب ، وصيادون ينتظرون رزقهم . لكن ما لفت انتباه هيروس ذلك العجوز الطاعن في السن وهو يعيد السمكات الصغيرات إلى البحر ، سأله :
ـ ما الحكمة في ذلك ؟
لكن العجوز( كانيوس ) تجاهل السؤال لأنه أراد معرفة أمر ٍ أكثر أهمية :
ـ من أين جئت ؟ وأين عثرت على هذه القبعة ؟
هيروس لم يجب بأية كلمة ، كأنه قرر التكتم على أسراره ، ولم يعد يكترث بذلك العجوز الفضولي . لينهض العجوز هاما ً بالانصراف واضعا ً كيسا ً على الصخور وهو يقول : حفنة الزبيب هذه لك .
قضى هيروس تلك الليلة على الساحل برفقة النجوم والكلاب السائبة التي تطارد بنات آوى .
في صباح اليوم التالي ، لم يندهش العجوز ، وكأنه كان يتوقع رؤية هيروس ، وما إن وجده جالسا ً على تلك الصخرة ، حتى قال له بأريحية دون تكلف : صباح الخير يا ولدي .
جلسا وتحدثا عن الفرق بين المحارب والصياد ، ووقفا مطولا ً عند شائعات الحرب بكرها وفرها ، وكذلك تحاورا عن الطموحات بأحوالها المختلفة وكيف تغير مصائر البشر .
بعدها رمى العجوز بشبكته إلى البحر وهو يقول:
ـ أظن , ما دمت تبحث عن سفينة ، هذا يعني أنك تبغي خلاصا ً ؟
قال هيروس بصدق :
ـ نعم يا سيدي .
كان صوت العجوز كانيوس متحديا ً, بغضب قال :
ـ بدأت أمقت الحرب ، وأكره نفسي ، وأكره روما .
وحين لم يجب هيروس وألتزم الصمت ، أردف العجوز:
ـ لماذا لم تقل شيئا ً؟
ـ لأني اعتقد أنك تعرف كل شيء .
ظل صامتا لبعض الوقت ، وهما يتأملان خط الأفق الذي بعده أثينا والمنفى وربما حروب أهلية صغيرة ، مراقبين البحر الذي يتلون، ظلت الأنسام تحرك الأمواج و تهيج الذاكرة أيضا ً. كان العجوز شاردا ً لما سأله هيروس :
ـ أتظن ، من الضروري أن أرحل إلى أثينا ؟
ـ إله البحار (نيوتن) أعرف بذلك .
وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث اكتفى الشيخ بسؤال مقتضب :
ـ ماذا يلزمك لمواجهة الموقف ؟
ـ الشجاعة الكافية يا كانيوس
ضحك الشيخ بعد ان سحب شبكته التي إصطادت سمكة كبيرة، قال
مبتسما ً ، كأنه قرأ ما يدور في ذهن هيروس :
ـ أن تصل البحر بقبعة وعصا فقط ،هذا يعني أنك بطل .
ما أن صمت العجوز ، حتى صار هيروس يردد ذلك السؤال طيلة ذلك اليوم : هل إنقاذ الذات بطولة؟ .
نعم ، هيروس البطل أحس بتناقضات كثيرة , كان يود العودة مكتفيا ً برؤية البحر لولا أن حياته كانت مهددة حد الموت ، واصل طريقه مصغيا ً إلى صوت ( منيرفا ) التي في قلبه ، مرددا ً :
ـ ما الحكمة في كل ذلك يا نيرون ؟
في الصباح اليوم التالي ، كان البحر عاتيا ً ، والريح عاصفة ً ، ولم يصادف سوى أربعة صيادين ، أوضح أحدهم قائلا ً : إن (جوبيتر ) وحده من يعلم متى ستصل السفينة ، لكن ليس قبل ثلاثة أيام .
لم يعرف ماذا يفعل ، كف عن الكلام ليوم كامل ، لكنه أصغى خلالها إلى البحر ، تحاورا معا ً عن الربح والخسارة
سار على امتداد الساحل ، مؤمنا ًبرحمة ( جوبيتر ) ، منتظرا البحارة الذين سيبحر معهم الى أثينا .
في ذلك المساء سقط على قلبه نداء غريب وواضح :
ـ عليك الرجوع .
ـ لكن نيرون لا يرحم
ـ إذن لا تجزع .
ومن حسن حظه أن العجوز عاد ليلا َ ليتسامر معه ، تمهل قبل أن يقول له : سمعت هاتفا ً يأمرني بالعودة إلى روما .
ـ أنك يا هيروس بحاجة إلى النوم ، إلى الراحة التي تضيء قلبك .
ـ مللت الانتظار ، متى تأتي السفينة ؟.
ـ ستأتي ، أنا متأكد أنها ستأتي .
ـ متى ؟
ـ في الوقت المناسب .
تكاثفت الغيوم , مّما حدا بالعجوز أن ينتشل هيروس من وحشة الليل وصرخات الشياطين التي تنكأ جروحه . دون تردد قال له وهو يضحك :
ـ قم ، إن نمت هذه الليلة وحيدا ً ، سيلتهمك تنين البحر( فولكن ) .
اجتازا سوق العطارين ، واتجها نحو درب ضيق ، ليصلا كوخ كانيوس .وحين دخل هيروس وجد مكانا ًمتواضعا ً لكنه جميل ببساطته ، مكان آمن ومشبع برائحة السمك ، بعد العشاء بقليل قال كانيوس كمن يكلم ولده :
ـ عليك بغسل ملابسك ، مادمت عازما ًعلى السفر.
ـ فعلا ً ،... صمت وكأنه تذكر شيئا ً ما ، ليقول :
ـ أعتقد أن بقائي سيطول .
ـ إذا قلت لك : السفينة سترسي غدا ً؟.
ـ غدا ً!؟
صمت العجوز ولم يجب ، لكنه بعد خمس دقائق سأل مذكرا ً هيروس :
ـ لكن هل فكرت مليا ً ؟.
ما إن غط كانيوس بأحلامه كطفل ، حتى صار السؤال الأخير موجعا ًو موحشا ً . لكن الاسترخاء والهدوء عادا به الى المعبد الذي أحبه ، والى القطة التي سألها : هل من الحكمة الذهاب الى أثينا ؟ ، والى إرثيا التي قالت له : من هي تلك الساحرة ؟ وإلى وإلى ..
ساورته قشعريرة مقرونة بالفرح والرهبة في آن واحد ، بدأ يخمن أن البحر سيحرره ويطهره من سطوة ذلك السؤال المزعج : أذهب أم أعود ؟.
لكن بما أنه إلى الآن على البر يحلم ويتألم ، لذلك قال في خلده قبل أن ينام :
ـ آه .. يا هيروس المسكين ! ماذا عليك ان تفعل بالضبط ؟

بعد يومين أشرق الصباح . يا لها من لحظة ، كان قلقاً حين رأى السفينة ترسو قرب الساحل . في آخر النهار ، وقبل ان تأزف ساعة مغادرتها في عباب البحر المكفهر المزاج . رمى هيروس عصا الصنوبر على الرمال ، وقال لها بلهجة حازمة :
ـ يا من تعرفين الدروب , أين أتجه الآن ؟ . 1 /11 /2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي