الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من طروادة إلى بغداد

صبحي حديدي

2005 / 5 / 10
الادب والفن


خلال استقصاء بحثي كنت أقوم به مؤخراً حول الدلالات الرمزية الكبرى التي خلّفتها وتخلّفها مدينة طروادة في المخيّلة الإنسانية قديماً وحديثاً وعلى مرّ العصور، كنت أدرك مسبقاً أنّ وقائع حصار وسقوط وتدمير هذه المدينة ـ الرمز الأعلى صنعت الحكاية غير الدينية الأكثر سرداً وتناقلاً وإلهاماً واستلهاماً على مدى التاريخ. ما أدهشني حقاً، أو بالأحرى أذهلتني مساراته التاريخية والجغرافية والثقافية الواسعة، أنه توفّرت في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية هذه الحزمة أو تلك من الشروط التي تشجّع على استعادة الحكاية، وتعيد استثمارها بما يخدم سلسلة من الوظائف الإيديولوجية والأخلاقية والسياسية والتعبوية والمعنوية والثقافية...
وفي أزمنتنا المعاصرة هذه، حين تبدو الإمبراطورية الأمريكية وكانها تستأنف ما انتهى إليه السلامان الروماني والبريطاني، لا تقفز أمثولة طروادة سريعاً إلى وجدان المحاصَر وحده، بل تتلبّس سلوك المحاصِر بدوره. ولم يكن غريباً أن يقرر الصحافي الأمريكي نيكولاس كريستوف الذهاب، عشية الغزو الأمريكي للعراق قبل سنتين، إلى المكان الوحيد الجدير بالمناسبة الوشيكة: خرائب طروادة، في تركيا المعاصرة، على مبعدة أميال من بغداد وساحات الذبح القادمة في العراق!
ولقد كتب ما يلي: «أدوات الحرب تبدّلت على نحو فائق خلال 3200 سنة، لكنّ البشر لم يتغيروا (...) وهكذا، على أعتاب حرب جديدة، تبدو قلعة طروادة الباقية على حالها، بمثابة بقعة مثيرة لاستخلاص الدروس. كانت الحرب الطروادية هي الحرب العالمية الأولى، بين أوروبا وآسيا، والحكايا تقول إنّها لم تقترن بالبطولات وحدها، بل ايضاً بالأخطاء الكارثية، وسوء القيادة، وما أسماه الإغريق حماقة متهورة: الفخار القاتل والغطرسة المفرطة التي تحجب عقول الأقوياء».
وقبل سنة حين شهدت صالات العالم عروض فيلم «طروادة»، أحدث اقتباس هوليودي للملحمة الطروادية وأكثرها كلفة (175 مليون دولار) وفخامة وسطحية، لم تكن المصادفة الزمنية هي وحدها التي جعلت الكثيرين يربطون بين أغاممنون كما يظهر في في شريط ولفغانغ بيترسن، وأغاممنون/دونالد رمسفيلد كما يظهر في أشرطة البنتاغون! وفي قلب مهرجان كان الفرنسي اعتبر النجم براد بيت، الذي يؤدي دور آخيل في الشريط، أنّ هذه الحكاية التي تروي التعطش للدماء، وحصار الشعوب، وشهوة السلطة، وجشع الملوك... لا يمكن إلا أن تتوازى مباشرة وبوضوح مع ما يفعله زعماء أمريكا وبريطانيا في العراق. الممثلة البريطانية سافرون بوروز، التي تؤدي دور أندروماك، ذهبت أبعد حين أعتبرت أن الشقيقين الإغريقيين أغاممنون ومنيلاوس يذكّرانها بـ «الأخوّة القائمة حالياً بين بوش وبلير»...
وإذا كان من غير المدهش ان تتحوّل أمثولة طروادة إلى مصدر للإقتداء والتماهي عند الشعوب والجماعات المقهورة، أو تلك التي تعيش مأزق هوية من أيّ نوع، أو تبحث عن أصل تليد أفضل ممّا تنتسب إليه فعلياً؛ فإنّ من غير المدهش أن يحتاج القاهر بدوره إلى الأمثولة ذاتها! لقد سقطت طروادة على أيدي الإغريق، الذين كانوا المجموعة الأقوى شوكة في تلك الاحقاب؛ ثمّ فرّ الأحياء من أبناء طروادة إلى إيطاليا، بعد أن مرّوا بمملكة قرطاجة وعاثوا فيها فساداً، لتأسيس الإمبراطورية الرومانية التي لن تغرب عنها الشمس، بحيث انقلب المقهور إلى قاهر (كما تروي ملحمة فرجيل «الإنياذة»).
وعلى مرّ العصور احتاجت الزعامات الإمبريالية إلى ملاحم من طراز الحروب الطروادية. وحين وطأ الإسكندر المقدوني سهل طروادة، كانت أوّل خاطرة تعبر ذهنه هي التالية: من أين لي بهوميروس جديد يعطيني ما أعطى ذلك الشاعر الأعمى إلى آخيل! والقيصر أغسطس حصل بالقوّة على ملحمة خاصة تخلّد أمجاد روما، انتزعها بالمعنى الفعلي للكلمة من فرجيل، الشاعر المُعرِض عن المهمة والغارق في مسّ من الجنون. والعمل الأدبي المفضّل عند موسوليني كان مسرحية شكسبير «يوليوس قيصر»، لأسباب خاصة راسخة في قرارة نفس قيصر روما الحديث هذا، ولم يفلح حتى إزرا باوند في إقناعه بأنها غير تلك الأسباب الأدبية أو الفنّية أو حتى السياسية التي تميّز المسرحية...
كذلك نتذكر أنّ هاملت، ولكي يقدّم العرض المسرحي الأكثر تأثيراً في النفوس، يطلب من الممثلين أداء ذلك الجزء الفريد من «الإنياذة»، حين يروي إينياس للملكة ديدو (أو عليسا، إليسا، أليسار...) وقائع خراب مدينته طروادة واجتياحها وتدميرها. ومن هنا تبدأ أولى فصول مأساة ملكة قرطاجة، التي تقع في غرام إينياس، المنذور من جانبه لمهمة أكثر قداسة من الحبّ: الحرب، وبناء إمبراطورية روما.
وذات يوم، أواخر القرن التاسع عشر، حين تناقل العالم أخبار عثور عالِم الآثار الألماني هنريش شليمان على الموقع الإفتراضي لمدينة طروادة، غضب الناقد البريطاني جيكوب بريانت: «لعلّنا أيضاً سوف ننقّب ذات يوم بحثاً عن موقع اليوتوبيا، وعن موقع كوخ روبنسون كروزو في جزيرة كاربي»! ورغم أنّ المقارنة كانت ظالمة تماماً، وغير قائمة أصلاً، فإنّ بريانت نفسه سرعان ما انحنى أمام جبروت هذه الأمثولة الفريدة، طروادة، التي تكتب للمخيّلة تاريخاً ملحمياً خاصاً بها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي